سجيناً يسجنُ وطناً

                                         

                         مثنى عبيدة حسين

في شواهد التاريخ القديم والحديث عبرٌ ودروس ٌ مفيدة جداً لمن أراد أن يتعلم ويتعظ ويتدبر في أحوال الأمم والشعوب وحوادث الدهر وصروفه وتقلباته بالعباد والبلاد ، في تلك الصفحات نقرأ بتأمل كبير ونحن نحيى ظروف صعبة للغاية في عالمنا العربي وعلى امتداد خريطته الجغرافية التي تضم جبالاً وسهولاً ووديان أثرت بشكل أو بأخر في تكوين الشخصية للفرد والمجتمع بالإضافة إلى العوامل الأخرى .

برزت لدينا شخصيات محورية شكلت أيقونة لشعوب المنطقة خصوصاً أن تلك الشخصيات قادت دولاً ومجتمعات لسنين عديدة قد تبلغ نصف قرن أو أقل من ذلك ، كان خلف تلك الشخصيات أفكاراُ وأيدلوجيات ٍ وعسكر ومصالح تجارية واقتصادية نخبوية تعنى وتعتني بفئة محدودة من الشعب تاركة الغالبية في فقرٍ مدقع .
 
هؤلاء الطغاة الذين حكموا عالمنا العربي خلال المائة عاماً الماضية كانوا يتولون الأمور بانقلاب ٍ عسكري مدبر في جنح الظلام وخلف أبوابٍ موصدة بعضها ترفرفوا فوق جدرانها أعلام لدول وحكومات يدعي قادة الانقلاب معاداتها والسعي للثورة عليها مستغفلين الناس البسطاء الساعية نحو الحرية الحقيقية والكرامة الوطنية ، وما أن يستتب الأمر للانقلابيين الجدد حتى تراهم ينطلقون ومعهم بعض الرعاع نحو الشعب المغلوب على أمره وترى فرق الموت والإعدامات جاهزة وتحت الطلب مصادرة الأعمار والأحلام مستهدفة كل وطني محب لوطنه وترابه خالصاً دون حزبٍ معين ٍ أو فكرٍ مستوردٍ أو محلي الصنع ،
 
أناس وطنيون بالفطرة السليمة التي ولدوا فيها وعليها يعتقدون ويؤمنون بان الوطن هو ملك الجميع ومن حقهم أن يعملوا ويتحدثوا ويكتبوا ويناقشوا كل قضاياه المطروحة أو المستورة ، يعمل الطاغية وجيوش الظلام على خنق كل فكر ٍ معارض ٍ له متسلحاً بأجهزة أعلام ٍ تـُزيف الحقائق وتقلبها تـُصفق للقائد وتمدحه مستلهمة من كل التجارب السابقة في التعظيم والتفخيم  للحاكم السابق أو المستلة من أوراق التاريخ القديم يسندها في ذلك وعاظ السلاطين الذين يـُحللون الحرام ويُحرمون الحلال ما دام ذلك يرضي ولي الأمر الهمام  .
 
كل ذلك وغيره الكثير من الفنون والبدع الدكتاتورية من الملابس المذهبة والنياشين والأوسمة والرتب العسكرية التي لم يعرف القائد كيف يرتديها والتي تظهره للعالم مثل أي مهرج قد طغت الألوان الزاهية على وجهه الكالح وأصبح ينظر مزهواً في المرآة وهو يرتدي نظارته السوداء والعصا بيديه متصوراً نفسه وأحداً من كبار القادة الذين مروا في التاريخ وكأنه يمتطي صهوة حصانه ويدك الحصون ويحرر الثغور ويكتب النصر على جدران القصور .
 
أو ترى هذا الطاغية قد لبس لباس التقوى والدين بعد سكر وعربدة ومجون ونراه يتقدم الصفوف لصلاة العيد التي لا يعرف منها السجود والركوع وحراسه فوق رأسه وعلى المآذن والسطوح ، أما إذا حمل طاغيتنا المعول والفأس ودار بين الحقول والمعامل والمصانع فإن ذلك هو الصناعي الأوحد والمهندس المعماري الأبرز .
 
كل ذلك والوطن يئن وقد أمسى خراباً وهيكلاً كالأطلال ممتلئ بالقبور ....
كل ذلك والوطن قد تم تكبيله بالقيد والحديد حتى بات سجناً كبيراً يضمنا بين ترابه قد لا يرى البعض قضبانه ولكنها خيوطاً وحبالاً تشتدُ حول رقابنا لكي تزهق أرواحنا وحينما نخرجُ بالشوارع مطالبين بالحرية يتم قصف البيوت والشوارع بالصواريخ والطائرات وترى الدبابات قد سدت المنافذ والمدفعية والجيوش النظامية وغير النظامية ملأت الطرقات بالجثث وانتهكت كل المحرمات وباتت أجساد نساء الوطن خير وسيلة للتمتع والتلذذ متناسين هؤلاء القتلة وقائدهم المجرم أن هذه الأعراض طالما تغنوا بالدفاع عنها وأنهم يحكموننا لكي يدافعوا عنا وعن الوطن بكل ما فيه ،الوطن الذي تم تدميره من قبلهم وبكل الوسائل الحربية والمادية حتى أن الفساد والرشوة فيه طالت كل شيء من الحصول على طعام ٍ ودواء ٍ إلى الذهاب للحج والعمرة برشوة وذل ٍ وامتهان ٍ.
 
لسبب ٍ أو لأخر تتغير قواعد اللعبة السياسية والمصالح الحيوية نتيجة للأخطاء الإستراتيجية أو العنترية التي جُبل عليها قادتنا العظام ، تتحرك الأساطيل والبوارج قادمة من أعالي البحار والقواعد أو قرارات دولية تطالب هذا الدكتاتور أن يمتثل لها بعدما أهلك الحرث والنسل وبات وجوده يشكل تهديداً لوطنه وأهله والمجتمع الدولي برمته وبعد أن تم الاستفادة من خدماته بشكل كبير مما يستدعي إحالته على التقاعد ، هنا يتخذ الطاغية من شعبه المسكين خير دروع ٍ بشرية لكي لا يتم القبض عليه أو يُجبر على  مغادرة السلطة التي كأنه قد تربى عليها وهي له ملك صرف قد ورثها من أجداده العظام ...
 
نعم هذا السجين داخل أسوار الوطن يسجن الوطن ولا يرضى أن يغادر كرسيه الذي كان له حاضناً و وطنا...
 
بعد طول عناء وتضحيات جسام بالأرواح والممتلكات يُظفر الشعب بحريته أو هكذا يُخيل إليه حتى أذا تم إلقاء القبض على الطاغية ليمكث في السجون التي بناها يجد أتباعه قد فرشوا له السجادة الحمراء ونصبوا له أحدث الأجهزة الكهربائية والطبية ويمارس هواياته الرياضية ويطالع الصحف ويعطي التوجيهات لتلاميذه الوحوش الذين تربوا على يديه طوال عقود وجاء اليوم الذي يردون الدين الذي في أعناقهم لمن علمهم كيفية التأمر والقتل والظلم والرشوة وكل الموبقات المحرمة شرعاً وعرفاً وقانوناً ، ترى هؤلاء الأتباع يقطعون الطريق على أي تجربة وليدة يتمناها ويعمل عليها الشعب بكل صبر وحلم وخلق رفيع وكل الفضائل التي لم يتعود عليها من تلطخت أياديهم بالدماء والأعراض والسرقات ..
 
هنا يشحذون همتهم ويمتطون صهوة دباباتهم ويقوموا بحركتهم الانقلابية المجرمة لكي يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء ويعودا إلى سجن الشعب والوطن ليكون هذا الوطن السجن الذي يضمهم مع الطاغية السجان ...
 
 تجربة الدول العربية التي قامت بثورات مباركة دفعت دماء زكية من اجل الحرية خير مثال ... الأول خرج إلى المنفى لكي يرتاح ويتعبد ويحرك أتباعه لكي يعيثوا فساداً وخراب  والثاني وبعد محاكمة هزلية يخرج بالطائرة المروحية وقد سلم الوطن الضحية لدكتاتور أخر والثالث أخرجوه بوثيقة تصالحيه حفاظاً على بلد ٍهدمت فيه كل السدود والأخر قـُتل شر قتلة بعدما دمر البلاد وأخرهم وليس أخيرهم أحال وطنه إلى خراب عاد وثمود وأصبح أهله مشردين بالملايين خلف الحدود ...
 
كل هؤلاء الطغاة وغيرهم هم السجناء الذين سجنوا أوطانهم ومواطنيهم فإما وطن ٌ يحكمه طاغية وإما وطن ٍفيه بقايا بشر وأطلال ظاهرة كانت بالأمس مدن شاهدة شاخصة...
 
أما السجين الذي حرر وطناً فلن أكتب عنه الكثير وماذا أكتب وقد عمت أخباره وصفحات نضاله العالم كله ماذا أقول عن رجلٍ توهم سجانوه بأنهم يسجنون رجلٍ واحد ٍ وما علموا أنهم قد سجنوا أنفسهم خلف القضبان وقد نبذهم العالم بآسره ...
 
ماذا أقول عن سجين ٍ حرر أمة من الخوف وإلاذلال والعبودية وجعلها تنطلق في رحاب الحرية مقدمة التضحيات الجسام في سبيل نيل كرامتها وسموها الإنساني ..
 
كان هذا السجين ملهماً لشعبه وهو خلف القضبان أنه ...
 
نلسون مانديلا ذلك الزعيم التاريخي الكبير المثال والأسطورة الرائعة في تحدي الطغاة العنصريون دون كلل أو تعب ٍ أو خوفٍ .. مانديلا الذي فاوضوه الطغاة من موقف الخوف والضعف وفاوضهم وهو السجين الحر من موقف القوة والاقتدار والسمو .. فاوضوه على أن يتحرروا من سجنه الذي وضعهم فيه وهو سجن الضمير والاحتقار الذي يجدونه أينما ذهبوا ورحلوا كانوا هم السجناء وكان وهو المكبل الحر الكريم...
 
يوم خرج مانديلا بعد أكثر من ربع قرن ٍ قضاها خلف القضبان ..
 
خرج مرفوع الرأس عزيز النفس كريم الخلق والمروءة الوطنية التي قدمها عنواناً وهدفاً كريماً لم يسعى للثأر والقتل والخطف والظلم بل فتح ذراعيه للجميع بما فيهم من سجنوه لأنه أدرك أن الوطن لا يبنى بالانتقام والقهر والذل لا يبنى بالإقصاء والتهميش والظلم لا يبنى بتحريف التاريخ واستحضار عوامل التفرقة والبغض بين أبناء الوطن الواحد ..
 
سار مانديلا ومعه الجموع نحو الغد المشرق لوطن ٍ أسمه جنوب أفريقيا الذي أصبح خير مثال على التعايش السلمي بدون مواثيق وأغلظ الأيمان التي سرعان ما يتناساها من أقسم بها ..
 
 سارت الرئاسة نحو مانديلا وهي واثقة به بعدما سارت جموع الشعب إلى صناديق الاقتراع لكي يكون السجين المحرر للبلاد وليس السجان الذي يسجنها في دورة العنف والقتل من جديد ..
 
مانديلا الرجل الحكيم الذي عرف كيف يحول فترة سجنه الطويلة إلى تجربة شخصية أستلهم منها العبرة ووضوح الرؤيا وصواب المنهج ..
 
 يوم أكمل مشواره وأطمئن على المسيرة ذهب لكي يرتاح وعيونه يملأه الفخر بما حققه شعبه كله من رفعة ونجاح وازدهار ذهب دون أن يغير الدستور لكي يبقى الرئيس للأبد ..
 
لأنه يعلم أن هذا أقصر طريقا للديكتاتورية بصيغة ديمقراطية..
 
 ذهب مانديلا مثلما ذهب الرؤساء الخالدون في ضمير شعوبهم وأهلهم الذين يدعون ويصلون لأجل هؤلاء القادة الكرام الذين حرروهم وحرروا الأوطان دون بحور الدماء..
 
شتان ما بين الطغاة المسجونين داخل قصورهم وأرواحهم المريضة التي أوحت لهم بجعل أوطانهم سجناً كبيراً
 
وما بين سجيناً حرر وطناً وجعله حراً كريماً بين الأمم...
 
للطغاة الجدد نقول لهم أن سجونكم هي أوهن من خيط العنكبوت وسيأتي اليوم الذي يخرج فيه الأحرار ليعيدوا للوطن البهاء والسعادة والنجاح...
 
أيها الطغاة لن يموت الحق بموت طالبيه لأن الحق أجل وأعظم من قاتليه
 
لنرى لمن الغلبة في أخر المشوار  
 
هل للسجين المسجون داخل أسوار طغيانه ليسجن شعباً ووطناً ؟؟؟
 
آم للأحرار والشعب المكبل والذي سينطلق ليحرر وطناً ؟؟؟
 
مثنى عبيدة حسين
27 / 8 / 2013 م
           

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع