في غوطة الشام أرتقى الشهداء وسقط العالم كله

                                   

                     د. محمد عياش الكبيسي

في يوم الأربعاء الماضي 21/8/2013 كانت المجزرة، وهذا التاريخ ينبغي أن يحفر في الذاكرة الإنسانية إن كانت هذه الذاكرة تتحمل حدثا بهذا الحجم من البشاعة والفظاعة.

قرابة ألف وأربعمائة من المدنيين وغالبهم من الأطفال يموتون خنقا بغاز السارين الذي أطلقته منصات الجيش السوري ومن على جبل قاسيون. الجريمة لها أكثر من بعد وأكثر من وجه، فهذا الغاز يتأثر به الأطفال وكبار السن أكثر من غيرهم، وهذا هو المعروف طبيا، وهذا يعني أن اليد التي ضغطت على زر الإطلاق كانت عارفة بأن الضحايا سيكونون من هؤلاء الأبرياء والضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة وليس لهم علاقة بهذا الطرف أو ذاك! البعد الآخر للجريمة أن تنطلق هذه القذائف من دمشق نفسها ومن جبل قاسيون بالذات، ذلك الذي يمثل رمزا وجدانيا وعاطفيا لأهل الشام عموما ولكل عربي زار الشام وعرف موقع قاسيون على أرضها وفي قلوب أهلها الذين كانوا يتغنون (دمشق نسكنها وهي تسكننا وقاسيون يحضننا).
المال الذي دفع لشراء هذا السلاح هو مال مقتطع من قوت الشعب ومن حليب هؤلاء الأطفال، وكان الناس يتحملون الجوع وشظف العيش من أجل أن يكون لهم جيش يحميهم ويدفع عنهم عاديات الزمن، خاصة أن دمشق تقع في مرمى المدفعية الإسرائيلية! فكيف انقلب هذا السلاح أشد فتكا عليهم من السلاح الإسرائيلي نفسه؟ إنها بحق جريمة مركبة من القتل والظلم والغدر والسرقة والكذب والخسة والدناءة واجمعوا إليها ما شئتم من مفردات الشر والخطيئة، وقولوا فيها كل السباب والشتائم شعرا ونثرا وخطابات وبيانات فلن توفوها حقها.

هذه الجريمة ليست الأولى في سجل هذا النظام، فقد كان جيش الأسد الأب وسرايا شقيقه رفعت في ثمانينيات القرن الماضي قد أحالت حماة إلى أكوام من الركام والحطام بمساجدها وكنائسها ومدارسها وأسواقها، وقد وثق كتاب (حماة مأساة العصر) تلك الجريمة بالأرقام والصور، ثم بعد هذه الجريمة بسنوات قليلة قام حافظ الأسد بإهداء صواريخ سكود روسية الصنع إلى الجيش الإيراني ليضرب بها أهلنا في بغداد، حيث لم تكن إيران تملك مثل هذه الصواريخ أيام حربها مع العراق.

وإذا كان العالم قد نسي جرائم الثمانينيات فإن ما يحصل على الأرض السورية منذ سنتين كاف لتكوين حالة من التنبؤ بطبيعة هذا النظام واستعداداته النفسية لارتكاب مثل هذه الفظائع وأكثر، وتجاوز كل الخطوط الحمراء والسوداء. لقد كان الواجب الأخلاقي على كل هذا العالم أن يعمل بجد لتوفير الحماية اللازمة لهؤلاء الأطفال ولذويهم المدنيين والأبرياء قبل قوع الكارثة، لكن المؤشرات كلها تشير إلى نوع من التواطؤ المريب، فمن الذي يصدّق أن الغرب لا يستطيع أن يمارس أي ضغط مؤثر على هذا النظام؟ ومن الذي يصدّق أن الأميركان لا يستطيعون أن يمنعوا ربيبهم المالكي من إرسال مليشياته وأمواله لمساندة بشار وشبيحته؟ ومن الذي يصدّق بأن العالم كله لم يستطع بالفعل أن يمنع حزب الله من اختراقه للحدود اللبنانية والسورية ليكون طرفا فاعلا ومؤثرا في هذه الحرب؟ ثم إذا افترضنا أن المجتمع الدولي قد أصابته الغفلة أو البلادة فكيف نفسر هذا السكوت وردود الفعل الباردة حتى بعد وقوع الجريمة؟ إنني لا أقول: إن هذه وصمة عار في جبين الإنسانية، بل هو لحاف واسع من العار يتسع ويتمدد ليغطي هذا الجسد البشري الممتد في كل القارات والذي تعرى عن كل القيم والمفاهيم الإنسانية.
نعم لقد كان الامتحان يسيرا ومبسطا وواضحا ولكن السقوط كان كبيرا ومروعا، فالمسألة ليس فيها لبس ولا غموض، وما كان أمام هذا العالم إلا أن ينحاز للحق والطفولة والبراءة ضد الهمجية والوحشية والشذوذ. إن العرف السياسي العالمي الذي اقتنع أولا بمقولة (فصل الدين عن السياسة) ثم بمقولة (فصل الأخلاق عن السياسة) حتى صار الحديث عن البراءة والرحمة والوفاء والصدق عند السياسيين نوعا من التخلف والبلاهة إلا إذا كان وسيلة للمكر والدجل السياسي، إن هذا العرف الطاغي لا يمثل اليوم إلا انتكاسة خطيرة في السلوك الإنساني والذي سيحوّل الأرض كلها إلى غابة موحشة يتصارع فيها الناس بمنطق الوحوش والكواسر ولكن بأدوات أشد فتكا وتدميرا.
إن العقلاء والمصلحين في هذا العالم مدعوون اليوم إلى إعلان التحالف الإنساني الذي يوقف هذا الانحدار ويعيد شيئا من القيم الإنسانية التي يمكن اعتمادها في التواصل الإنساني ولتخفيف الأزمات الناشبة عن المنافسات والخصومات الدولية والمجتمعية، بعد أن تبين أن المؤسسات القائمة كمجلس الأمن والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية قد تحولت إلى مخالب إضافية في هذا الصراع.
وإذا كانت القوى الفاعلة في هذا العالم قد آثرت الحسابات المادية الخاصة وفق مقياس هابط من الشح والأنانية المفرطة، فما الذي يمنع هذه الشعوب التي تسدّ عين الشمس من إندونيسيا وماليزيا إلى الهند وباكستان وصولا إلى مغربنا العربي في الجزائر والمغرب ونواكشوط ممن ينتسبون إلى عقيدة واحدة وكعبة واحدة وتاريخ واحد من أن يخرجوا للتعبير فقط عن غضبهم وعدم ارتياحهم على الأقل لهذه الجريمة التي ترتكب في وضح النهار بحق الأطفال والأبرياء؟
إنه من الواضح أننا لم نعد نعيش شعور الأمة الواحدة، وأن معاهدة سايكس بيكو لم تكن مجرد حدود سياسية وإدارية، بل لقد قسمتنا ثقافيا وشعوريا واجتماعيا، وهذا وحده بحاجة إلى مراجعة جادة وعلى كل المستويات قبل أن نجد أنفسنا أغصانا هزيلة ومكسرة في هذه الغابة الكبيرة.

علينا هنا ألا ننسى الموقف الإيراني والذي لم يكتف بالسكوت والتغافل كما فعل الآخرون بل راح يدافع عن النظام ويمده بكل أسباب البقاء والاستمرار حتى بعد هذه الجريمة، وهذا الموقف يعني الكثير بالنسبة للمنطقة، حيث إن إيران لا تخفي طموحها ولا تتستر على أطماعها، وإذا كانت اليوم تبرر لبشار كل جرائمه فإنها ترسل لنا أكثر من رسالة مفادها أن كل دولة أو كيان يقف بوجه المشروع الإيراني فمصيره لن يكون بأفضل من مصير تلك الضحايا البريئة، خاصة مع هذا الموقف الباهت من المجتمع الدولي. لقد اتضح لكل مراقب منصف أن إيران لا تتعامل معنا كمسلمين ولا حتى كبشر نستحق العيش على هذه الأرض كما يعيش الآخرون، ولذلك نرى حرق المساجد في العراق وسوريا ثم في لبنان يسير بوتيرة متصاعدة مع تصاعد الخطاب الطائفي الذي تغذيه إيران عبر حلفائها أو أذنابها في المنطقة، وتحت هذا العنوان ينبغي أن نفهم ونقوّم الموقف الإيراني. إن حالة الشلل الرسمي والشعبي في هذه الأمة لن تجعل الآخرين أكثر تسامحا معها أو شفقة عليها، إن ما جرى في الغوطة هو الصورة المصغرة التي من الممكن أن تتمدد أو تتكرر لتشمل كل مدينة أو قرية في طول أمتنا وعرضها ولن أستثني من هذا حتى الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

630 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع