د. فاضل البدراني
الأزياء العراقية في ذاكرتي
عندما كنت طالبا دارسا لعلوم الإعلام والاتصال بجامعة بغداد، كانت مخيلتي وذاكرتي غير ممتلئة وشهيتي للمعرفة بالأشياء العامة مفتوحة وتواقة لمزيد من الاكتشاف، وذات يوم تزودت تلك الذاكرة الشبابية بتفاصيل مبهرة في واقعة مميزة بزيارة تحققت لدار الأزياء العراقية التي تحولت منذ سنوات الى أسمها الجديد" الدار العراقية للأزياء"
هذه الدار التي اشتملت على مختلف الفنون والإبداعات جسدت مختلف الثقافات العراقية عبر حقب زمنية عميقة القدم، تستأهل أن تحتل تسمية، بيت التراث والتاريخ والحضارات العراقية، وهي عابرة الى الثقافات العالمية إذا ما تابعنا شمولها على الأزياء العراقية الفلكلورية التي تصور تاريخ العراق من خلال أزياء الشعوب والأمم التي سكنت أرض العراق عبر مختلف الازمان، وقد ربطت هذه الدار الماضي بالحاضر مع مواكبتها لعرض آخر صيحات الأزياء المحلية والعالمية عبر تاريخ ( الدار) التي أسست عام 1970، ولو استعرضنا مسيرتها الفلكلورية والحرفية العالية الدقة، فأنها تجعلنا نحاكي جمالا وطرازا حرفيا بمهارة عالية، فلم تبق دولة من بلدان الثقافة العالمية الا وكان للأزياء العراقية مشاركة مبهرة في فعالياتها التي تستحضر عظمة بلاد الرافدين، هذه المشاركات من الأوبريت أو العروض والتصميم والطراز والاكسسوارات، تستحضر الماضي بكل عظمته، تحاكي ذوقية المتفرج بطعم سومري أشوري بابلي وغير ذلك من تاريخ بلاد وادي الرافدين.
قد يكون لكل مؤسسة ومعلم حضاري، شخص تتوج جهوده وإدارته في بلوغ مرتبة ترتقي بها الى مستويات من الإنجازات المرموقة، وحتما المكاسب لن تتحقق الا عبر بوابة الوعي بالإدارة والذوق في التعامل والتهذيب في الأداء والسلوك، ودار الأزياء ومنذ بداية تأسيسها قبل 50 عاما كانت على مدى أكثر من نصف عمرها تحت إدارة السيدة فريال الكليدار، المدير العام المؤسس لها، ابتدأ مشوار هذه السيدة الكبيرة في العام 1970 وانتهى في العام 2005، السؤال هل نجحت وحققت إنجازات وهل كانت على قدر من المسؤولية؟ يكفي تلخيص كل الإجابات المفتوحة والتي ليس لها نهايات، أن السيدة الكليدار كانت رمز من رموز الثقافة والفن والإبداع العراقي والعالمي، كانت على قدر من الابداع النوعي الذي يميزها عن المتميزين، هي إمرأة عراقية صاحبة لمسة ذوق، انطلقت منذ البداية بخطوات صحيحة فبلغت مبلغا عاليا لا يوازيه سوى ارتفاع الطائرات وهي تحمل الأزياء العراقية الفلكلورية للمشاركة في مختلف الفعاليات والمهرجانات والعروض الثقافية في عواصم الثقافة بالعالم، ويكاد ألا يتحدث مثقف ومهتم بالأزياء العراقية ألا وأفرد حديثا ممتعا عن انجازات الأيقونة الرائدة فريال الكليدار.
وعود على بدء، صورة الدار العراقية للأزياء التي ارتسمت في مخيلتي وانا طالب بجامعة بغداد، بقيت راسخة وتنمو دوما، والهيبة والتأثير في الشكل والمضمون لهذه الدار في نفسي لم يفارقاني، وربما سحرها المؤثر منحني مسؤولية، أن أحسن تنسيق ملابسي وان أنظر لكشف ذوق الآخر، وعبر مراحل حياتي التي تنوعت بين الدراسة وممارسة الصحافة والإعلام، والتدريس كأستاذ لعلوم الاتصال والإعلام في الجامعات العراقية، كنت أضع لهذه المؤسسة كل تقدير وحضور، بل وأحسب لها ألف حساب، حتى جاءت اللحظة التي قدمت فيها محاضرات في الاتكيت والبروتوكول على موظفيها بسنوات ماضية.
وبينما تتسع ذاكرتي معرفة بالأشياء مثل أي إنسان يقرأ ويكتب ويتابع ليبقى تلميذا مواكبا في الحياة، تدور دائرة الدنيا الواسعة، وتلعب الصدف لعبتها فيها، إذ يصدر كتاب من وزارة الثقافة والسياحة والآثار التي أشغل فيها منصب الوكيل، بأن أكون مدير عام الدار العراقية للأزياء من موقع أدنى، وعند دخولي في أول يوم ممارسة مسؤوليتي بمقرها الكائن في حي زيونة الراقي بالعاصمة بغداد أنحنيت لها تقديرا واعتزازا وإجلالا لتلك الهيبة والحضور الساحر في نفسي، أبحرت لدقائق في جنباتها وبنايتها المميزة بطراز لا يشبهه طراز، سلمت على الجمال كله، وفي مكتب المدير العام، لم أجد صورة فريال الكليدار، لكني سلمت على حضورها وعلى لمساتها، أخذت جولة في أقسامها من العروض والإنتاج والإكسسوارات والمتحف وقاعة الواسطي، وقفت وسط المتحف ورددت السلام على السومريين والآشوريين والأكديين والبابليين وعلى تاريخ العراق، وعلى كل عمالقة العراق، استعرضت بدلات وتصميم وأزياء لحقب تاريخية عدة، جعلتني أتهيب كثيرا.
وقبل أن أجلس على كرسي الإدارة حدثني الهدوء فإستجبت له صمتا وتأملا، ورددت مع نفسي " الصمت في حرم الجمال جمال" ثم رفعت عيناي على جدار أنيق وصالة واسعة ولوحات تعكس عبق جمال الفلكلور العراقي، كل الجماد كان يحدثني بلمسة الفن والذوق، وبصوت الكليدار، قلت عذرا سيدتي فريال، أسمحي لي بالجلوس خادما لهذا الصرح العظيم، لكل هذا الفن والذوق والجمال، ولتلك المسيرة المعطاء لأخدم ذلك التراث والتاريخ الذي يمثل انجازاتك وانجازات عمالقة من فنانات وفنانين، وعارضات وعارضين ومشاهير من المصممين العراقيين.
التقيت نخبة من موظفي هذه الدار، ووجدت فيهم الأمل للمضي بمسيرة عطاء تخدم العراق وحركة الفن، وتحافظ على روح الجمال، لكني وجدتهم بحاجة لمزيد من الدعم والعطاء والمساندة، ويقيني أنهم على خطى الكليدار وزملائها مبدعون.
كاتب وباحث إعلامي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1051 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع