الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
حمّام العليل وحديث الذكريات: الجزء الثالث
هناك مواقع تراثية وأثرية جعلت من مدينة حمّام العليل وجهةً سياحيةً، فهي تحتوي على بعض المعالم الأثرية مثل (تل السبت) بسطحه الفخاري والذي كانت تُنسب إليه خرافة شعبية تفيد بأن الصعود على هذا التل يُعجّل من زواج الفتيات.
ومن ناحية أخرى فحمّام العليل هي وجهة علاجية يرتادها العديد من الأفراد، حيث أن مياه الينابيع المعدنية في هذه المنطقة تُسهم في علاج الأمراض الجلدية والتقرحات إلى جانب دورها في علاج الأمراض الباطنية؛ نظرًا لمحتواها من المعادن المذابة إضافة إلى الكبريت التي تدخل جميعها في تحضير الأدوية الكيميائية التي تعالج بعض الأمراض المزمنة كالروماتزم وكذلك الجرب والأكزيما والحساسية.
لقد كان المصابون بالروماتيزم يقومون بدفن انفسهم في رمال النهر السوداء ظهرا في الصيف ومن ثم الاستحمام بالحمام. أما النساء فكانت تقوم بفحص الذهب المُقَدَّم من العريس وذلك بتغطيسه بماء الحمام للتأكد فيما إذا كان أصيل أم مغشوش، وذلك لاحتواء الماء على الكبريت.
وكانت النساء عند الخطوبة يأخذن خطيبة الابن ويقضين (ليلة الحنة) في الحمام النسائي، فتعلو الزغاريد المدوية عندما تقوم النساء بوضع الحنّة للعروس.
تل السبت:
من المواقع المهمة في ناحية حمّام العليل (تل السبت) القريب من نهر دجلة والذي كان في السابق القديم أخضر اللون تزهو عليه الورود الجميلة وتزوره العوائل العراقية من كل صوب. لقد فقد (تل السبت) بريقه في الوقت الحاضر وقلّ خضاره وبدأ يظهر عليه التصحّر.
لقد كانت النساء المُسنّات يعتقدن أن الصعود فوق (تل السبت) يمكن أن يجلب الحظ للفتيات غير المتزوجات، ويجعلهن يتزوجن بأسرع مما يتوقعن.
وكانت العوائل تقصد حمّام العليل أيام الخميس والجمعة والسبت من كل أسبوع، وبعد أن يتناولون طعامهم ويستحِمّوا في عيون المياه المعدنية تبدأ رحلتهم بالصعود إلى تل السبت نهار يوم السبت إذا كانت العائلة تنشد تزويج بنت لها قد فاتها قطار الزواج.
وكانت البنات الغير متزوجات تتمنى في تل السبت امنياتهم وهم يرددون: "يا تل السبت هذه السنة جيناك بنات؛ السنة الجاية إن شاء الله انزورك ونحنا امزوجات". وهذه الأمنية جرت العادة عليها عند البنات في السابق وكانوا يرددونها لعل أن تأتي قسمتهن في الزواج.
كما كانت النسوة يحملن التعاويذ المصنوع محليا من القش المُجفف والمصبوغة بألوان زاهية ويتفنن أهل المدينة بصنعها وتلوينها، يدعون الله تعالى أن يحقق آمالهم ويطرد الشر عنهم.
من الأغاني الشعبية التي كانت ترددها النسوة عند الصعود على تل السبت:
اطلع على تل السبت واشلح عباتي وانفلت
وفي الأماسي كانت تُعقد المجالس العائلية على حافة الشط عامرة بالشاي والكليجة، وكان هناك مزرعة قريبة لخضار العوين (اللوبيا)، وكانت النسوة تُغني:
اقعد على أرض العويّن ... وانصب الجاي عل سافين
وكلمن اتمر أقلها أتفضلي
لقد قامت فضائية (الجزيرة) بإجراء تحقيق صحفي عن حمّام العليل سنة 2019 عنوانه (حمّام العليل بالموصل.. يداوي الناس وهو عليل) سلّطت فيه الأضواء على واقع حمّام العليل القائم، حيث جدران الحمام وسقوفه التي غيب ملامحها السواد، يحيلها إلى وضع أشبه بالحِداد على منتجع سياحي مهم كان يمكن أن يدر آلاف الدولارات على خزينة الدولة.
الصورة التي قد يتخيلها القارئ عن منتجع سياحي طبي بهذه الأهمية مغايرة للواقع، فأحواض المياه المعدنية والينابيع مهترئة ومتآكلة ويحدوها الإهمال، والأنابيب التي تغذيها أتلفها الصدأ منذ زمن.
أما الينابيع الطبيعية للمياه فلم تُجر عليها أي أعمال صيانة، ما أحال وضعها إلى غير تلك الصورة البهية التي كانت عليها قبل عقود.
كم نتمنى أن تنال حمّام العليل الاهتمام من قبل وزارة (الثقافة والسياحة والآثار) لتعود لزهوها ليقصدها من يبغي السياحة العلاجية بمياهها المعدنية الساخنة وشاطئها الجميل وبما يعود بالفائدة للجميع، قال الشاعر:
غريبٌ ولا خلٌ يداوي غربتي ... ومالي في هذي الديارِ خليلُ
يأتون حمّام العليل ليبرئوا ... وإني بحمّام العليل عليلُ
كلية الزراعة والغابات في حمام العليل:
لكليات الزراعة أهمية خاصة في بلد زراعي بالأساس كالعراق، حيث تمثل الزراعة إحدى أهم ركاز الأمن الغذائي للبلد، وتُعدّ كلية الزراعة قناة بالغة الأهمية تربط الجامعة بالمجتمع من خلال قنوات كثيرة مثل إقامة حقول نموذجية لتربية الحيوانات (الدجاج والأبقار والأغنام) وتقديم المشورات العلمية واقامة الدورات التثقيفية. ويمكن توظيف كلية الزراعة بالشكل الصحيح واستغلال كوادرها العلمية والخريجين منها لسد احتياجات البلد من الكثير من المنتجات الزراعية والحيوانية مما يوفر فرص عمل عديدة فضلا عن الحفاظ على العملة الصعبة داخل البلد.
تشكل الأراضي الزراعية النسبة الأكبر من مساحة منطقة حمام العليل، حيث يُزرع فيها على جانبي نهر دجلة أصناف مختلفة من الفواكه والخضروات.
في صيف العام 1964 تأسست كلية الزراعة والغابات في حمّام العليل في جامعة الموصل بعد أن تقرر نقل (معهد الغابات العالي) في أبي غريب/ بغداد إلى المجموعة الثقافية في الموصل وتطويره إلى كلية لتدريس العلوم الزراعية الأخرى، فضلاً عن علوم الغابات.
لقد كانت الكلية تابعة لجامعة بغداد منذ تأسيسها حتى الأول من نيسان من عام 1967 يوم تأسيس جامعة الموصل، فأصبحت إحدى كلياتها حيث شُكلت في العام 1964 دائرة لنائب رئيس جامعة بغداد في الموصل، واُسست في العام ذاته كلية الزراعة والغابات.
لقد بدأت الدراسة في الكلية مؤقتاً ضمن مباني كليات الجامعة الأخرى، وقد ضمت ثلاث تخصصات في العلوم الزراعية هي: الغابات، والإنتاج النباتي والإنتاج الحيواني.
وفي العام 1967 نُقلت الكلية من موقعها المؤقت في موقع جامعة الموصل إلى ناحية حمام العليل، حيث تم بناء الأقسام الرئيسة والمختبرات وتأسيس الحقول التجريبية الغاباتية والنباتية والحيوانية، وتطورت الكلية وأصبحت تتضمن عشرة أقسام علمية.
وعلى الرغم من أن اختيار منطقة حمام العليا كموقع لكلية الزراعة والغابات كان قرارا مستندا إلى مبررات منطقية، إلا أن هذا الموقع لم ينجح على أرض الواقع لأنه لم يكن مدروسا بما فيه الكفاية، وقد ترك آثارا سلبية عديدة على الكلية.
وحسب ما سمعتُ من الكثير من الأصدقاء القدامى إن من الأخطاء الصريحة التي اُرتكبت بحق كلية الزراعة والغابات كان في اختيار موقعها في منطقة حمام العليل. فعندما أرادت الجامعة اختيار موقع لكلية الزراعة والغابات كان أمامهم خياران: منطقة حمّام العليل التي تبعد حوالي 25 كم جنوب مدينة الموصل، أو منطقة الرشيدية الملاصقة للحدود الشمالية لمدينة الموصل، ثم كان القرار النهائي لصالح حمّام العليل. وقد قيل في وقتها (إن الكلية ستُغير واقع المنطقة)، ولكن الذي حدث على أرض الواقع (أن المنطقة غيّرت واقع الكلية).
ومن التحديات التي واجهت جامعة الموصل أن العديد من الكوادر العلمية المتقدمة تسربت من كلية الزراعة والغابات إلى كليات أخرى، مثل كلية العلوم وكلية التربية وكلية الطب البيطري، وذلك بسبب موقع كلية الزراعة والغابات البعيد نسبيا عن مركز جامعة الموصل.
لقد كان من عواقب ذلك التسرب، كما كنا نسمع من مسؤولين كبار في الجامعة: خسارة كلية الزراعة والغابات لتلك الكوادر العلمية من ناحية، وإرباك للكليات المنقولة إليها تلك الكوادر لعدم تجانس التخصصات العلمية للمنقولين مع تلك الكليات!
وبعد أحداث عام 2003 اُجهز على كلية الزراعة والغابات بالكامل في حمّام العليل بعد ما اصابها من سلب ونهب وأضرار بالغة، فنُقلت الكلية إلى مركز جامعة الموصل والقصور الرئاسية في مواقع متباعدة ضمن الحرم الجامعي، وفقدت هذه الكلية المهمة الكثير من بريقها.
https://www.youtube.com/watch?v=wvMudar4isU&t=34s
904 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع