المضحِكة ـــ قصة قصيرة

بقلم / فيصل عبدالحسن

المضحِكة ـــ قصة قصيرة

*فازت قصة "المضحِكة" بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الأقلام سنة 1993 ونشرت في أحد أعداد مجلة الأقلام

* ضمت مجموعتي القصصية " أعمامي اللصوص" قصة المضحكة ونشرت المجموعة في القاهرة عن وكالة الصحافة المصرية سنة 2001 بطبعتين.


المضحِكة...

لم يعرف أحد من صاحب فكرة هذا النوع الجديد من المقاهي، وقد بدا لهم صاحب مقهى الفكاهة أفاقاً أو من الذين ينتظرون الفرصة السانحة أو من يخلقونها من اللاشيء، إذا لم تأت ولا يكفيه خلقها، بل يطورها ويجعلها تنطق بلغات عديدة، وتُقرأ وتُكتب في فترة قصيرة!! في البداية علق صاحب هذه الفكرة إعلاناً كبيراً فوق واجهة المقهى: "مقهى الفكاهة"!!.
وكتب إلى الأسفل من ذلك بحروف أدق: متعوا أنفسكم لمدة نصف ساعة بالضحك المتواصل!!
من يمرُّ أمام المقهى ويقرأ الإعلان يبتسم أول الأمر ثم يقهقه بعد ذلك ضاحكاً، فالضحك كما هو معروف عدوى تنتقل من الآخرين إلى غيرهم، ويحاول آخر أن ينظر من خلال زجاج واجهة المقهى والفضول يسيطر عليه باحثاً عن ضحكة هاربة بين المقاعد وعتمة المكان، وأضاف صاحب المقهى فيما بعد تحت الإعلان بخط عريض أحمر: "نحن لا نبيع الوهم .. جرب المضحِكة مرة واحدة، وستأتي بعد ذلك إلى مقهانا كل يوم !!..".
وفي فقرة أخرى مضافة: "عالج أمراضك المزمنة بالضحك المتواصل!!".
وللأسفل من ذلك قائمة طويلة بالأمراض التي تعالجها بجدارة "المضحِكة" بعد كل دورة ضحك يخرج الرجال والنساء والأطفال ووجوههم محمرة من شدة الضحك، وما تزال الضحكات أو بقاياها ترفرف فوق شفاههم، فيثيرون في الشارع الذي يستقبلهم بهجة لاحدَّ لها قبل أن يتفرقوا في الفروع والأزقة، وهم يطلقون ضحكات مفردة هنا وهناك وتنتشر هذه الفرحة في الفروع المتشابكة والأزقة، وتعلو همهمة تنم عن مواعيد أخرى قادمىة لضحك جديد!!
بمرور الأيام أخذت الصفوف تطول أمام المقهى للتمتع بنصف ساعة من الضحك المتواصل، أعداد كبيرة من الناس: الغني والفقير المثقف والأمي، القادم من الريف أو من المحافظات يقفون في صف طويل غير متجانس كأنما ينتظرون حدوث معجزة وشيكة الوقوع، الغريب في الأمر أن لا نقود تدفع عند الدخول، بل في الخمس دقائق التي تسبق الخروج من الدور يجئ طفل يثير شكله الضحك، وقد وضع على رأسه طربوشاً وملأت الأصباغ وجهه، وبيده قبعة قش يجمع فيها ما تجود به الأيدي، وفي تلك اللحظات السعيدة التي لم يتمتع أحد في حياته بمثلها تصبح النقود بلا معنى: أوراق ملطخة بأحبار الطباعة، حديد موشي بالحديد، بل أن اللحظة التي تمتد فيها الأيدي لتدفع المال لتزيد الفرحة في قلب الطفل هي اللحظة الضائعة، التي ينبغي أن تتم بسرعة، فيرمي الجالسون ما تخفيه جيوبهم من مال والضحكات تفرقع في كل مكان من قاعة المقهى الواسعة!!
تنتشر على جدران القاعة صوة رجال ونساء يضحكون وقد مُدت السجادات التي يجلس عليها الزبائن بشكل مستطيل وسطه دائرة فارغة تحتلها المضحِكة، وفوقها ثريا معلقة: "المضحِكة" آلة خضراء اللون تشبه في شكلها العام جهاز للاستنساخ وقد ألصقت على كل جانب منها صورة لوجه ضاحك، فم واسع ينتفخ ضاحكاً، فكان جباران ينفغران بأقصى طاقتهما، لتصهل الحنجرة، اللسان يدوّر ضحكة مضخمة، مكررة، وعيون مبللة بالدموع من شدة الضحك، وصور رؤوس مفلطحة، قرعاء أو معلقَّة بالعقَّال العربي، ووجوه ملونة بخطوط عشوائية، وألوان متنافرة، كمهرجي السيرك، يجلسون في وضعيات مختلفة، وضجيج عاصف من الضحك: سود وبيض وشقر، سيدات وسادة، فقراء وأغنياء، أطفال وكبار، أينما وليت وجهك رأيت وجوههم الكاسرة تزأر بضحك مجنون.
في ردهة استقبال صغيرة، وقبل أن يمرَّ الرواد باتجاه قاعة المقهى، يستقر طبيب على كرسي مضعضع بمريلته البيضاء وسماعة دقات القلب معلقة حول رقبته يفحص الداخلين بسماعته ليعرف مدى قوة القلب لتحمل عملية الضحك المتواصل، فإن لم يجد قلب القادم يتحمل فصول المهزلة القادمة، يحيله إلى موظف آخر يجلس إلى جانبه فينبهه إلى خطورة الدخول، فإذا أصر الرجل على الدخول جعله يوقع ورقة يسميها ورقة تحمل المسئولية!! يتعهد بمسؤوليته فيما إذا حدث له مكروه، ويأخذ منه تأمينات نقدية لنقله بعدئذ على حساب المقهى إلى أقرب مستشفى، وإن لم يحدث له شيء أعادوا له ماله بعد انتهاء دورة الضحك الرابعة، كان كل شيء مرتباً ونظيفاً كما يحدث في دول الغرب، ولم يكن أمام البشر سوى احترام هذه الإجراءات التي تنم عن شعور عال بالمسئولية للحفاظ على حياتهم من فرط الضحك، وسط طوفان من الضحكات التي تأتيهم كموجات البحر عبر الممر في القاعة الكبيرة من مجموعات أنتهت مدة دورها في المقهى وهي تغادره مسرورة ضاحكة، وقد بدت المقهى مملوءة بالبشر المسوسين بوباء ضحك مجنون !!
في المضحكة ثلاث درجات يقسمها ويديرها موظف مختص بالآلة يرتدي ملابس رسمية اختيرت بدقة تشبه في ميزاتها بدلة جنرال عسكري ماعدا القميص الذي امتلأ عند الصدر والظهر بالأوسمة والنياشين، ومطبوعات ملونة لوجوه تغرق بالضحك، وتبدأ الدورة بإطفاء أضواء الثريات في القاعة، فيصمت الزبائن كأنهم يختبرون الآلة: "أحقاً تمتلك هذه القدرة الأسطورية في الإضحاك ؟ !! ".
وبعد لحظات يحل الظلام لبرهة، بعد ذلك يدير الموظف الألة ببطء شديد إلى درجتها الأولى، فيضيء ضوء أخضر يسيل لونه بهدوء غريب على الوجوه في القاعة، فيرتعب الحاضرون أول الأمر، فالوجوه التي يسقط عليها الضوء تتحوّل إلى أشكال غريبة شائهة: الأنوف تنفرش بشكل مثير، العيون تسيل فجأة فتصبح شقوقاً ضيقة، الشعر يتصلب كأسلاك مهتزة، وموسيقى حربية تطلقها الآلة، وتتناغم المارشات التي تبثها الآلة مع شدة الضوء، الألحان المبثوثة تجئ مثل شلال ماء بارد يمس الوجوه، ويدخل فراغات الملابس فيدغدغ الأباطات وأسفل الرقاب وباطن الأقدام والجنوب، فتتصاعد الضحكات، وبسبب هذه الانفجارات الضاحكة يتغير شكل الضاحكين: الرؤوس تتحول إلى مستطيلات أو مثلثات أو مجرد خطوط وهمية تنتهي في اللانهاية عند السقف، وما وراء السقوف الكاذبة والحقيقية، والعيون تضيق فتصبح كخروم الإبر والأيدي تطول حتى وكأنها تستطيع أن تنوش جيباً من جيوب الزبائن أو شيئا ما في الجانب الآخر من المدينة دون أن يمنعها جدار أو مانع، الأقدام تتقوس كأنها ستصل أقطار النجوم والمجرات، فترتسم الأعضاء المبتورة على السقف كغابة لا مثيل لغرابتها وازدحامها.
يدير الموظف الذي هو في رداء الجنرال موجة الآلة، وهو الآخر يغرق في ضحك مستمر، فهو أكثر الموجودين تعرضاً لما تبثه الآلة من أشعة وموسيقى وتأثيرات سحرية خفية، وفي الدرجة الثانية يتغير لون الضوء من الأخضر إلى الصفرة الداكنة، ويصاحب ذلك التغيير في الآلة نبرة أخرى من الموسيقى الراقصة، فيكون تأثيرها مشابهاً لأصابع من المطاط تجوس تحت ملابس الجالسين، ويختلط كل ذلك برائحة صندل محروق ينبعث من ثقب في الآلة، وذلك الدخان الخفيف الذي تطلقه الآلة بسرية يتخثر في أفواه الضاحكين، ويختلط بلعابهم متحولاً إلى قطع صغيرة مدورة من النعناع، فيدغدغ الطعم الحارق أفواههم وأجوافهم، فيجعلهم ذلك يتمايلون ذات اليمين والشمال واللعاب يتساقط من أفواههم، التي لا يستطيعون السيطرة عليها وإمساكها من شدة الضحك، ويؤثر الضوء الأصفر في حدقات العيون فيتسرب عبرها إلى كل خلية، مهيئاً الأشكال الواقعة ضمن الرؤية إلى أشكال غريبة، لم تقع عليها العين من قبل: قطع قماش محلقة في فضاء المقهى، ملغية البعد الثالث للأجساد، فيبدو الرجل بطول وعرض فقط ، مثل لوحة تتحرك طائرة قريباً من السقف بوجوه شوهتها التجاعيد، وأطراف مستطيلة، فتتصاعد ضحكات بلهاء، لا معنى لها، وليست في الحقيقة سوى أصوات في الفضاء، صادرة من قلوب حزينة لم تجرب الفرح أبداً، ماسحة الهموم، مغلفة بالإحباطات، مقادة إلى التلاشي ، ويتحوّل كل ما يقع خارج القاعة إلى ضباب لا تخترقه العين، وتتحول الأفكار المرددة بشكل كلمات إلى أصوات تنتقل عبر الفراغ، فتصطدم بالعمارات والأبنية، وترتد مختلطة بأبواق السيارات ونداءات الباعة، ولا شيء يحدث، لا شيء يُفعل ويكبر، ويتطحلب سوى الأفواه وتكشيراتها الضاحكة!!
أخطر ما في آلة الغرب المتحضر درجتها الثالثة، إذ قبل أن يديرها صاحب المقهى يمرُّ طفل وعلى رأسه مخروط ملون وبيده قبعة من أعواد القصب، فيفرغ الناس ما في جيوبهم بنشوة قل نظيرها، إذ تكون تلك اللحظة، هي لحظة التطهير التامة، لحظة التمتع الحقيقي بعالم وهمي مهدت له درجتا الضحك الأولى والثانية، فذابت الفروق بين ذات وأخرى، وانمحت قوانين العالم الأرضي الثابتة، وتلاشت الغرائز ـ وتحوّل الناس إلى أطفال كبار، حيث الأوراق النقدية لا قيمة لها على الإطلاق والاحترام والنفاق المتبادل بين شخص وآخر يختفي، وتتسرب الضحكات المتعبة عبر النوافذ وفتحات الأبواب مثل نهاية طوفان، وحين تنتهي فقرة الطفل البهلوان الذي يجمع المال، يدير الرجل شيئاً في الآلة فتصدر أزيزاً خاصاً، ثم يتغير لون الضوء الساقط على الوجوه إلى اللون الرمادي فيحيل الجالسين إلى مخلوقات أخرى، فإن كانت ثمة صفات تربط بين حيوان و أحد الزبائن، كأن تكون له أذنان طويلتان، تحوّلت صفاته الأخرى بتضخيم مفتعل إلى صورة الحيوان المطابق، فيكون فيلاً أو حماراً وحشياً أو كلباً سلوقياً، فتنفجر القاعة بضحكات مدوية!!
الضوء يدور في القاعة، كأنه يكشف عن غابة مملوءة بالحيوانات المستفزة، ويتحول صاحب المقهى الذي يدير آله الضحك إلى خروف كبير بقرنين معقوفين: مجموعة كبيرة من الأشكال الشائهة والحيوانات الضاحكة، والأيدي تمتد مؤشرة إلى بعضها البعض مندهشين من مظاهرهم الحيوانية، وكل منهم ينبه صاحبه دون أن يستطيع التفوه بكلمة واحدة من شدة الضحك، فينبهه الآخر بدوره إلى شكله الفج الذي يمزق الكليتين ويفرع المثانة ضحكاً، تتحول وقتذاك القاعة إلى عالم ضاج بالضحك والتبول الاضطراري والشهيق والزفير والسعال المتقطع، والأيدي تمتد نحو الخاصرات من نقص الهواء: نساء أختفين تحت دثار من الملابس الملونة تحولن فجأة بتأثير الآله إلى بقرات سمان وقبرات عوراء، وأرانب ولبؤات مستفزة، ودجاجات نحيفة، وأفاع كبيرة ملتوية، ورجال تحولوا إلى قردة، ووحيدي قرن، وكلاب سلوقية، وثيران وديكة عرجاء تفغر أشداقها، إلا أن النسبة الأعظم من رواد المقهى تحولوا إلى خراف هزيلة، ضاحكة !!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

790 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع