الأزمة الإيرانية والنزاع السوفيتي- التركي

د. جابر ابي جابر

الأزمة الإيرانية والنزاع السوفيتي- التركي

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في أيلول/سبتمبر عام 1939 ازداد نشاط الألمان في إيران وتسنى لألمانيا إزاحة الاتحاد السوفيتي من موقع الشريك التجاري الأول لإيران. وأصبح المستشارون الألمان النازيون يتوافدون إلى إيران أكثر فأكثر بما في ذلك العسكريون منهم. وفي تلك الفترة جنحت السياسة الخارجية الإيرانية نحو ألمانيا النازية. وقد جاء ذلك على خلفية النزعة القومية الصاعدة لدى كلا البلدين. وأظهر الشاه رضا بهلوي تعاوناً ملحوظاً مع دول المحور رغم إعلانه عن حياد بلاده.

وفي البداية لم تكن العلاقات الإيرانية الالمانية تستدعي اهتماماً خاصاً لدى موسكو المرتبطة مع برلين بمعاهدة عدم اعتداء. ولكن بعد الهجوم الألماني المفاجئ على الاتحاد السوفيتي وانضمام البلد إلى التحالف المعادي لألمانيا النازية أصبح الأمر يثير هواجس الحكومة السوفيتية، التي اضطرت إلى إرسال ثلاث مذكرات احتجاج شديدة اللهجة طالبت فيها بوضع حد لتساهل الحكومة الإيرانية إزاء ما يقوم به الالمان من أعمال مشبوهة.
وخلال حديثه مع السفير البريطاني ستافورد كريبس في العاصمة السوفيتية يوم الثامن من تموز عام 1941 أعرب ستالين عن قلقه إزاء النشاط المحموم، الذي يقوم به عملاء ألمانيا النازية في إيران، وأشار إلى خشيته من تخلي إيران عن حيادها وانضمامها إلى دول المحور مما سيشكل خطراً بالغاً على حقول النفط الإيرانية والحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي. وحينها أبدى السفير البريطاني تفهمه التام لهذه المخاوف وسرعان ما نقلها إلى حكومته لاتخاذ التدابير اللازمة.
وبعد فشل الحلفاء في إقناع الشاه رضا بهلوي بالعدول عن التعاون مع الألمان والتزام الحياد بكل صرامة ورفضه تشغيل السكك الحديدية لخدمة قوات الحلفاء وطرد الرعايا الألمان المقيمين في البلد، اتفق الاتحاد السوفيتي وبريطانيا في آب/أغسطس عام 1941على القيام بعملية احتلال مشترك لإيران تحت تسمية "الوفاق". وفي غضون بضعة أسابيع استولى الجيش الاحمر على المناطق الشمالية الغربية بينما قام الإنجليز باحتلال الوسط والجنوب. وقد عللت موسكو عملها هذا بالاستناد إلى البند السادس من معاهدة عام 1921 الموقعة مع إيران، الذي يتيح لها احتلال أراض من إيران إذا بات هذا البلد مصدر خطر وتهديد لأمن الجانب السوفيتي.
وفي 17 أيلول/سبتمبر عام 1941 دخلت القوات السفيتية والبريطانية طهران وقامت بخلع الشاه رضا بهلوي عن العرش ونفيه إلى جنوب إفريقيا ثم تنصيب نجله محمد رضا بهلوي خلفاً له وتشكيل حكومة برئاسة محمد علي فروغي. وقد أرغمت الحكومة الإيرانية على طرد السفير الألماني وإغلاق البعثات الدبلوماسية لألمانيا وإيطاليا والمجر ورومانيا وتسليم الرعايا الألمان إلى القوات االإنجليزية والسوفيتية.
وفي مطلع عام 1942 وقعت بريطانيا والاتحاد السوفيتي مع إيران معاهدة نصت على ما يلي:
1 – تتعهد بريطانيا والاتحاد السوفيتي بعدم المصادقة على قرارات مؤتمرات السلام المقبلة التي من شأنها أن تلحق الضرر بوحدة التراب الوطني لإيران وسيادتها واستقلالها السياسي.
2 – ينبغي حصر وظيفة الجيش الإيراني في الحفاظ على الأمن الداخلي.
-3ستسعى موسكو ولندن بشتى الوسائل التي في حوزتها للدفاع عن إيران ضد أي اعتداء من جانب ألمانيا أو أي دولة أخرى. ولتحقيق ذلك يمنح الجانب الإيراني لهما حق الاحتفاظ في أراضي إيران بقوات برية وبحرية وجوية وفق العدد الذي تعتبرانه ضرورياً.
-4 تلتزم إيران بضمان استخدام الدولتين الحليفتين لكافة طرق المواصلات في أراضي البلد.
5- تتعهد الدولتان المحتلِتان بسحب قواتها من إيران في غضون ستة أشهر بعد انتهاء الحرب.
6- يضمن الحلفاء لإيران عدم مطالبتها في مشاركة قواتها المسلحة في أي حرب ضد أية دولة.
(القاموس الدبلوماسي تحت إشراف أندريه فيشينسكي وسلمون لوزوفسكي، موسكو، 1948-1950).
منذ الأسابيع الأولى للاحتلال الثنائي أرسل الاتحاد السوفيتي إلى إيران مجموعة كبيرة من الخبراء العسكريين للإشراف على استلام ومرور التوريدات الحيوية القادمة بموجب برنامج المساعدات الأمريكية "ليند- ليز" إلى الخليج العربي (البصرة) والمارة بإيران والمتوجهة بعد ذلك إلى العمق السوفيتي. ولكن الأمر لم يقتصر على ذلك حيث جاء إلى المناطق الشمالية الغربية الإيرانية مهندسون جيولوجيون سوفيت لدراسة حقول النفط المستثمرة والمكتشفة حديثاً في مازندران وغيلان وغيرها والمتاخمة لمكامن النفط في جمهوريتي أذربيجان وتركمانيا السوفيتيتين.
وعلى العموم فإن موسكو سعت خلال سنوات الحرب إلى تعزيز نفوذها في المناطق الأذرية والكردية وتفعيل نشاط الحركات الانفصالية هناك، وخاصة أن سكان أذربيجان الإيرانية كانوا يعانون من الفقر والبطالة والأمية، ناهيك عن أن كافة المعاملات في الدوائر الحكومية كانت تجري باللغة الفارسية غير المعروفة لدى معظم أهالي المناطق المذكورة. وقد قوبلت مطالبهم المتعلقة بتوسيع حقوقهم وتحسين أوضاعهم المعيشية بقمع قاس للغاية من جانب السلطات المحلية. كما أن السلطة المركزية ضربت عرض الحائط باحتياجات هذا الإقليم بينما كانت تنقل على نطاق واسع إلى طهران المنتجات الزراعية من هناك.
بعد إخفاق مهمة الوفد السوفيتي برئاسة نائب وزير الخارجية سيرغي كافتارادزه عام 1944 في الحصول على امتيازات نفطية لدى الإيرانيين قرر ستالين أن يلعب "الورقة القومية". ففي تموز/يوليو عام 1945 صادق المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم على الإجراءات الخاصة بتنظيم حركات انفصالية في الأقاليم الشمالية الغربية من إيران . وقد أعطى الزعيم السوفيتي تعليماته إلى المسؤول الأولى في أذربيجان السوفيتية مير جعفر باغيروف لكي يستعد من أجل "توحيد أذربيجان التاريخية" أي ضم الأراضي الأذرية الإيرانية إلى الاتحاد السوفيتي. وقد أدت هذه الطروحات إلى نهوض المشاعر القومية لدى الأذريين. ومع ذلك فالوثائق، التي رفعت عنها السرية، تشير إلى أن الهدف الرئيسي لهذا التوجه لم يكمن في توسيع أراضي الاتحاد السوفيتي بقدر ما كان يرمي إلى السيطرة على حقول النفط في الشمال الإيراني.
وفي إطار ذلك ضاعفت قيادة القوات السوفيتية من مساعيها لدعم وتحريك الجماعات الانفصالية الأذرية والكردية. ففي تشرين2/نوفمبر قامت فصائل الحزب الديمقراطي المسلحة بانتفاضة وجرى تنظيم انتخابات أسفرت عن تشكيل حكومة محلية ترأسها أحد اعضاء البرلمان الإيراني عن الإقليم جعفر بيشيفاري. وجرى إعلان جمهورية أذربيجان الشعبية وعاصمتها تبريز( نوفمبر 1945- نوفمبر 1946) وعلى الفور طرحت هذه الحكومة مطلب منح أذربيجان الإيرانية الحكم الذاتي إدارياً وثقافياً. غير أن الحكومة المركزية في طهران وقوى سياسية عديدة اعتبرت هذا العمل خطوة خطيرة تهدد وحدة البلد. ولهذا سارعت السلطات الإيرانية إلى إرسال وحدات عسكرية لقمع الحركة الانفصالية في مهدها.
ولكن القوات السوفيتية المرابطة في الإقليم عمدت إلى إيقافها. كما أن فصائل المقاومة الشعبية الأذرية قطعت كافة الطرق المؤدية إلى مركز الانتفاضة. وقد أدت هذه الأعمال إلى تعقيد شديد للعلاقات السوفيتية الإيرانية، إذ كانت طهران على اعتقاد راسخ بأن هذه الأعمال مرتبطة بدعم مباشر من جانب الاتحاد السوفيتي.
وبعد فترة قصيرة (مطلع عام 1946) أعلن قاضي محمد ومصطفى البرزاني في احتفال مهيب أمام حشد كبير من الأكراد عن قيام جمهورية مهاباد في المناطق ذات الأغلبية الكردية بشمال غرب إيران.
بعد انتهاء الموعد المحدد لانسحاب القوات السوفيتية من إيران في الثاني من آدار/مارس عام 1946 أي عقب مرور 6 أشهر على هزيمة اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية سحبت بريطانيا قواتها من إيران وفقاً للمادة الخامسة من الاتفاق الثلاثي الموقع بين إيران من جهة، والدولتين المحتلتين، من جهة أخرى (وكان الأمريكان قد غادروا البلد قبل 1 كانون2/يناير من العام نفسه). أما الاتحاد السوفيتي فقد امتنع عن الانسحاب معللاً ذلك بخطورة الوضع آنذاك على أمنه وتصرف على نحو معاكس حيث أدخل قوات إضافية وبدأ في التحرك نحو طهران مما أثار أول نزاع سياسي كبير في الحرب الباردة. وقد اضطرت إيران في ظل هذه الأجواء إلى عرض هذه المشكلة على مجلس الأمن الدولي في 18 آذار/مارس عام 1946 حيث تلقت الدعم من جانب الولايات المتحدة، التي اتخذت موقفاً حازماً في جلسات المجلس بخصوص قضية التواجد العسكري السوفيتي في إيران. وبعد نقاشات حادة شارك فيها المندوب السوفيتي الدائم أندريه غروميكو اتفقت موسكو وطهران على انسحاب القوات السوفيتية بحلول السادس من أيار/مايو عام 1946 مقابل امتيازات نفطية.
وقد نصت الاتفاقية المتعلقة بهذه القضية على إنشاء شركة نفطية إيرانية- سوفيتية مشتركة يكون للسوفيت 51% من الأسهم فيها خلال 25 عاماً ونسبة 50 % على مدى الأعوام اللاحقة.
غير أن الأمريكان اعتبروا الاتفاقية المعقودة مع السوفيت خطرة على مصالحهم في منطقة الخليج. ولهذا بذلوا قصارى جهدهم للحيلولة دون المصادقة عليها. وفي الوقت نفسه فإن العديد من القوى السياسية في البلد كانت تقف، بدورها، ضد هذه الاتفاقية. وفي ظل تلك الأجواء ناقش القوام الجديد للبرلمان الإيراني اتفاقية النفط مع الاتحاد السوفيتي حيث قرر رفضها بأغلبية ساحقة من الاصوات.
وكما كان متوقعاً بعد انسحاب القوات السوفيتية ببضعة أشهر استطاعت الحكومة الإيرانية المركزية إعادة سيطرتها على كافة المناطق الشمالية وإسقاط حكومتي جمهورية أذربيجان الشعبية وجمهورية مهاباد الانفصاليتين (أواخر عام 1946).
وعلى العموم فإن الاتحاد السوفيتي في علاقاته مع إيران عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يتوصل إلى هدفه المنشود بل، على العكس من ذلك، تسبب في تعزيز مواقع واشنطن وتكاتف الائتلاف الأنجلو-أمريكي وترسيخ صورة بلاد السوفيت كدولة توسعية لا يمكن إيقافها إلا بالقوة.
أما بالنسية لتركيا فقد التزمت الحياد خلال الحرب العالمية الثانية حتى مطلع عام 1945 حيث أعلنت الحرب على ألمانيا النازية. ولهذا فإن الاتحاد السوفيتي لن يبق لديه أي سبب لتوجيه مطالب إقليمية للأتراك. ومع ذلك فإن القيادة السوفيتية حاولت الاتفاق من الأمريكان لمساعدتها في مسألة إعادة النظر بالوضع القانوني لمضيقي البوسفور والدردنيل ومنحها الأفضلية للأسطول البحري السوفيتي. غير أن الخلافات المتزايدة بين موسكو وواشنطن ومسائل السياسة الخارجية أدت إلى عدم استجابة الجانب الأمريكي للطلب السوفيتي. وعند ذلك قرر ستالين التصرف بصورة مباشرة.
فقبيل انتهاء الحرب أي في يوم 19 آذار/مارس عام 1945 ألغى ستالين معاهدة" الصداقة والأخوة" الموقعة مع تركيا في عام 1921 واقترح عقد معاهدة جديدة. وحينها أعربت أنقرة عن استعدادها لمنح الاتحاد السوفيتي حق عبور أسطوله الحربي المضيقين في حال نشوب الحرب. ولكن ستالين، الذي كان يأمل في الحصول على تنازلات لاحقة، بدأ بصياغة إدعاءات إقليمية تجاهها., ومن أهمها ضرورة إعادة الأراضي الأرمنية والجورجية التابعة للإمبراطورية الروسية، التي تخلت عنها حكومة لينين بموجب المعاهدة القديمة وهي : مقاطعة قارص والأراضي الواقعة جنوب مدينة باطوم وقضاء سورمالين في مقاطعة ايريفان. كما اقترحت موسكو إقامة نظام رقابة مشتركة في المضيقين ونشر قاعدة بحرية عسكرية سوفيتية في الدردنيل.
ولكن خلال الاجتماع الاستشاري لوزراء الخارجية في لندن المنبثق عن مؤتمر بوتسدام للدول الحليفة الثلاث لم تدعم الولايات المتحدة وبريطانيا مطالب الحكومة السوفيتية إزاء تركيا. وفي 7 آب/أغسطس بعث الاتحاد السوفيتي مذكرة رسمية طالب فيها الأتراك بإعادة النظر بوضعية مضيقي البحر الأسود. غير أن تركيا المدعومة من الدول الغربية رفضت الإدعاءات السوفيتية رفضاً باتاً. وعند ذلك حشد السوفيت القطعات العسكرية عند الحدود السوفيتية- التركية. ولكن الأمر لم يصل إلى حد اندلاع الحرب.
وحسب مذكرات المارشال ايفان باغراميان فإن التهديد الأمريكي باستخدام السلاح الذري بالذات قد حال دون قيام الجيش السوفيتي باقتحام الأراضي التركية. وقد علق مولوتوف فيما بعدعلى نتائج الأزمة السوفيتية – التركية قائلاً:" إنه لأمر جيد أننا تراجعنا في الوقت المناسب". ومما له بالغ الدلالة أن التهديد المذكور كان السبب الرئيسي، الذي دفع الأتراك فيما بعد إلى الانضمام لحلف الأطلسي. وتجدر الإشارة إلى أن موسكو تخلت عن مطالبها الإقليمية رسميا في عام 1953 وذلك بعد بضعة أشهر من وفاة ستالين (جميل حسانلي. الاتحاد السوفيتي – تركيا ميدان الحرب الباردة. باكو، دار نشر" أديب أوغلي"، 2005).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

966 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع