كلما شاهدت الفقيد الراحل بهنام أبو الصوف على شاشة التلفاز أو التقيته في مجالس عمان ، كانت عيوني تفيض دمعا لا ينضبط وعباراتي معه ترتجف خجلا وأسىً لعمق إدراكي لمعاناة هذا العلامة الفذ والأكاديمي المبهر والعطاء الدائم والباحث عن الأثر والتراث الدفين والمتسابق مع الزمن
من أجل العمل المثمر والتنقيب الدؤوب والبحث الرصين لعقود من الزمن ، لتتكلل هذه الحياة الزاحمة باغتراب طال وقهر تفاقم وحزن تراكم وغيرة قاتلة وهو يحنُّ الى لقاء تربة غاص في اعماقها وسهرعلى أثارها حرم من شمها ورؤيتها ، رجل لا يعرف الملل والكلل مليء بالحيوية والنشاط والوطنية متعلق بتراثه وأهله ومسقط رأسه ،معجونة روحه وملتصق جسده بتربة العراق وأثاره وفنه تدرج بحياته الأكاديمية والوظيفية لم يبخل على العراق بجهده وعلمه ومثابرته ،على حين غرة يجد بلده محتل وبغداد الجميلة الآمنة مخربة مهدمة ، ويشاهد بعينيه كيف سرقت الاثار والمتاحف وبيوت الفن والمخطوطات وحرق المكتبات وهو لا يجد لندائه جواب
أو مجيب ، ومن ثم يتابع مسلسل اغتيال العلماء والآطباء والكفاءات ليصل الى قناعة ان العيش لم يعد يطاق وان ادوات التخريب والهدم فاعلة فيما لم تعد للبناء معلمة وللعلم مكرمة .
هكذا رحل احد بناة المعرفة والحضارة في قمة عطاءه ونتاجه كما رحل اخرون قبله وبعده ، اكبر منه عمرا وأصغر من الأعلام والأفذاذ ، وهكذا تركوا العراق ليغتربوا في بقاع الأرض ينشدون النجاة والأمن والأمان .رحل أبو الصوف الى عمان قبل وفاته الى عمان ليشقى وليترمل فيها ويعيش بعيدا عن عائلة تشتت جمعها، لكن عينيه وأذانه وذاته هناك في بغداد التي لن يبعد عنها كثيرا وهو بين أحبة الجالية واصدقائه وتلامذته ممنيا نفسه بالعودة الى بغداد القريبة والحدباء العزيزة ليكمل مشواره فاذا به فقيد الحسرة والاغتراب لسان حاله يقول :
بلادي وإن جارت علي عزيزة وقومي وإن ضنواعلى كرام
او كما قال شاعر آخر
بلادي وان جارت على عزيزة ولو أنني أعرى بها وأجوع
تضل ملوك الأرض تلثم ظهرها وفي بطنها للمجدبين ربيع
أأجعلها تحت الثرى ثم ابتغي خلاصا لها إني إذا لوضيع
وما أنا إلا المسك في كل بلدة أضوع وأما عندكم فأضيع
وكقول الشاعر :
وطني إن شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
عاش بهنام أبو الصوف في عمان بالرغم من وحدته وتقدم عمره بهيبة العلماء وصبر الكبرياء كبيرا في سلوكه وتواضعه وأخلاقه وتحدث في لقاءاته وندواته ومجالسه بأمانة وإخلاص عن العراق تاريخاً وحضارةً ومجداً ،كما تحدث بحرقة نفس وألم عن احتلاله وسرقته ودماره وبكى على علمائه وأثاره وثرواته . وعلى غير موعد ومرض مع ما كان يبدو عليه من همة وعافية ، يغادرنا اليوم بهنام ابو الصوف بعد كل ما أنجز وكل ما أعطى وكل العمر الطويل الذي قضى .
رحم الله فقيدنا الأستاذ الدكتور بهنام الإرث والاثار والحضارة والفن ، بهنام الروح والعقل والنفس ، بهنام الجد والعمل والعطاء ، بهنام التواضع والتسامح والصفاء ، والهم أهله وذويه الصبر والسلوان وادخله الله فسيح جناته على علمه وعمله وعطاءه وعوض العراق والعراقيين والأصدقاء والمحبين بمن يسد مقامه ويفعل فعله ويسد شاغره وحسبنا الله ونعم الوكيل .
900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع