الطاف عبد الحميد
1980 الشرهاني شرق العمارة على الحدود العراقية الايرانية ...
عشرة ايام مضت على الحرب ، الشرهاني ارض متموجة صحراوية اتخذتها وحدتنا كمكان للتحشد ، وحدتنا هي فوج الي ( ميكانيكي) ف6 لمع17 وهو من ضمن نظام معركة الفرقة المدرعة العاشرة العراقية الشهيرة بتسليحها وتدريبها ، تتواجد وحدتنا في منطقة تحشدها كاحتياط للفرقة الساعية الى احتلال المدينة الايرانية الاستراتيجية (ديزفول)، تستغل مثل هذه الفترات الزمنية القصيرة من قبل الوحدات باعادة تنظيمها وسد نواقصها وتصليح دروعها وألياتها واكمال نقصها من الاشخاص والمعدات والاسلحة ،على اعتبار انها بعيدة عن تدخلات العدو في اعمالها ، عدا بعض الغارات الجوية المحدودة من قبل الايرانيين الذين فقدوا الكثير من طائراتهم نتيجة فعالية الدفاعات الجوية العراقية وقدم الطائرات الايرانية وهي من نوع f4و f5المتخلفة تقنيا امام الاجيال الجديدة منها ...
في سرية مقر الفوج كانت هناك ناقلة قيادة BTR50 روسية الصنع مصابة اصابة بليغة وتحتاج الى تصليح عام ، الرائد محمود الدوري امر سرية المقر والذي يشاطرني السكن بنفس الملجأ ، قال لي خطرت على بالي فكرة انسانية، سأقوم بارسال العريف صباح (مأمور) مع الناقلة المصابة الى معمل تصليح الدروع المتقدم والمنفتح للغرض اعلاه في مدينة العمارة ، وأنشر ضيفيته على المعمل المذكور لحين انجاز تصليحها بحجة الاشراف عليها وتسريع عملية تصليحها ،وأكمل قائلا ان صباح ضابط صف جيد ومؤدب وهو اب لخمسة بنات ، فقير الحال وسابعده عن الخطر، ربما تنتهي الحرب قريبا قبل تصليح الناقلة ، ارسل ألعريف صباح مع الناقلة المصابة الى المعمل المذكور في مدينة العمارة قرب مرسلات التلفزيون المحلي للمدينة ، زادت فعالية العدو الجوية بعد ان تمكن من امتصاص قوة الهجوم البري الواسع والذي خسر فيه خلال الاسبوع الاول من القتال الاف الكيلومترات نتيجة المباغتة الاستراتيجية التي حققها الجيش العراقي ، كانت الحدود خالية تماما من القطعات الايرانية مما يدل على انهم لم يكونوا يتوقعون الحرب نهائيا، اضافة الى إن جهود الايرانيين بمجملها كانت منصبة على تصفية المعارضين لها في الداخل ، وخاصة التصفيات التي طالت القيادات العسكرية الايرانية الموالية للشاه الهارب من بلاده بنصيحة امريكية والتي تخلت عنه بشكل مفاجىء لصالح المد الاسلامي لكي يكون ستارا حديديا امام الشيوعية التي طرقت حدود ايران من افغانستان التي احتلتها القوات السوفيتية ، كانت منطقة انتشار وحدتنا قريبة جدا من المقر الرئيسي للفرقة والمحمي جيدا بوسائل الدفاع الجوي الفعالة ، فقد كانت الغارات الجوية الايرانية تتجنب هذه الدفاعات وتبحث عن اهداف سهلة غير محمية ، كنت اراقب ذلك انا وغيري وقد شخصنا غباء القيادات الايرانية إذ كانت الطائرات تبحث عن اهداف ، لايشكل تدميرها أو اصابتها اي تأثير على سير الحرب ، مرة بضرب عجلة منفردة ، او شخص او شخصين منفردين ، او مجموعة خيم ، اوسقيفة فارغة ، اوعجلة انقاذ تقوم باخلاء سيارة او سيارة عاطلة ، واذكر ان احدى الطائرات قامت بفتح رشاشاتها باتجاهي في منطقة (عين خوش) بينما كنت اتكلم مع احد ضباط الصف قرب عجلة انقاذ نوع (بيرلي) ..
ردت احدى رشاشات مفرزة تصليح اللواء عيار 14.5 ملم النارعلى الطائرة، اصيبت الطائرة الايرانية اصابة مباشرة وامتد من خلفها دخان ابيض ، ثم مالبثت أن هوت واصطدمت بالارض وانفجرت ، واعقب ذلك احتفال وهتافات بين الجنود فرحين باسقاط الطائرة بابسط وسيلة دفاع جوي معروفة ، ولم تمضي سوى ساعتين حتى اقبلت- متسللة -احدى الطائرات الايرانية من خلال التلال على ارتفاع منخفض واسقطت صواريخ كبيرة الحجم عدد 2 ،ارتطمت بالارض واحدثت انفجارا بسيطا تبين انها حاويات لقنابل عنقودية تضم الحاويتين 720 قنبلة صغيرة بحجم الرمانة الهجومية ، وعلى اثر ذلك ابتدأت الانفجارات المتعاقبة والمتسارعة والتي غطت المنطقة بأكملها ، كانت تشضية القنبلة لاتزيد عن 50 متر ولكن هذه القنابل المحرمة دوليا لها تأثير نفسي مدمر، حيث يكون الشخص تحت تأثيرسلطة الموت لقرابة نصف ساعة أو اكثر بشكل مستمر وتشل الحركة نهائيا في المنطقة التي تتعرض للضربة، ولا يكون في مأمن منها الا الشخص الذي استطاع ان يدخل في ملجأ مسقف أو خندق شقي وهذه الفرصة لم تكن متاحة للجميع بسبب مفاجاة الطائرة لنا ،استشهد احد الجنود وجرح ستة اخرين وتكسر زجاج اغلب السيارات مع حدوث ثقوب في بعض اطارات السيارات ، وثقوب في قدور الطبخ الكبيرة وتلف الطعام ، بعد مرور اسبوع وصلت رسالة من العريف صباح من العمارة يشكر فيها الرائد محمود على إرساله مع الناقلة ، يذكر فيها انه مرتاح في المعمل وهو يستأذن الرائد محمود بالموافقة على ذهابه باجازة دورية لمضي الفترة المطلوبة ، وصلت الرسالة مع سائق سيارة الحانوت التي تذهب يوميا لغرض التسوق من المدينة ، كانت الرسالة طويلة ولااعرف كل تفاصيلها واستمر الرائد محمود بقرأتها حتى فرغ منها ،ثم دسها في جيبه ، وعدنا الى حديث الحرب والحديث عنها في ايامها الاولى لايعلو عليه حديث ، نناقش الاخبار الدولية االتي اقتصرت عليها بشكل واسع ، متعجلين نهايتها متشبثين بكل خبر يعطي املا او بصيصا من امل ، وبعد مرور اقل من ساعة دخل الينا احد سواق السيارات العائد لتوه من مدينة العمارة ليخبر الرائد محمود بان غارة جوية ايرانية ضربت معمل تصليح الدروع المتقدم وان العريف صباح قد استشهد قرب الناقلة التي كان يجري العمل على تصليحها ...
اجاب الرائد محمود السائق وقال له (ملعون انت متوهم لو تتشاقى وياي،قبل قليل جت رسالة منه )، مد يده الى جيبه واخرج الرسالة وقرا احدى جملها التي يشير كاتبها فيها الى انه مرتاح ، وقرأ تاريخ الرسالة المطابق لليوم الذي نتحدث فيه ، الا ان السائق كان يبدو متأكدا مما قال ، وكرر انه دخل الى المعمل لزيارة احد اقاربه بعد الغارة للتأكد من سلامته وقد تعرف على الشهيد صباح ،وان المعمل قد طلب مني اخبار وحدته لارسال مأمور لاستصحاب جثته الى ذويه ، لم يكن هناك فترة زمنية بين الرسالة والخبر اللاحق سوى ساعة واحدة ، تبين فيما بعد ان الغارة الجوية قد حدثت فعلا بعد ان استلم سائق سيارة الحانوت الرسالة من العريف صباح ، كان الرائد محمود انسان رفيع الاخلاق طيب القلب متدين ،نظر الي نظرة متألمة ، وكأنه يقول لي (نحن نريد ولكن الله لايريد )، في الحرب نهرب من الموت الى الموت.
تحياتي .......مع التقدير
1025 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع