" القضية اللينينغرادية"- آخر محطات القمع الستاليني

د. جابر ابي جابر

" القضية اللينينغرادية"- آخر محطات القمع الستاليني

شهد الاتحاد السوفيتي في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات سلسلة محاكمات لمسؤولين حزبيين وحكوميين من سكان لينينغراد وبعض المدن الأخرى. وقد طالت هذه المحاكمات بصورة رئيسية قادة المنظمات الحزبية لمدينة لينينعراد ومقاطعتها فضلاً عن معظم الشخصيات المنحدرة من لينينغراد، التي جرى تعيينها بعد انتهاء الحرب في مناصب قيادية بموسكو ومناطق أخرى بفضل جدانوف في معظم الحالات. وكان ضمن هؤلاء ألكسي كوزنيتسوف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم، ونيكولاي فوزنيسينسكي رئيس هيئة التخطيط المركزي للاتحاد السوفيتي، وبيوتر بوبكوف السكرتير الأول للمنظمة الحزبية في مقاطعة ومدينة لينينغراد، وميخائيل روديونوف رئيس وزراء جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية. ويُعتقد أنه كان لهؤلاء توجه قومي روسي شبه ليبرالي نظراً لدعوتهم إلى إحداث تبديلات في إدارة اقتصاد البلد عبر التخفيف من التركيز على المجموعة"”A، التي تضم إنتاج وسائل الإنتاج والتصنيع العسكري، والتطلع إلى زيادة إنتاج سلع الاستهلاك الشعبي أي المجموعة"ب". كما كان يجري لفت الأنظار إلى أن مناطق جمهورية روسيا الاتحادية لا تحظى بذلك الاهتمام، الذي تتلقاه الجمهوريات الاتحادية الباقية، وأن مستوى الحياة لدى الروس أدنى من مستواه لدى الشعوب الاخرى للاتحاد السوفيتي.

ولكن يبدو أن ستالين وممثلي الحرس الحزبي القديم كانوا يدركون تمام الإدراك استحالة حل مشكلتين ضخمتين في آن واحد أي تعزيز القدرات الدفاعية وتقديم الدعم الاقتصادي لدول المعسكر الاشتراكي من جهة، وحل القضايا الاجتماعية من جهة أخرى، ناهيك عن أن إحداث تغييرات وإصلاحات في المجال الاقتصادي يقتضي إجراء تبديلات معينة في السياسة والإيديولوجيا. وقد سعى مالنكوف وبيريا منذ البداية إلى نسف اقتراحات جدانوف وفوزنيسنسكي بشأن تطوير الميدان الاجتماعي.
ويرى العديد من المؤرخين والباحثين المعاصرين الروس أن القضية اللينينغرادية كانت، في واقع الأمر، محاكمة للبلاشفة الروس القوميين قام بتدبيرها البلاشفة اليهود للقضاء على "الحزب الروسي" في نطاق الصراع على النفوذ في النسق العليا للسلطة في الاتحاد السوفيتي. ويعتقد آخرون أن القضية هذه ظهرت نتيجة صراع داخل الحزب الشيوعي الحاكم بين القادة القدماء المتمسكين بمناصبهم العالية والمنحدرين من أصول غير روسية (بيريا – جورجي ومالنكوف من أصل مقدوني وكاهانوفتش يهودي وخروشوف "محسوب" على الأوكرانيين) وبين الجيل الجديد المتحمس المندفع نحو المراكز القيادية في الحزب والدولة والمنحدر من أصل روسي. وهم مجموعة جديدة من القادة الحزبيين الشباب، الذين أظهروا جدارتهم خلال سنوات الحرب.
وفي كافة الأحوال يبدو أن مجلس وزراء جمهورية روسيا الاتحادية ومكتبي المنظمتين الحزبيتين في مقاطعة لينينغراد والمدينة تحولت إلى مركز لإعداد كوادر القيادة الحزبية الجديدة. ولكن وفاة جدانوف المفاجئة خرقت التوازن الهش للقوى وبدلت توزعها إلى حد كبير في النسق العليا للسلطة.
وفي البداية أُخذ على روديونوف وكوزنتسوف وبوبكوف وكابوستين تنظيم معرض تجارة الجملة لعموم الاتحاد السوفيتي في المدينة خلال الفترة الواقعة بين 10 و20 كانون 2/ يناير عام 1949 بدون علم اللجنة المركزية والحكومة، مع أن الوثائق تثبت أن ذلك جرى تنفيذاً لقرار الحكومة السوفيتية الصادر في 11 تشرين 2/ نوفمبر عام 1948 "حول الإجراءات اللازمة لتحسين التجارة". كما اتُّهم هؤلاء بتزوير انتخابات القيادة الحزبية الجديدة أثناء انعقاد الكونفرنس الحزبي في كانون 1/ ديسمبر عام 1948.
وفي 15 شباط/ فبراير عام 1949 صدر قرار للمكتب السياسي حول الأعمال المعادية للحزب من جانب المرشحَين لعضوية اللجنة المركزية روديونوف وبوبكوف وجرى عزلهما من مناصبهما. أما بالنسبة لفوزنيسنسكي فقد اعتبر مسؤولاً عن إعداد مذكرة حول تخفيض هيئة التخطيط المركزي لخطة الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي للربع الأول من عام 1949.
وقد انعقد يوم 22 شباط/ فبراير من العام نفسه اجتماع موسع لمنظمتي مدينة ومقاطعة لينينغراد الحزبيتين بحضور مالنكوف. وخلال الاجتماع اعترف بوبكوف وكابوستين بأن نشاطهما اتسم بطابع معاد للحزب. وقد أصدر هذا المحفل الحزبي قراراً اتهم فيه كلا من كوزنيتسوف وروديونوف وبوبكوف وكابوستين بالانتماء إلى فئة مناهضة للحزب. وكان مالنكوف قد بعث برسالة سرية إلى أعضاء اللجنة المركزية للحزب أكد فيها أن مجموعة لينينغراد تسعى إلى إنشاء حزب شيوعي خاص بروسيا الاتحادية ومركزه لينينغراد وهي تنوي بالتالي، حسب قوله، إحداث انشقاق في صفوف الحزب الشيوعي السوفيتي.
ثم اتهمت وزارة أمن الدولة كوزنيتسوف وروديونوف وكبار مسؤولي المنظمة الحزبية لمقاطعة لينينغراد في القيام بنشاط معاد للثورة. وبناء على ذلك جرى اعتقالهم في تموز/ يوليو عام 1949 مع مجموعة كبيرة من المسؤولين الحزبيين اللينينغراديين. وفي غضون عام ونيف تعرض هؤلاء إلى الاستجواب والتعذيب. وقد وجهت إليهم تهمة جديدة وهي ممارسة نشاط تخريبي استهدف قيام منظمة لينينغراد الحزبية بمواجهة اللجنة المركزية وتحويل المنظمة المذكورة إلى نقطة ارتكاز لخوض الصراع مع الحزب وقيادته العليا.
وقد اتُّخذ القرار بتصفية المتهمين قبل بدء المحاكمات إذ بناء على مرسوم هيئة رئاسة مجلس السوفيت الأعلى للاتحاد السوفيتي أعيد في 12 كانون 2/ يناير عام 1950 العمل بعقوبة الإعدام، التي سبق أن أُلغيت في عام 1947. وفي الأول من تشرين 1/ أكتوبر عام 1950 أُعدم فوزنيسنسكي وكوزنتسوف وروديونوف وبوبكوف وكابوستين ولازوتين بعد ساعة من صدور الحكم. وعقب التخلص من "المجموعة الرئيسية" أقيمت محاكمات لبقية المتهمين في القضية اللينينغرادية وتمخضت عن إعدام 20 شخصاً في موسكو ومنهم فوزنيسنسكي.
وقد طالت الملاحقات في هذه القضية جامعة لينينغراد، وفرع متحف لينين في المدينة، ومتحف الدفاع عن لينينغراد. كما امتدت أعمال القمع والتنكيل إلى المسؤولين الاقتصاديين وقادة منظمة الشبيبة الشيوعية (الكمسومول) هناك والعسكريين والعلماء ورجال الثقافة. وأُدين ممثلو الانتلجنسيا بما فيهم العلماء بأمور أخرى غير مرتبطة بالقضية اللينينغرادية. وقد استمرت الاعتقالات لاحقاً. ففي آب/ أغسطس عام 1952 حكم بالسجن لفترات طويلة بموجب قضايا مفبركة أكثر من 50 شخصاً كانوا يعملون خلال سنوات الحصار أمناء للمنظمات الحزبية في بعض أحياء المدينة وفي لجان الأحياء التنفيذية (البلديات).
واستمرت الملاحقات والاعتقالات والمحاكمات المتعلقة بالقضية اللينينغرادية في كافة أنحاء البلاد حتى وفاة ستالين، وشملت آلاف من المسؤولين الحزبيين والحكوميين في مقاطعات نوفغورود وبسكوف ومورمنسك وكالينين وكالوغا وغيرها من المناطق. وسُرح من الجيش بهذا الصدد أكثر من ألفي عسكري وجرى تخفيض رتبهم. وعلى العموم تعرض للملاحقة والاضطهاد والتنكيل في هذه القضية حوالي 32 ألف من الروس" الأقحاح".(القضية اللينينغرادية. مجموعة مقالات باشراف فكتور ديميدوف. لينينغراد. دار نشر"لين ايزدات"، 1990).
وجاء في مذكرة وزير الداخلية سيرغي كروغلوف ونائبه ايفان سيروف أنه أُدين 214 شخصاً في هذه القضية وحكم على 24 منهم بالإعدام. كما جرى اعتقال 145 شخصاً من عداد أقربائهم القريبين والبعيدين. وفارق الحياة اثنان في السجن قبل المحاكمة. وقد تضمنت هذه المذكرة، التي صدرت في 10 كانون 1/ ديسمبر عام 1953 أي بعد وفاة ستالين، وقائع صارخة ومنها، على سبيل المثال، أن الجلسة الخاصة لوزارة أمن الدولة للاتحاد السوفيتي حكمت على والدة غيورغي بادايف السكرتير الثاني لمنظمة لمقاطعة لينينغراد الحزبية البالغة من العمر 67 عاماً بالنفي لمدة 5 سنوات. كما جرى نفي والد سكرتير بلدية لينيغراد بوبنوف (72 عاماً) ووالدته (69 عاماً) بالإضافة إلى شقيقيه وشقيقتيه.
وفي 30 نيسان/ أبريل عام 1954 أعادت المحكمة العليا للاتحاد السوفيتي النظر في " قضية كوزنيتسوف وبوبكوف وفوزنسينسكي وغيرهم" وجاء في قرارها " ...قام أباكوموف ومعاونيه باختلاق شتى التهم بحق هؤلاء واستطاعوا من خلال التعذيب والتهديد انتزاع إفادات ملفقة للموقوفين حول تدبير المؤامرة المزعومة". وقد برأت المحكمة ساحة كافة الأشخاص المعنيين المحكومين في إطار هذه القضية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع