د. جابر أبي جابر
وفاة ستالين – ألغاز لم تُحل بعد
في الشهور الأخيرة من حياة ستالين لم يعد أحد ضمن المجموعة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي يشعر أنه في مأمن من بطش السكرتير العام. فهو اعتبر فوروشيلوف بين المزح والجد"عميلاً لأجهزة الاستخبارات البريطانية"، واتهم مولوتوف بأنه جاسوس للاستخبارات الأمريكية (حيث أن زوجتيهما غولدا غولبمان وبولينا جمتشوجينا من اليهود). كما عزل مولوتوف وميكويان من منصبيهما في المكتب السياسي، ولفق "قضية منغريليا" الموجهة في نهاية الأمر ضد بيريا، الذي حامت حوله دسائس فظيعة في أجهزة أمن الدولة (أوعز بها ستالين شخصياً). وفي تلك الأثناء ألقي القبض على كبار الأطباء في الاتحاد السوفيتي("قضية الأطباء")، ومعظمهم من اليهود، بتهمة السعي لتصفية مسؤولي الحزب والدولة في البلد خلال معالجتهم. كما انتشرت في شتاء عام 1953 بموسكو ضمن أوساط المثقفين اليهود إشاعات قوية تشير إلى أنه يجري على قدم وساق التحضير للترحيل الجماعي لليهود إلى سيبيريا بعد تبدل سياسة ستالين إزاء الدولة العبرية بمقدار 180 درجة.
وفضلاً عن ذلك فإن قيام السكرتير العام خلال المؤتمر 19 للحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد في تشرين1/اكتوبر عام 1952 بتوسيع قوام هيئة رئاسة اللجنة المركزية (المكتب السياسي) بستة عشر عضواً جديداً أثار لدى الحرس القديم بمجمله مخاوف شديدة إذ أدرك القادة الحزبيون القدامى أن ستالين سيقوم إن عاجلاً ام آجلاً بتصفيتهم لا محالة فلابد إذن من التحرك لتجنب حدوث هذه المأساة!.
وفي ضوء التوجس الملحوظ لدى ستالين منذ زمن طويل لم يكن الزعيم السوفيتي يرغب بمراجعة الأطباء وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته حيث ازداد لديه شعور الارتياب تجاههم. وحسب قول خروشوف فإن السبب الرئيسي يعود إلى كبريائه وإصراره على أن يظهر دوماً لدى الجميع بلا استثناء كزعيم حديدي وشخص خارق. كما أنه لم يكن يلتزم بأي حمية غذائية.
وهكذا ففي خضم تدابير الإعداد لمحاكمة الأطباء أصيب ستالين بجلطة دماغية في الأول يوم 1 آذار/ مارس عام 1953. وقد تنفس معاونوه الصعداء نظراً لأن كل واحد منهم كان يشعر بالخطر على مصيره بما في ذلك بيريا الجبار، الذي كان في غضون سنوات طويلة مسؤولاً عن وزارة الداخلية والأمن في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم. وقد بات قلقاً على حياته خاصة وأنه أُبعد عملياً عن الإشراف على القضايا الأمنية بعد أن تولى سيميون أغناتييف وزارة أمن الدولة. وفي تلك الأثناء أصبح مالنكوف الشخصية الرئيسية في الحزب بعد السكرتير العام.
يتحدث خروشوف عن ملابسات وفاة ستالين بقوله: "في اليوم الأخير من شباط/ فبراير (عام 1953)عمل ستالين طويلاً بمكتبه في الكرملين. وكالمعتاد شاهد في ساعة متأخرة من المساء فيلماً سينمائياً بحضورنا. وقد كنا هناك أنا وبيريا ومالنكوف وبولغانين. وبعد ذلك ذهبنا جميعاً لتناول طعام العشاء في منزله الريفي بضاحية كونتسيفو. وقد انتهى العشاء عند الفجر وكان ستالين منتشياً تماماً ورائع المزاج. وهكذا عدنا إلى منازلنا فرحين حيث لم يأت من جانبه في هذه المرة أي شيء مزعج تجاهنا. فالمعروف أن حفلات العشاء عند ستالين لا تختتم في العادة بنهاية سعيدة
وفي مساء اليوم التالي المصادف الأحد الأول من آذار/مارس اتصل بي مالنكوف وأبلغني أن حرس ستالين وأفراد طاقم الخدم شعروا بأن ثمة شيئاً ما قد حدث له فأرسلوا الخادمة العجوز ماترونا لتستطلع أحواله فوجدته مستلقياً على أرضية حجرة الطعام الصغرى وعندئذ وضعه الحراس على أريكة في الغرفة المجاورة". وحسب قول خروشوف فإن الحراس اعتقدوا أن ستالين كان ثملاً وقرروا أنه من غير اللائق أن يظهروه في هذه الحالة المزرية. وقد جاء إلى كونتسيفو كل من بيريا ومالنكوف وخروشوف لمعرفة ما الذي حدث لستالين. وبعد أن شاهدوا الزعيم نائماً على الأريكة قرروا أنه لا لزوم لإزعاجه ووضع أنفسهم في موقف حرج. وهكذا فقد عاد المسؤولون الكبار أدراجم إلى بيوتهم. وبعد عدة ساعات اتصل مالنكوف ثانية بخروشوف وقال له أن الحرس عاودهم القلق الشديد بخصوص ستالين، فتوجه أعضاء القيادة ثانية إلى كونتسيفو وكانوا قد اتصلوا بالأطباء، الذين جاءوا إلى هناك وقاموا بفحصه، وأعلنوا أن حالته خطيرة. وقرر أعضاء القيادة تنظيم مناوبة يومية لكل اثنين منهم.
وتختلف رواية نائب القومندان المقدم بيوتر لوزغاتشيوف عن رواية خروشوف في عدة جوانب. فهو يشير إلى أن خروشوف والقادة الآخرين غادروا منزل ستالين في ليلة 28شباط-1 آذار/ مارس عند الساعة الرابعة فجراً. وبعد ذلك نقل العقيد إيفان خروستاليوف رئيس الحرس الميداني إلى أفراد طاقم الخدمة والحراسة ما قاله له ستالين بأن بوسع الخدم والحراس الذهاب إلى النوم فهو لن يحتاج إلى خدماتهم في غضون الساعات القادمة. وعبر كل من فاسيلي توكوف مساعد خروستاليوف ولوزغاتشوف عن استغرابهما الشديد لما قاله سيدهما . فهذه هي المرة الأولى التي يقترح على طاقم الخدمات والحرس الخلود إلى النوم . وفي الساعة العاشرة صباحاً انتهت مناوبة خروستاليوف وحل محله المقدم ميخائيل ستاروستين.
وفي الظهيرة شعر الحراس بالقلق لعدم سماعهم أي حركة من جهة الجناح السكني لسيدهم وعدم استدعاء ستالين لأي أحد منهم. وقد كان محظراً عليهم قطعياً الدخول إلى هناك بلا استدعاء مسبق. وفي المساء وصلت المخاوف إلى أقصى حد، ومع ذلك لم يتجرأ أحد الدخول إلى هناك. وعند الساعة السادسة مساء اتصل أحد الحراس، الذين يحرسون خارج المبنى، بالهاتف قائلاً أن الضوء مشتعل في حجرة الطعام الصغرى. (ويعود ذلك ،على الأرجح، إلى أن ستالين استيقظ في وقت ما من الصباح ثم نهض من فراشه إلى الحجرة المذكورة لشرب الماء . ولكنه في تلك اللحظة أُصيب بالسكتة الدماغية ووقع على السجادة هناك). ولكن في الساعات اللاحقة لم يُسمع أي شيء يلفت الأنظار. وبعد وصول البريد الخاص من الكرملين في حوالي الساعة 11 مساء ظهر لدى لوزغاتشوف سبب وجيه للدخول إلى هناك. وقد أُصيب بالدهشة والرعب حين وجد الزعيم السوفيتي مستلقياً على سجادة في حجرة الطعام هذه وعاجزاً عن الكلام دون أن يفقد الوعي. وأشار له ستالين بإيماءة من رأسه حين سأله الحارس إذ كان ممكناً أن ينقله إلى الأريكة. وعلى الفور استدعى لوزغاتشوف بعض زملائه لنقل سيدهم إلى الحجرى الكبرى حيث وضعوه على الأريكة هناك.
وبعد ذلك اتصلوا هاتفياً بوزير أمن الدولة سيمون إغناتيف، الذي أُلقيت على عاتقه مهام رئيس الحماية الشخصية للزعيم السوفيتي. ولكن لم يتمكن أحد عندئذ من الاتصال ببيريا، إذ بدونه كان مالنكوف متردداً بخصوص استدعاء الأطباء. فمنذ "قضية الأطباء" لم يكن يُسمح لأي طبيب الاقتراب من ستالين دون إذن مسبق من بيريا. وأخيراً تم العثور عليه حيث وعد بالمجيء إلى كونتسيفو وأصدر لستاروستين أوامر صارمة بعدم إبلاغ أي شخص على الإطلاق بخصوص حالة ستالين. وفي الساعة الثالثة من ليلة 1/2 آذار- مارس وصل بيريا ومعه مالنكوف فقط. وبعد أن دخلا إلى الحجرة، التي يرقد فيها ستالين، أكد بيريا أنه يغط في نوم عميق واتّهم الحرس بأنهم يبالغون في تقدير حالة الزعيم ثم أنّب لوزغاتشوف وطلب منه ألا يزعج الرفيق ستالين وأعضاء القيادة. وبهذه الكلمات غادرا كونتسيفو.
وبعد إلحاح قوي من قبل الحرس وصل القادة إلى منزل ستالين الريفي في الساعة التاسعة من صباح 2 آذار/مارس وتبعهم فريق الأطباء. وقد أعلنوا عقب فحص الزعيم السوفيتي أنه مصاب بسكتة دماغية شديدة. وسبق لستالين أن عانى من سكتة دماغية خفبفة نسبياً في خريف عام 1945 ناجمة عن تصلب الشرايين في الأوعية الدماغية. وكما هو معروف فإن ستالين كان خلال الأشهر الأخيرة من حياته بشكل خاص يخشى تناول الأدوية ويرفض استشارة الأطباء المؤهلين تأهيلاً عالياً.
وفي ذلك الصباح جرى إبلاغ كل من نجل الزعيم السوفيتي فاسيلي وشقيقته سفيتلانا بما حدث لوالدهما فأسرعا بالمجيء إلى كونتسيفو. وشرع فاسيلي بمجرد وصوله إلى هناك بالصراخ قائلاً:" لقد قتلوا والدي، هؤلاء الأوغاد". وعند ذلك أشار عليه بولغانين بأن يختار كلماته بعناية أكبر.
وأثناء التشخيص كان بيريا منفعلاً للغاية وقد لاحظ ذلك الأمر الأطباء وسفيتلانا وأفراد الحراسة. وربما كان سلوكه ناجماً عن فرحه بالانتصار والتخلص من سيف ستالين المسلط عليه في الأونة الأخيرة أو أن هذا يرجع إلى مخاوف ما تثير قلقه واضطرابه. ومع ذلك فقد كان يوحي، في الوقت نفسه، بأنه الآن الزعيم الأول في البلد.
وحول ظروف وفاة ستالين تحدثت ابنته سفيتلانا آليلويفا في كتابها "20 رسالة إلى صديق" الصادر بالولايات المتحدة بعد هروبها إلى هناك في عام 1967. وقد قالت أنها وصلت إلى كونتسيفو في صباح الثاني من آذار/مارس ووصفت حالة والدها كالاتي: "... بدا نزاعه مع الموت رهيباً إذ أنه كان يختنق أمام أنظارنا. وفي لحظة قبيل النهاية فتح عينيه فجأة وجال بنظره جميع الواقفين حوله وكانت نظرته مخيفة تأرجحت ما بين الجنون والغضب. وكان يمتلكه الرعب أمام الموت... وفجأة حصل ما لم أفهمه ولا أفهمه حتى الآن ولا قدرة لي على نسيانه حيث رفع يده اليسرى وكأنه يملي علينا أمراً ما من فوق أو كأنه يلعننا... لقد مرت عشر ساعات ما بين اكتشاف حالته المرضية ووصول الأطباء لإسعافه".
ورغم اعتراف سفيتلانا بأنه كان من المتعذر إنقاذ ستالين في تلك اللحظة إلا أنها حمّلت بيريا كامل المسؤولية عن التقاعس، الذي جرى بالنسبة لمسألة إسعاف والدها، دون أن تشير إلى أحد غيره من أفراد الحرس أو المسؤولين الكبار.
في الرابع من آذار/ مارس عام 1953 أبلغت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس الوزراء الشعب السوفيتي عن طريق الإذاعة أن حالة الرفيق ستالين الصحية حرجة منذ الثاني من آذار/مارس نظراً لتعرضه إلى نزيف دماغي أدى إلى فقدانه وعيه وأحدث شللاً في الذراع اليمنى والساق مع فقدان ملكة الكلام.
وقبل وفاة ستالين بساعتين تقريباً أي في مساء الخامس من آذار/مارس انعقدت في الكرملين جلسة مشتركة غير اعتيادية لهيئات السلطة الرئيسية - اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والحكومة، ومجلس رئاسة السوفيت الأعلى للاتحاد السوفيتي. وقد أقرت الجلسة التوزيع الجديد للصلاحيات بين هيئات البلد القيادية. وقد تقرر تكليف خروشوف بتركيز عمله في اللجنة المركزية كسكرتير(دون إلحاق أي صفة بهذه الكلمة – أول أو ثانٍ إلخ.) وإعفائه من منصب رئيس منظمة موسكو الحزبية، وتسليم مالنكوف منصب رئاسة الحكومة، وتعيين بيريا وزيراً للداخلية ونائباً لرئيس الحكومة مع دمج وزارة أمن الدولة بوزارة الداخلية. وبقي بولغانين وزيراً للدفاع وأصبح المارشال غيورغي جوكوف والمارشال ألكسندر فاسيلفسكي نائبين له. وعيّن مولوتوف وزيراً للخارجية، واستلم ميكويان منصب وزير التجارة الخارجية، وانتخب فوروشيلوف رئيساً لمجلس رئاسة السوفيت الأعلى بدلاً من نيكولاي شفيرنيك، الذي ترأس مجلس الاتحاد العام للنقابات السوفيتية. كما جرى حذف أسماء أعضاء المكتب السياسي الستة عشر، الذين أضافهم ستالين في المؤتمر 19 للحزب خريف عام 1952، باستثناء ميخائيل بيرفوخين ومكسيم صابوروف.
وفي الساعة التاسعة والخمسين دقيقة من مساء يوم الخامس من آذار/ مارس توفي بعد إصابته بنزيف حاد في الدماغ. وعلى الفور أعلن عن طريق الإذاعة عن وفاة الزعيم السوفيتي . وقد قام الأكاديمي الكسندر ميسنيكوف بتشريح الجثة بحضور مجلس استشاري رفيع المستوى. ولكن لم يكن ضمن أعضاء هذا المجلس أي خبير في الطب الشرعي. وفي الوقت نفسه قررت النخبة الحاكمة تحنيط جثة ستالين ووضعه في الضريح إلى جانب لينين.
رحل الزعيم السوفيتي الأوحد تاركاً مؤسسة سلطوية وإيديولوجية وثقافية راسخة أسسها وأشرف عليها طيلة ثلاثة عقود بالإضافة إلى جهاز بوليسي واستخباراتي ضخم ومؤسسة عسكرية عملاقة. وقد أحدثت وفاة ستالين تخمينات وأساطير عديدة لم تنقطع حتى الآن. فإن المواطنين السوفيت المعتادين على قراءة ما بين السطور رأوا في رحيل ستالين المفاجئ شيئاً مثيراً للشكوك والارتياب. وآنذاك انتشرت داخل البلد وفي الغرب بشكل خاص إشاعة تشير إلى ان ستالين لم يمت على نحو طبيعي وإنما جرى تسميمه وأن وفاته أنقذت بيريا من الهلاك المحتوم. وفيما بعد استند أصحاب هذه المقولة إلى شهادة خروشوف ، الذي أعلن أن بيريا لم يخف فرحته بخصوص ما حصل وفسر هؤلاء ذلك بمشاركته المباشرة أو غير المباشرة في وفاة ستالين. ويبدو أن هذه المقولة المذكورة مغرية جداً ولكنها تفتقر إلى الأدلة باستثناء مسألة التأخير في استدعاء الأطباء حيث راجت إشاعات قوية تؤكد أن بيريا قد ترك ستالين 30 ساعة بدون علاج بعد إصابته بجلطة دماغية مما أدى إلى استحالة شفائه.
خدم بيريا وأعضاء المكتب السياسي الآخرون ستالين بكل إخلاص غير أنه في الوقت نفسه كانت تنقصهم الشجاعة لإقصائه عن الحكم. وقد كانوا حريصين كل الحرص على سلامتهم الشخصية ولم يهتموا بأي شيء آخر.(ميخائيل غيللر و الكسندر نيكريتش. تاريخ روسيا 1917-1995، الطوباوية في السلطة، ، دار نشر"ميك"، 2000 ص. 70- 71، و 77).
وخلال هذه الجلسة حدد يوم 9 آذار/ مارس لتشييع جنازة ستالين. وقد وضع الجثمان بعد ظهر يوم 6 آذار/ مارس في قاعة الأعمدة بدار اتحاد النقابات القريبة من الساحة الحمراء لإلقاء النظرة الأخيرة على الزعيم السوفيتي الراحل. ووقف إلى جانب النعش قادة الحزب والدولة، وكذلك زعماء العديد من الأحزاب الشيوعية الأجنبية. وكان ضمنهم الزعيم الألماني الشرقي فالتر اولبريخت، ورئيس الحزب الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي، وزعيمة الحزب الشيوعي الإسباني دولوروس ايباروري، وكذلك رئيس وزراء فنلندا اورهو كيكونين. وقد أحضر الوفد الصيني أكاليل الزهور باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وزعيم الحزب ماوتسي تونغ.
وفي شوارع موسكو المؤدية إلى وسط المدينة حيث الكرملين والساحة الحمراء تجمهر مئات الألوف من المواطنين الراغبين بمشاهدة الجنازة وقد أدى التدافع الشديد وخاصة عند ساحة"تروبنايا" إلى وقوع آلاف الضحايا، الذين لا يزال عددهم الدقيق مجهولاً نظراً لعدم رفع السرية عن ذلك حتى الآن أو لأن السلطات آنذاك لم تكن تسجل السبب الحقيقي في شهادة الوفاة.
وفي الساعة العاشرة والربع صباحاً انطلق موكب الجنازة باتجاه الساحة الحمراء بمصاحبة موسيقى المارش الجنائزي لفريدريك شوبان. وقد سار وراء النعش أعضاء مجلس رئاسة اللجنة المركزية (المكتب السياسي)، ونواب السوفيت الأعلى للاتحاد السوفيتي، ورؤساء وفود الأحزاب الشيوعية الأجنبية، وموكب المرافقة العسكرية إلى جانب العديد من المارشالات والجنرالات حيث حمل بعضهم أوسمة ستالين العسكرية والحكومية.
واجتمع في الساحة الحمراء ممثلون عن سكان موسكو ووفود الجمهوريات الاتحادية والجمهوريات والأقاليم والمناطق ذاتية الحكم، إلى جانب ممثلي الصين الشعبية ودول أوروبا الشرقية والدول الأخرى.
وقد وضع جثمان ستالين أمام ضريح لينين ونقش عند مدخل الضريح الاسمان – لينين وستالين. وافتتح الاجتماع الجنائزي رئيس لجنة تنظيم الجنازة خروشوف وأعطى الكلمة إلى رئيس الوزراء سكرتير اللجنة المركزية للحزب مالنكوف ثم تبعه بيريا وأعقبه مولوتوف.
وقد وقف فوق منبر الضريح إلى جانب القادة السوفيت زعماء وممثلي الصين والديمقراطيات الشعبية وقادة الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية ومنهم: فالتير اولبرخيت وماتياش راكوشي وكليمنت غوتفالد وبالميرا تولياتي ودولوريس إيباروي وجاك دوكلو وغيرهم.
في الساعة 54, 11 أعلن خروشوف عن اختتام الاجتماع الجنائزي ثم رفع القادة السوفيت تابوت ستالين وحملوه إلى داخل الضريح حيث يرقد لينين. وفي الساعة 12 دقت صفارات الإنذار في المؤسسات الصناعية بجميع أنحاء البلاد ودوت 21 طلقة تحية من المدافع داخل الكرملين بالإضافة إلى 5 دقائق صمت. كما شهدت الساحة الحمراء مسيرة عسكرية جنائزية وتبعها عزف النشيد الوطني للاتحاد السوفيتي.
وفيما بعد وبناء على قرار المؤتمر 22 للحزب الشيوعي السوفيتي، الذي نص على دفن جثمان ستالين وذلك "نظراً لأن أعمال القمع والتنكيل الجماعية بحق الناس الشرفاء وغير ذلك من الانتهاكات الجسيمة تجعل من المتعذر بقاء جثمانه في ضريح لينين وإلى جانبه". وفي ليلة 31 تشرين 1/أكتوبر عام 1961 أُخرج جثمان ستالين المحنط من الضريح وجرى دفن الزعيم السوفيتي عند حائط الكرملين.
وكان لإذاعة خبر وفاة ستالين المعظّم وقع الصاعقة على جميع المواطنين السوفيت وجاءت ردود فعلهم ومشاعرهم بصدد هذا الحدث مختلفة حيث تراوحت لدى الكثيرين بين الحيرة والإحباط والذهول التام. وكان هؤلاء يتساءلون مذعورين: كيف سنعيش بدونه؟ ولكن لدى عائلات المعتقلين وأهالي ضحايا الإرهاب الستاليني ساد فرح حذر وإيمان بانتصار العدالة. ونشبت في أوساط الطلبة نزاعات عديدة ناجمة عن اختلاف المواقف إزاء نهج الزعيم السوفيتي الراحل. وقد تجاهل بعض الطلبة في موسكو جنازة ستالين وفضلوا الذهاب لتشييع جنازة المؤلف الموسيقي الشهير سيرغي بروكوفييف، الذي وافاه الأجل أيضاً في الخامس من آذار/مارس.
أما في معسكرات الاعتقال فقد عم الفرح لوفاة "صاحب الشاربين" حيث أدرك الجميع تقريباً أن موت ستالين يعني بالنسبة لهم الأمل القوي بصدور عفو عام والخلاص أخيراً من جحيم المعسكرات. وكانوا في ذلك على صواب تام.
وما أن تم تشييع جثمان الزعيم السوفيتي ووضعه إلى جانب مرقد لينين في الضريح بالساحة الحمراء حتى توقفت الصحف عن ذكره في عناوين المقالات، ولم يعد أحد يستشهد به في خطاباته أو مقالاته.
وحسب شهادة ابنة ستالين سفيتلانا أليلويفا فقد فصل من العمل طاقم منزل والدها في كونتسيفو بأكمله بعد أيام قليلة من وفاته بأمر من بيريا. كما جرى إرسال العديد من هؤلاء مع عائلاتهم إلى مدن ومناطق أخرى. أما العقيد إيفان خروستاليوف فقد سرح من الخدمة في أيار/مايو عام 1953 ثم ما لبث أن توفي عام 1954 وعمره لا يتجاوز 47 عاماً. وكما يزعم البعض فإنه أخذ معه إلى القبر أحد الأسرار العديدة التي أحاطت بحياة ستالين وربما كان هذا السر هو الأهم.
وعقب مراسم تشييع ستالين وُضعت اجهزة تنصت في منزل نجله فاسيلي. وبعد ثلاثة اسابيع سرّح الجنرال الطيار فاسيلي ستالين من الجيش لرفضه الانتقال من موسكو إلى إحدى المناطق العسكرية وقيادة القوى الجوية هناك. ولم يمض على ذلك سوى شهر واحد حتى جرى اعتقاله حيث اتهم بمزاولة الدعاية المعادية للسوفيت وسوء استخدام الوظيفة. وقد خرج من السجن في ربيع عام 1961 ليفارق الحياة في مدينة قازان بعد فترة وجيزة لا تتعدى عاماً(19 آذار/مارس عام 1962). وقد أشارت شقيقته إلى أنه "مات في ظروف غامضة ولم يكن هنالك أي تقرير طبي عن وفاته ولا تشريح لجثته... فمازالوا لا يرغبون في الكشف عن كافة ملابسات وفاته...".
أصبحت قصة وفاة ستالين كنزاً حقيقياً للعديد من الكتاب بدءاً من الكتاب المحترفين والصحفيين المؤهلين وانتهاء بممثلي الصحافة الصفراء. ومن ذلك أن الكاتب المسرحي المعروف إدوارد رادزينسكي أشار في كتابه" ستالين – حياته كلها" إلى أنه لا يستبعد أن يكون العقيد خروستاليوف متورطاً في موت ستالين القسري، فهو الذي أبلغ طاقم الخدمات والحراسة تعليمات الزعيم السوفيتي الغريبة جداً بأنه يمكنهم الخلود إلى النوم حيث لن يحتاج إلى أحد في غضون الساعات القادمة. فلا يمكن لستالين المعروف بتوجسه البالغ مهما كانت الأحوال والظروف أن يصدر تعليمات كهذه. ومن جهة أخرى يؤكد الكاتب بأن التأخير في استدعاء الاطباء من جانب بيريا وخروشوف ومالنكوف قد أدى على الأغلب إلى وفاته.
أما المؤرخ يوري موخين فقد طرح قراءته الخاصة لأحداث الأيام الأولى من شهر آذار / مارس عام 1953 في كتابيه" بيريا ومقتل ستالين" و" لماذا قُتل ستالين؟" مشيراً إلى أن وزير أمن الدولة سيمون إغناتيف ومالنكوف وخروشوف كانوا المنظمين الرئيسيين لمقتل الزعيم السوفيتي. وفي كتاب سيرغي كريمليوف" بيريا العظيم. أفضل مدير أعمال في القرن العشرين" يؤكد المؤلف أن ارتكاب جريمة قتل ستالين يعود إلى الثلاثي التالي: الطابور الخامس المتمثل في الصهاينة الملهِمين لهذا العمل وخروشوف وإغناتيف. ويرى الكاتب أن عملية القتل جرت باستخدام آنية تحتوي على الزئبق أخفيت في مكان ما من المبنى الكائن في كونتسيفو.
في كتابه"لغز وفاة ستالين: تآمر بيريا" يرى المؤرخ السوفيتي المهاجر إلى الغرب عبد الرحمن أفترخانوف أن أسباب وفاة ستالين واضحة وضوح الشمس. فهي تتجلى في الامتناع المتعمد عن تقديم المساعدة الطبية العاجلة للمريض من خلال التأخر في استدعاء الأطباء. ويستدرك المؤلف قائلاً:" ولكن ثمة سؤال آخر لا يزال لغزاً. فهل يا تُرى كانت السكتة الدماغية طبيعية أم أنها حرضت بشكل اصطناعي من قبل عملاء بيريا الطبيين في ليلة 28 شباط-1 آذار/ مارس عندما كانت مجموعة الأربعة تشرب النبيذ مع ستالين؟ ربما سيظل هذا الأمر سراً من أسرار الكرملين لفترة طويلة قادمة".
ويضيف أفترخانوف في كتابه قائلاً:" على كل حال لا شك في أن بيريا كان يشعر في الأسابيع الأخيرة من حياة ستالين بأن أيامه أصبحت معدودة وأن الزعيم في طريقه لتصفيته كما سبق وصفى العشرات من قادة الدولة السوفيتية. ولكنه، لحسن حظه، تعلم بامتياز قراءة أفكار ستالين الخفية والكشف عن مجمل خطته الاستراتيجية".
وثمة مقولة مختلفة تماماً بهذا الصدد تشير إلى أن ستالين في واقع الامر فارق الحياة في الأول من آذار/ مارس. وحيث أن القيادة السوفيتية كانت بحاجة ماسة إلى مهلة معينة من الوقت لإجراء توزيع جديد للمناصب والصلاحيات في ضوء هذا الحدث الجلل، إلى جانب وضع الترتيبات اللازمة لتشييع ستالين، فقد قررت المجيء بشبيه ستالين الذي استلقى على الأريكة عوضاً عنه خلال تلك الايام الخمسة. ويستند أصحاب هذه الرواية إلى أقوال ابنة ستالين سفيتلانا بعد رؤيتها لوجه أبيها في اليوم الثاني من آذار/مارس بكونتسيفو حيث اشارت إلى أنها كادت لا تعرفه إذ أن وجهه تغيّر كثيراً بالنسبة لها.
على كل حال لا تزال الظروف الحقيقية لوفاة ستالين لغزاً محيراً حتى أيامنا هذه. وربما سيماط اللثام عن ذلك عندما تتاح الفرصة لرفع السرية عن كافة وثائق الأرشيف في روسيا الاتحادية المتعلقة بظروف وملابسات وفاة ستالين .
970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع