د. سعد ناجي جواد*
حدثان يستحقّان الوقوف عندهما: حرق القرآن الكريم وذكرى عاشوراء.. ما هو المطلوب من مراجع الشيعة الكِبار ومن شباب العراق؟
برز في الأسابيع القليلة الماضية حدثان، أو بالأحرى حدث وظاهرة، يستحقّان الوقوف عندهما ومراجعة آثارهما. الحدث الأول تمثّل في إقدام نكرات على حرق وتدنيس القران الكريم وردة الفعل الإعلامية عليه، حيث إمتلات وسائل الاعلام المقروءة والمرئية وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار بالكتابات والفيديوهات عن ذلك الحدث الدنيء. والتي ساهمت كلها في اضفاء شهرة لا يستحقها أرذال ارتكبوا عملا وضيعا. ابتداءا لا يمكن لأي مسلم حقيقي او اي انسان يحترم الغير، ان لا ينزعج من مشاهدة هكذا اعمال مسيئة، ولكن كان يجب ان تفسر هذه الاعمال بالأساس بانها دليل على افلاس الاطراف الكارهة للإسلام، والتي لم تنجح كل محاولاتها في الوقوف امام انتشار هذا الدين الحنيف في كافة ارجاء العالم وفي أوربا بالذات. وان الصغار والتافهين الذين يقومون بها هم بالأساس مدفوعين لذلك وطالبي صيت سيء، خاصة اذا ما علمنا ان اهم الحركات المقاومة للاحتلال الصهيوني وللامبريالية الغربية هي حركات إسلامية وتسترشد بالقران الكريم، (والتي تختلف اختلافا جذريا مع الحركات الإرهابية التي تدعي الاسلام).
ربما من المفيد التذكير بان هذا العمل او ممارسة تدنيس وحرق المصاحف، لم يكن بالجديد. فلقد بدأت في عام 1530 عندما امر البابا كليمنت السابع بحرق اول نسخة من القران الكريم ترجمت الى اللاتينية. ثم اصدرت محاكم التفتيش الإسبانية بعد سقوط الأندلس قرارات مشابهة شملت احراق المصاحف وكل ترجمة لها، وهدمت دور عبادة وغيرت الجوامع الى كنائس او متاحف. وتكررت العملية اكثر من مرة اثناء الحروب الصليبية.
وفي الجزائر شعرت فرنسا بأن القران الكريم يقف حجر عثرة في طريق الفرنسة فأحرقت القوات الفرنسية المحتلة نسخا منه، وقام توماس روبير بيجو الحاكم العام للجزائر انذاك بإستقدام المبشرين وأعدم شخصيات دينية محترمة كثيرة، وحرق الزوايا التي كانت تُعلم القران بكل محتوياتها، ولكن كل ذلك لم يغير من حقيقة أن الاسلام والعروبة انتصرتا في الجزائر وان اهم عامل ساهم في ذلك كان كتاب الله الكريم.
وعندما احتلت العصابات الصهيونية ارض فلسطين اتبعت نفس الأساليب، من خلال تدمير دور العبادة بكل محتوياتها من المصاحف في المدن والقرى التي شهدت مذابح مروعة مثل دير ياسين واللد وخان يونس وجنين. ورغم كل تلك المحاولات ظل كتاب الله وكلماته هادية للناس وحافظة للغتهم، والأهم المنارة التي ترشدهم الى النضال والمقاومة والدفاع عن المقدسات الاسلامية وعن وطنهم، ناهيك عن كونه الكتاب الحافظ للغتهم العربية.
من وجهة نظر متواضعة ان من يقوموا بهذه الأفعال المقصودة والاستفزازية يجب ان يقابلوا بالإهمال ولا يتم الترويج لإعمالهم كي لا تضفي على مرتكبيها صيت حتى وان كان سيئا، لان هذا كان مرادهم ومراد من حرضهم على هذه الأفعال الدنيئة بالأساس. وان يتم التركيز على محاسبة الدول التي تسمح بذلك.
الظاهرة الثانية التي تستحق الانتباه والتي تكاثرت بصورة كبيرة في ذكرى عاشوراء، هي الأحاديث والتصرفات المسيئة للحدث ولآل البيت الاطهار. لا يختلف اثنان على حقيقة ان ثورة الامام الحسين عليه السلام كانت وستظل نموذجا لرفض الظلم والطغيان والانحراف عن النموذج الاسلامي الذي بداءه الرسول الكريم ﷺ. ولكن مع تكاثر القنوات الفضائية الطائفية (من كافة المذاهب) ووسائل التواصل الاجتماعي المنفلتة، بدأت منذ مدة غير قليلة تنتشر خطب وقصص وحكايات حول مأساة كربلاء لا يمكن وصفها سوى بأنها مسيئة وبكونها خزعبلات وحكايات كاذبة لا يمكن ان يقبلها عقل طفل صغير. وتكاثرت هذه الظاهرة بشكل مؤسف حقا، ولكن المؤسف أكثر هو سكوت المرجعيات الكبرى عليها، وبالذات مرجعية النجف الأشرف، خاصة وان اغلب هذه التفاهات تصدر عن منابر حسينية في النجف وكربلاء. وبدلا من اتخاذ هذه الذكرى مناسبة لنشر معانيها النضالية السامية في مقارعة الظلم والاستبداد والفساد والانحراف عن النهج الاسلامي الحنيف، انقلبت هذه الذكرى في احيان كثيرة، وخاصة في العراق، الى محاولات لتجهيل الناس لتغطية الفساد الهائل او لفسح المجال للفاسدين لكي يستمروا في نهبهم لثروات العراق، حتى بدأوا يستخدمون السحت الحرام الذي حصلوا عليه في الإكثار من الممارسات المتخلفة، ولغرض مقصود لا يحتاج الى ذكاء كبير لاكتشافه. ويستطيع اي انسان ان يقارن بين ما وصلت اليه ايران وحركة حزب الله من تقدم وتطور مشرّفين، مع تمسكهما في الاحتفال بهذه المناسبة وأحيائها. كما يستطيع كل ذي عقل ان يكتشف الفرق بين منهج يسعى الى التعامل مع هذه الذكرى والمناسبة الكبيرة والمهمة بالتقدير الذي تستحقه والتذكير بمعانيها السامية، وبين من يحاول ان يستغلها لنشر الجهل والترويج لأحداث وقصص خيالية ومفبركة.
في عراق الخمسينات والستينيات كانت العديد من البيوتات الكبيرة في بغداد تحرص على إقامة مجالس عزاء حسينية، وكانت تلك المجالس نموذجا للوحدة الوطنية اولا حيث كان يحضرها كل وجوه المنطقة بل والمدينة وممثلي الطوائف المختلفة، وثانيا كانت تتخللها كلمات تستنبط المعاني السامية لمسيرة الامام الحسين وثورته. وأما في اثناء ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني وبعدها فلقد كانت منابر المجالس الحسينية المنصات التي تُحَشِد التأييد والدعم للثورة وتثير الروح الوطنية بين الناس ضد الاحتلال البريطاني.
اكرر وأقول انه في ظل الإسفاف في تشويه ثورة الحسين وما يصاحبه من احاديث وروايات كاذبة ما انزل الله بها من سلطان، فان المرجعية الدينية في النجف الأشرف اولا، و العلماء المسلمين الشيعة المشهود لهم برجاحة العقل والعلم الغزير ثانيا، مطالبين بالوقوف بحزم امام هذه الظاهرة المسيئة لمكونهم ولمذهبهم، خاصة وان هذه الظاهرة بدأت تستغل من قبل أطراف مختلفة لتشويه الفكر الاسلامي الشيعي المتنور واتخاذ تلك الافلام اداة للتندر على الطائفة بأكملها.
اخيرا فان ما يحدث بهذا الخصوص يؤكد مرة اخرى ان نجاح الغزو الامريكي-البريطاني-الصهيوني لم يتمثل في احتلال العراق في 2003، وإنما كان في زرع الفتن الطائفية والعرقية وتمزيق المجتمع العراقي على هذا الأساس، بدليل انزلاق اصحاب أقلام وشهادات ومن كل المكونات الى هاوية التحدث بالمفردات الطائفية والعنصرية. وعندما نجحت ثورة تشرين 2019 في تجاوز هذه المفردات تم سحقها بعنف ودموية وذلك لضمان بقاء المجتمع العراقي على هذا التشرذم والتخلف. ولكن التاريخ يخبرنا بان العراق تعرض لمثل هكذا محاولات في ايام الصراع العثماني- الصفوي، وان بريطانيا اعادت الكرة بعد احتلال العراق اثناء الحرب العالمية الاولى، الا ان العراقيين في كل مرة اثبتوا انهم قادرون على الحفاظ على وحدتهم الوطنية، ولو بتضحيات كبيرة. وهذا ما سيحققه شباب العراق مهما طال الزمن، ورغم كل ما زرعه الاحتلال والأطراف الخارجية، عربية وغير عربية، داخل بلدهم.
*كاتب وأكاديمي عراقي
1633 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع