د.سعد ناجي جواد*
جنين مفخرة الجيش العراقي الاولى وحافظة اجساد شهداءه الطاهرة.. تسطر بطولات جديدة. ما هو السبب الحقيقي وراء اقتحام مخيم جنين؟ وماذا تقول التحليلات الاسرائيلية عن ما يجري داخل الضفة المحتلة؟
في البداية، ولمن لا يعرف قيمة جنين بالنسبة للعراقيين، ولجيشها البطل بالذات، اقول منذ ان دخل الجيش العراقي ارض فلسطين في عام 1948 اكتسبت جنين مكانة خاصة في قلوبهم. فهي التي حررها القائد البطل المرحوم المقدم الركن (اللواء) عمر علي البيرقدار بعملية بطولية نادرة ارعبت العصابات الصهيونية وجعلتهم يفرون منها، وهي التي تحتضن مقبرة شهداء الجيش العراقي الذين سقطوا في تلك المعركة (207 شهداء)، وهي التي ودعها ابطال الجيش بالدموع عندما اجبروا على الانسحاب منها بعد تحريرها، بقرار من الحكومة العراقية وبضغط بريطاني انذاك. ووثق تلك الحادثة الاليمة وبطولة ابناء جنين المرحوم النقيب (اللواء الركن) محمود شيت خطاب الذي شارك بالمعركة، بقصيدة مؤلمة القاها عندما نظر الى المقبرة وبكى وقال في بعض ابياتها:
هذي قبور الخالدين فقد قضوا
شهداء حتى انقذوا الاوطانا
اجنين انك شهدت جهادنا
وعلمت كيف تساقطت قتلانا
ورايت معركة يفوز بنصرها
جيش العراق وتهزم الهاجانا
اجنين لا انس البطولة حية
لبنيك حتى ارتدوا الاكفانا
اني لاشهد ان اهلك كافحوا
غزو اليهود وصارعوا العدوانا
اجنين يا بلد الكرام تجلدي
ما مات ثارٌ ضرجته دمانا
ان الخلود لمن يموت مجاهدا
ليس الخلود لمن يعيش جبانا
تذكرت هذه الاحداث التي كنا نتعلمها في مدارسنا وانا اعيش عودة ابناء جنين، ولوحدهم، لمقاومة يعيدوا لها تاريخها المشرف ويسيروا على نهج ابائهم واجدادهم.
لا يخطي من يقول ان ما يحدث في جنين يكتسب اهمية كبيرة في نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، لسبب بسيط انه ياتي كبرهان على فشل كل السياسات والمخططات والاستراتيجيات الاسرائيلية التي حاولت من خلالها الحركة الصهيونية ان تقول انه لا يوجد شعب فلسطيني، وان (عرب اسرائيل) اصبحوا جزءا من (دولة اسرائيل). الشيء الاكثر دلالة ان المقاومة في الضفة الغربية وفي جنين بالذات تصاعدت بصورة ملفتة للنظر وبدات باستخدام اسلحة جديد كان من ضمنها صواريخ اسقطت مسيرات اسرائيلية، وهذه الحقيقة والاصرار على المقاومة هي ما اقلق حكومة الاحتلال.
تقول احدى التقارير الاسرائيلية ان القيادات العسكرية اعدت عدة خطط لمهاجمة مخيم جنين ومناطق اخرى مجاورة منذ عام، وعندما اتفقت على خطة لاقتحامه عرضتها على نتنياهو وصادق عليها. والكل يعلم انه فعل ذلك لسببين الاول ان هكذا عملية ستحرف انتباه الاسرائيليين عن المشكلة التي يعاني منها داخليا بسبب اصراره على اجراءات التعديلات القضائية، والثاني هو لزيادة (شعبيته) للانتخابات القادمة التي قد تحدث في اي وقت. ولكن حساباته فشلت مرة اخرى.
ويضيف التقرير الا انه وعلى الرغم من سرية هذه الخطة فان المعلومات عنها وعن تفاصيلها تسربت للمقاومة في جنين فاختارت ان تربض في مخابئها مترقبة لما سيحدث، مع زرع العبوات الناسفة على جوانب الطرق عند مداخل المخيم وشوارعه. وادعت احدى هذه الصحف ان سبب وقوع هذا العدد من الشهداء كان الاستخدام المكثف للقصف الجوي الاسرائيلي الاجرامي والعشوائي.
الخطة الاسرائيلية بالاساس كانت تهدف الى توجيه ضربة إلى كبار المسؤولين في “كتيبة جنين”، وإلى مركز عملياتهم، تشبه الضربة التي وُجِّهت في نابلس ضد كتيبة عرين الأسود . ويقول تقرير اخر ان الفارق بينها وبين العملية في نابلس هو أنه كان هناك مركز واحد مهم في القصبة في نابلس. بينما في جنين هناك عدة مراكز – “حماس” والجهاد الإسلامي و”فتح” – بالإضافة إلى مراكز ثانوية اخرى. مصدر اسرائيلي اخر اعطى سببا مهما اخر للعملية حيث اكد ان الادعاء بان العملية هي استعراض للقوة بهدف انهاء (دور جنين كمنطقة امنة للارهاب)، هو غير صحيح. والسبب الحقيقي والمؤلم هو ان العملية تهدف الى (تمهيد الطريق لعودة السلطة الفلسطينية الى جنين). واكد مسؤول إسرائيلي كبير رفض ذكر اسمه، (ان هذا الهدف هو الاساس من كل العملية، وهو ليس فقط لاعادة السلطة الفلسطينية الى جنين فقط وانما الى نابلس والمناطق المجاورة، والتي فقدت وجودها هناك منذ فترة ليست بالقصيرة)، واضاف ان احد اسباب فقدان السلطة لمكانتها، ليس فقط بسبب فشلها في تمثيل الحقوق الفلسطينية وايقاف الاستيطان وانتشار الفساد الكبير في داخلها والاستمرار بالتنسيق الامني مع الحكومة الاسرائيلية. ويضيف لذلك ان حكومة نتنياهو تتحمل بعض من مسؤولية اضعاف السلطة من خلال ايقاف عملية التفاوض والتمدد بالمستوطنات وسحب كل الموارد المالية التي يفترض ان تكون تحت تصرف السلطة، الامر الذي اثر على الخدمات وانقطاع المرتبات للموظفين الفلسطينين مما تسبب في اضرابات عديدة.
وعلى الرغم من ادعاء نتنياهو ان العملية ستستمر حتى تحقيق اهدافها، الا ان النتائج المحدودة التي حققتها، باستثناء العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا، اظهر فشل العملية في القضاء على المقاومة المتصاعدة.
هدف العملية ومدتها اختلف بين ما صرح به الجيش الاسرائيلي، بانها محدودة وستستغرق مابين 24 الى 48 ساعة، ومابين تصريحات لحكومة اليمين المتطرف تقول انها (ستستمر حتى القضاء على كتيبة جنين)، اما العنصري بن غافير، فقد صرح بان العملية ستشمل ( تدمير بنايات وابادة الارهابيين، ليس واحد او اثنين بل المئات منهم، وحتى الالاف اذا استدعى الامر). طبعا هذا التصريح بحد ذاته يكشف سعة حجم المقاومة وانتشارها ويحمل في طياته اشارة واضحة الى فشل اي حل عسكري لاخمادها. عكس هذا التصريح العنجهي فان الجيش كان ضد فكرة عملية عسكرية كبيرة، وكذلك كان موقف ثلاث رؤوساء وزراء، نتنياهو الحالي وسابقيه ناتالي بينيت ويائير لابيد، وذلك بعد مقارنة مخاطر تصعيد العمل العسكري مع احتمالات وقوع عدد كبير من الضحايا بين صفوف القوات الاسرائيلية. ولكن ضغط الاطراف اليمينية وكذلك المستوطنين الاسرائيليين اضطر قادة الجيش الى تصعيد العلميات اكثر مما هو مخطط له.
واخيرا وهو الاهم، يخلص احد الكتاب الاسرائليين (جوناثان شامير في جريدة هاآرتس الاسرائيلية) الى ان ما حدث في جنين هو فقط البداية او المقدمة، وهو تحذير مسبق الى انفجار اكبر لن يكون بالامكان السيطرة عليه ليس فقط في الضفة الغربية، وانما سيمتد الى الجانب الاخر من الاراضي المحتلة منذ عام 1948 (الخط الاخضر). واذا ما تذكرنا ما فعله ابناء جنين ابان الانتفاضة الثانية من ايقاع دوريات اسرائيلية في كمائن محكمة يمكننا ان نتصور ما سيحدث في الاسابيع والاشهر القادمة. علما بان كل الاخبار تشير الى ان القوات الاسرائيلية ما تزال تتجنب الدخول الى ازقة المخيم الذي تبلغ مساحته كيلومتر مربع واحد!
خلاصة القول ان مايجري في جنين، بل وفي الضفة الغربية من فتح جبهة للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي اصبح حقيقة لن تستطيع القوة العسكرية الاسرائيلية ان تنهيها مهما اوتيت من جبروت ومن نزعة نازية للقتل. وهذه الحقيقة يثبتها ابطال جنين اليوم كما اثبتها ابطال نابلس قبل ذلك، وان المقاومة لم تعد حكرا على غزة، وانه لم يعد للسلطة الفلسطينية سوى خيارين، اما ان تقف مع المقاومة وتمحي خطاياها السابقة، او تستمر في تعاونها مع الاحتلال الاسرائيلي بصورة مهينة وتضع نهاية لمكانتها فلسطينيا. من ناحية اخرى فان على كل الاطراف الفلسطينية المقاومة تقع مسؤولية الوقوف مع ابطال جنين اليوم ومع كل مقاوم للاحتلال الاسرائيلي، لان اللحظة المناسبة للتخلص من الاحتلال قد اتت، والتفريط بها عن طريق تمكين الجيش الاسرائيلي بالاستفراد بكل طرف لوحده ليس في مصلحة الشعب الفلسطيني ولا مستقبل نضاله للتخلص من الاحتلال.
وسلاما لجنين الحبيبة والرحمة لشهدائها الابرار. وان ينصركم الله فلا غالب لكم.
*كاتب واكاديمي عراقي
2158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع