الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الجسر العتيق بالموصل.. تاريخ حافِل بالأَحْداث- الجزء الرابع
الجسر العتيق ليس هو مجرد جسر يربط الجانب الشرقي من الموصل بجانبها الغربي، بل هو مستودع ذكريات لكل من عاش في الموصل، ولهذا الجسر ارتباط عاطفي مع جميع أهالي الموصل وكل من عاش فيها. ولا أعتقد أن هناك شخص عاش في الموصل وليست لديه ذكريات مع هذا الجسر بالمرور من فوقه أو تعمد العبور عليه سيرا على الاقدام منفردا أو مع صديق للاستجمام أو التمتّع بحديث أو التأمل بالمدينة القديمة التي تمتد بجواره أو إطعام طيور النوارس التي تحوم بأجوائه فوق دجلة الخير والعطاء.
وأذكر عندما سافرتُ إلى مصر سنة 1987 لحضور مؤتمر علمي هناك، التقيتُ بأحد الباعة المتجولين والذي سبق له أن عاش في الموصل. وعندما عرف بأني من الموصل سألني: كيف حال الجسر العتيق.. ما شاء الله عليه؟ وعندما سألته عن سبب سؤاله قال: كان عندي (بسطة) أبيع فيها عطور بجوار هذا الجسر.
يذكر الدكتور طارق الدليمي أنه بسبب التحاق العديد من أهالي الموصل بحركة رشيد عالي الكيلاني المدعومة من قبل العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سلمان والسياسي يونس السبعاوي، فقد كانت أولى محاولات بريطانيا لضرب الموصل قيام إحدى الطائرات الإنكليزية بضرب الجسر العتيق والذي لم يمر على افتتاحه بعد سوى بضع سنين. فدافع عن الجسر شرطة الموصل البواسل وأصابوا الطائرة ببندقية الفيكرس، وقد سقطت الطائرة الانكليزية، وسلم الجسر من التدمير.
ويضيف الدكتور الدليمي أنه في العاشر من نيسان/مايس ١٩٣٩م كان أهل الموصل ينتظرون قدوم الملك غازي لافتتاح محطة قطار الموصل، فكان مقتل الملك غازي في بغداد في حادث سيارة، فقام المواطنون بقتل القنصل الإنكليزي في الموصل وحرق القنصلية البريطانية الواقعة قرب محطة القطار. وقد انتشرت في وقتها اهزوجة شعبية رددها المتظاهرون في الموصل:
لا تفتل شاربك يا الجنت باغضنا ... لا تفتل شاربك فيصل خلايفنا
يقصدون الملك فيصل الثاني.
لقد أثار مقتل القنصل البريطاني غصب الإنكليز، وفي مايس 1941 قامت الطائرات الإنكليزية بقصف منطقة (رأس الجادة) الشعبية بالطائرات؛ وتُعرف هذه الحادثة باسم (دكة راس الجادة)، وقد راح ضحيتها أكثر من مائة شخص.
لقد توالت الأحداث على الجسر العتيق من حروب وفيضانات وهو صامد يؤدي دوره الخدمي على أكمل وجه، ثم جاءت فترة سقوط الموصل بين عامي 2014 و 2017 وازدادت أهمية هذا الجسر لكونه الشريان الرئيسي الذي يربط الساحل الأيمن من المدينة بساحلها الأيسر.
لقد أصبحت الجسور هدفا من قبل طائرات التحالف الدولي لعزل الساحل الأيمن من المدينة عن الأيسر، فتم قصف أربعة جسور من جسور الموصل الخمسة على دجلة ولم يبق سوى الجسر العتيق تحت الخدمة.
لقد تحمل الجسر العتيق جهدا هائلا في تلك الفترة، وتم استخدامه لحمل أثقل الأليات وهو صامد. ثم جاءت سنة 2016 فتم قصف الجسر العتيق من قبل طائرات التحالف الدولي مرتين، مما أدى إلى عزل الساحل الأيمن من المدينة عن الساحل الأيسر بالكامل.
لقد كان لتدمير الجسور الخمسة وقعا شديدا على المواطنين، وقد استعان بعض المواطنين بالزوارق لعبور النهر ونقل البضائع. وكانت المعاناة الكبرى للعوائل التي حدثت عندهم حالات وفاة لأن أغلب المقابر موجودة في أيمن الموصل
وبعد الإعلان عن تحرير الموصل في يوم 10 يوليو 2017 كان تدمير جسور الموصل الخمسة؛ فضلا عن جسرين آخرين على نهر الخوصر؛ يمثل أحد أبرز التحديات العاجلة.
لقد جرت معالجات سريعة من قبل الجهات المختصة وذلك بوضع معابر حديدية مؤقتة فوق الأجزاء المقصوفة من كل جسر، وكانت عملية العبور من فوق هذه المعابر بطيئة للزخم المروري الشديد عليها، وبحيث قد تتجاوز مدة عبور الجسر الساعة الكاملة أو أكثر.
ثم كان الجسر العتيق هو أول جسور الموصل التي تم إعادة تأهيلها. وفي 13 آذار/مارس 2018 قام رئيس الحكومة العراقية الأسبق حيدر العبادي بافتتاح الجسر العتيق، وقال إن ذلك جرى "بأيادٍ عراقية 100 بالمئة". وقد استذكر الناس في ذلك اليوم يوم إفتاح الجسر أول مرة من قبل الملك غازي قبل 84 سنة.
لقد تم افتتاح الجسر العتيق بعد تأهيله في احتفالية رسمية وشعبية كبيرة شارك بها طلبة المدارس، كما شاركت بعض السيارات القديمة في الاحتفالية حيث استذكر الناس أعذب الذكريات المرتبطة بهذا الجسر التراثي العريق.
يقول المواطن (علي سعيد)؛ عمره 59 عاما: " أنا سعيد لأنني أشهد افتتاح الجسر القديم الذي شهد جدي افتتاحه لأول مرة في العهد الملكي قبل نحو 84 عاماً.. فقد جاء الملك غازي لافتتاح الجسر القديم عام 1934، وقد وقف جدي (عبد الستار أسعد وشقيقه) إلى جوار الملك في افتتاح الجسر، وسارا معه وباقي الحضور على الجسر، وشاءت الصدف أن أحضر أنا نفس الحدث وهو افتتاح هذا الجسر بعد إعادة إعماره".
لم تكن عملية إعادة افتتاح الجسر العتيق أمرا عاديا لأهل الموصل، حيث تعشعش في كل ركن من أركان هذا الجسر أعذب الذكريات. وبعد إعادة فتح الجسر توافد إليه مواطنون قادمون من خارج العراق وظهرت ظاهرة أوربية معروفة انتقلت حديثا إلى الجسر العتيق، وهي ظاهرة (تعليق أقفال على اسيجته الجسر)، حيث تُحفر أسماء أشخاص على الأقفال وتُعلّق على سياج الجسر تعبيرا عن الحب الصادق. وقد أكد ناشطون أن "هذه الظاهرة قديمة في بعض الدول الأوربية حيث يجتمع العشاق ويحفرون اسمائهم على القفل ويعلقون القفل على الجسر".
لقد ذكرنا سابقا أنه في سنة ١٩٧١ نشر الأستاذ المصري في الهندسة المدنية (الهندسة الوصفية) الأستاذ يوسف نيقولا بحثا أوصى بموجبه إنشاء ممر ثاني فوق الجسر العتيق لكي يكون الجسر بممرين لتيسير حركة مرور المركبات.
لقد قامت الكوادر الهندسية في الموصل مؤخرا بتنفيذ هذه الفكرة، ولكن بطريقة أخرى، حيث قاموا باستنساخ الجسر العتيق وأنشأوا بجانبه جسرا ثانيا مشابها للجسر الأم.
إن عملية (استنساخ جسر) هي عملية إبداعية فريدة ورائدة تستحق الثناء، وأصبح من خلالها الجسر الوليد (الجسر العتيق الجديد) هو أول جسر مُستنسخ في العالم.
ومن خلال عملية الاستنساخ هذه تم تنظيم حركة المركبات وحُلَّت العديد من المشاكل المرورية، ليبقى الجسر العتيق بنسختيه الأصلية والجديدة شاهدا للأجيال على الإبداع العراقي في كل زمان ومكان.
وفي يوم الخميس 4 أيار/مايو 2023، أعلنت السلطات الرسمية في نينوى عن إعادة افتتاح الجسر العتيق من جهة أيمن المدينة باتجاه الجانب الأيسر ليصبح الجسر ذو ممرين مستقلين.
https://www.youtube.com/watch?v=2NANwp9HuII
1250 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع