أ.د. حيدر صبري شاكر الخيقاني
جامعة كربلاء- كلية التربية للعلوم الانسانية- قسم التاريخ.
أَضواء على نظام الحكم الملكي في العراق (1921-1958)
تأسس نظام الحكم الملكي في العراق عام 1921 بعد ان توج الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 23 اب من ذلك العام. واستمر العراق تحت الحكم الملكي حتى اندلاع ثورة 14 تموز 1958 واعلان النظام الجمهوري. وخلال الفترة الواقعة ما بين(1921-1958) تعاقب على حكم العراق ثلاث ملوك هم: فيصل بن الحسين(1921-1933) الملقب بـ "فيصل الاول"، وغازي بن فيصل(1933-1939)، وفيصل بن غازي(1939-1958) الملقب بـ"فيصل الثاني"، والذي تولى العرش تحت وصاية خاله الامير عبد الاله بن علي خلال الفترة(1939-1953) الى ان توج رسميا في 2 ايار 1953، وهو اليوم نفسه الذي توج فيه ابن عمه الملك حسين بن طلال ملكا على المملكة الاردنية بعد ان كان تحت الوصاية ايضا. ومن الملاحظ ان الشعب العراقي قد اظهر كل الاحترام والتقدير للملوك الثلاث طوال فترة حكمهم، وحتى الانتقادات التي كانت توجهها قوى المعارضة ضد النظام لم تكن توجه لشخصية الملك بقدر ما كانت موجهة الى الوزارة وبعض شخصيات البلاط. كما ان الملوك الثلاث اتسموا بالخصال الحميدة وحرصوا على الاهتمام بالمصلحة العامة للبلاد وجعلوها فوق كل اعتبارات شخصية اخرى.
وبلغ مجموع الوزارات التي تشكلت خلال العهد الملكي (58) وزارة، وهذا العدد لا تدخل ضمنه الوزارة "المؤقتة"، التي تشكلت قبل تولى الملك فيصل الاول العرش، والتي استمرت بالحكم خلال الفترة(25 تشرين الاول 1920- 23 اب 1921). وخلال العهد الملكي تعاقب على منصب رئاسة الوزراء (23) شخصية، اذ تولى البعض منهم تشكيل الوزارة اكثر من مرة مثل:
نوري السعيد الذي شكل الوزارة(14) مرة، وجميل المدفعي(7) مرات، وعبد المحسن السعدون(4) مرات، ورشيد عالي الكيلاني(4) مرات، وتوفيق السويدي(3) مرات، وعلي جودت الايوبي(3) مرات.
اما الذين شكلوا الوزارة مرتين فهم كل من: جعفر العسكري، وياسين الهاشمي، وحمدي الباججي، وارشد العمري، وفاضل الجمالي. وقد بلغ مجموع الذين تولوا مناصب وزارية خلال العهد الملكي(175) وزيرا. وهناك مجموعة اسباب جعلت بعض الشخصيات تتولى منصب رئاسة الوزراء اكثر من مرة دون غيرها ومنها الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها البعض من هؤلاء، واخلاصهم للملك، وحصول البعض منهم على دعم الحكومة البريطانية كونهم من انصار سياستها، او على الاقل عدم معارضتهم لتلك السياسة، فضلا عن المكانة الجيدة التي يتمتعون بها لدى الملك من جهة وفي الاوساط السياسية والشعبية من جهة اخرى. ومن ابرز تلك الشخصيات على سبيل المثال شخصية نوري السعيد الذي شكل الوزارة كما ذكرنا(14) مرة، اذ كان من اشد المخلصين للنظام الملكي ومقبولا من بريطانيا كونه من اكثر السياسيين العراقيين تأييدا لسياستها وكان يدعوا باستمرار الى المحافظة على العلاقات مع بريطانيا وتعزيزها، كما كان له الكثير من الانصار في الاوساط السياسية العراقية، وقد عاصر تأسيس النظام الملكي منذ نشأته وارتبط بعلاقات وطيدة مع الملوك الثلاث الذين تناوبوا على العرش، واصبح لخبرته المتراكمة وحنكته السياسية اثرا كبيرا في توجيه السياسة العراقية في معظم سنوات العهد الملكي.
ويمكن ان نلاحظ ان من بين اهم المشاكل، على الصعيد السياسي، التي واجهها العراق خلال ذلك العهد هي تحديد طبيعة العلاقة مع بريطانيا، وقد عقدت بين الحكومتين العراقية والبريطانية معاهدات عدة حول ذلك الامر وكان من اهمها: معاهدة 1922، ومعاهدة 1926، ومعاهدة 1927، ومعاهدة 1930، ومعاهدة 1948. ومن الملاحظ على مضمون جميع المعاهدات المذكورة ان بريطانيا كانت حريصة اشد الحرص على بقاء نفوذها في العراق وفرض سيطرتها على الحكومة العراقية.
وصدر اول دستور عراقي في 21 اذار 1925، وكان يطلق عليه آنذاك اسم "القانون الاساسي العراقي"، وقد احتوى على مقدمة و(123) مادة قانونية وزعت على (10) ابواب. ومما جاء في المادة الثانية من المقدمة: ( العراق دولة ذات سيادة مستقلة حرة، ملكها لا يتجزأ، ولا يتنازل عن شيء منه، وحكومته ملكية وراثية، وشكلها نيابي). واهتم الباب الاول بحقوق الشعب وورد في المادة السادسة من الباب المذكور( لا فرق بين العراقيين في الحقوق امام القانون وان اختلفوا في القومية، والدين، واللغة) كما جاء في المادة السابعة من الباب الاول: ( الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ولا يجوز القبض على احدهم، او توقيفه، او معاقبته، او اجباره على تبديل مسكنه، او تعريضه لقيود، او اجباره على الخدمة في القوات المسلحة الا بمقتضى القانون، اما التعذيب، ونفي العراقيين الى خارج المملكة العراقية، فممنوع بتاتا). واختص الباب الثاني بحقوق الملك وورد في المادة السادسة والعشرون منه: (الملك رأس الدولة الاعلى وهو الذي يصدق القوانين، ويأمر بنشرها، ويراقب تنفيذها، وبأمره توضع الانظمة لأجل تطبيق احكام القوانين ضمن ما هو مصرح به فيها). وجاء في المادة الثامنة والعشرون من الباب الثالث الخاص بالسلطة التشريعية:( السلطة التشريعية منوطة بمجلس الامة، ومجلس الامة يتألف من مجلسي الاعيان والنواب، وللسلطة التشريعية حق وضع القوانين وتعديلها والغائها، مع مراعاة احكام هذا القانون). وقد عقد اول اجتماع لمجلس الامة العراقي في 16 تموز 1925. وجاء في المادة الخامسة والستون من الباب الرابع الخاص بالوزارة: ( مجلس الوزراء هو القائم بإدارة شؤون الدولة، ويعقد برئاسة رئيس الوزراء ليقرر ما يجب اتخاذه من الاجراءات في الامور المتعلقة بأكثر من وزارة واحدة، وليبحث في جميع الامور الخطيرة التي تقوم بها الوزارات، ويعرض رئيس الوزراء ما يوصي به المجلس من الامور على الملك لتلقي اوامره). واختص الباب الخامس بالسلطة القضائية، والسابع بإدارة الاقاليم، والثامن بتأييد القوانين والاحكام، والتاسع بتبديل احكام القانون الاساسي، والعاشر بالمواد العمومية ومنها شروط فرض الاحكام العرفية وقوانين الاوقاف الاسلامية التي ذكرت في المادة الثانية والعشرون بعد المائة من الدستور:( تعتبر دوائر الاوقاف الاسلامية من دوائر الحكومة الرسمية، وتدار شؤونها، وتنظم امور ماليتها بمقتضى قانون خاص). وقد حاول الملك فيصل الاول اثناء فترة حكمه جاهدا ان يحصل على اكبر قدر من الاستقلال لبلاده، ونجح في ذلك عندما اصبح العراق عضوا في عصبة الامم في 3 تشرين الاول 1932 وبذلك اعترف به دولة مستقلة. ومن خلال قراءة مواد الدستور نلاحظ ان المشرع كان حريصا على تحديد صلاحيات السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية باعتماد مبدأ الفصل بين السلطات، اضافة الى حرصه على ضمان الحفاظ على الحقوق الشخصية.
وشهد العهد الملكي ظاهرة تدخل الجيش في السياسة، فبعد تأسيس الجيش في 6 كانون الثاني 1921 اصبح جعفر العسكري اول وزير دفاع للجيش العراقي، وحصلت اول محاولة انقلاب عسكري في العراق في 29 تشرين الاول 1936 بقيادة الفريق بكر صدقي وادت الى قتل وزير الدفاع جعفر العسكري واقالة وزارة ياسين الهاشمي، دون ان يتم التعرض للملك، وتشكلت وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان وتولى بكر صدقي منصب رئيس اركان الجيش الا انه اغتيل في 11 اب 1937 بالموصل. وقد تكرر تدخل الجيش في الشؤون السياسية في عام 1938 عندما ارغم بعض قادة الجيش رئيس الوزراء جميل المدفعي على الاستقالة واسندوا الوزارة الى نوري السعيد، وكذلك في عام 1941 اثر احداث "حركة مايس" والتي ادت بدورها الى اندلاع الحرب البريطانية العراقية ( 2- 29 ايار 1941)، وقد تجلت ابرز مظاهر تدخل الجيش في السياسة بأحداث ثورة 14 تموز 1958 التي ادت الى سقوط النظام الملكي نفسه.
وشهد العهد الملكي حدوث بعض الانتفاضات والحركات الثورية المناهضة لسياسة الحكومة كان من اهمها انتفاضة عام 1948 وانتفاضة 1952 وانتفاضة 1956، اضافة الى الانتفاضات العشائرية التي حدثت في مختلف مناطق العراق. وكانت الحكومة في اغلب الحالات، تلجأ الى قمع مثل تلك الانتفاضات ومطاردة قادتها ومحاكمتهم. ويمكن ان نلاحظ بوضوح ان هناك تفاعلا شعبيا كبيرا داخل المجتمع العراقي مع الاحداث السياسية، ليس الداخلية فحسب بل وحتى العربية منها، ففي معظم سنوات العهد الملكي كان الشعب يعبر عن موقفه ويمارس دورا فعالا في الضغط على الحكومة من اجل تغيير سياستها تارة ومواقفها تارة اخرى ازاء العديد من القضايا، على الرغم من الاجراءات القمعية التي كانت تتبع تجاه المتظاهرين. ومن الجدير بالذكر ان الاحكام العرفية اعلنت في العراق خلال العهد الملكي(16) مرة وكان ذلك خلال الفترة الواقعة ما بين( ايلول 1924- تشرين الاول 1956).
واتسم العهد الملكي بظهور العديد من الجمعيات والاحزاب السياسية التي كان لبعضها دورا فعالا في النشاط السياسي داخل المجتمع العراقي وكان من اهمها: جمعية النهضة العراقية(1922) برئاسة امين الجرجفجي، والحزب الوطني العراقي(1922) بزعامة محمد جعفر ابو التمن، والحزب الحر العراقي(1922) بزعامة محمود الكيلاني، وحزب الامة(1924) برئاسة الشيخ احمد داود، وحزب الاستقلال الوطني(1924) بزعامة اصف وفائي. وكانت لبعض الاحزاب السياسية التي تشكلت بعد ظهور الحياة النيابية البرلمانية دورا فعالا في الدعوة الى استقلال العراق ومن اهمها: حزب التقدم(1925) بزعامة عبد المحسن السعدون، وحزب الشعب(1925) بزعامة ياسين الهاشمي. والحزب الشيوعي العراقي(1934) بزعامة يوسف سلمان. والحزب الوطني الديمقراطي(1935) برئاسة كامل الجادرجي، وفي نيسان 1946 اجازت وزارة توفيق السويدي خمسة احزاب سياسية وهي: حزب الاستقلال، وحزب الاحرار، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاتحاد الوطني، وحزب الشعب. الا اننا نلاحظ ان الحياة الحزبية في العراق خلال العهد الملكي لم تنجح في تحقيق اهدافها بشكل تام كما نلاحظ ايضا عدم تمكن اي حزب من تلك الاحزاب من كسب الرأي العام بنسبة عالية الى جانبه على غرار ما كان موجود في الدول المتقدمة في النظام البرلماني، ومنها بريطانيا على سبيل المثال والتي كان الحزبين الرئيسيين فيها(الاحرار والمحافظين) يتناوبان على سدة الحكم بشكل رئيس طوال القرن التاسع عشر وفي معظم سنوات النصف الاول من القرن العشرين. وهناك مجموعة اسباب ادت الى عدم تمكن الاحزاب العراقية من تحقيق اهدافها كان من اهمها ضعف الجانب التنظيمي لدى زعماء تلك الاحزاب، وعدم نضوج التجربة الحزبية في المجتمع العراقي، وقلة الوعي الحزبي لدى الكثير من ابناء المجتمع، وعدم جدية زعماء بعض الاحزاب في تحقيق المصلحة العامة بقدر ما كانوا حريصين على تحقيق مصالحهم الخاصة، كما ان بعض الاحزاب استندت في تأسيسها على اساس شخصيات مؤسسيها دون ان تستند بشكل رئيس على مبادئها واهدافها.
وانضم العراق خلال العهد الملكي الى بعض المواثيق والاحلاف الدولية الغربية التي كانت من اهدافها الحد من انتشار المد الشيوعي الى الدول الاخرى. ومن الامثلة على تلك الاحلاف ميثاق سعد اباد الذي عقد عام 1937 وضم كل من تركيا وايران والعراق وافغانستان، وحلف بغداد الذي تشكل منذ عام 1955 والذي ضم كل من العراق وتركيا وبريطانيا وايران والباكستان. وقد مارس نوري السعيد دورا فعالا في انضمام العراق لتك الاحلاف وفي دعم سياسة الدولة الرأسمالية الكبرى الرامية الى الحد من انتشار الشيوعية لذلك كان له دورا فعالا في الحملات التي شنت ضد الشيوعيين والتي كانت من نتائجها اعدام زعيم الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف في 14 شباط 1949. ومن الملاحظ على الاحلاف الدولية المذكورة التي شارك بها العراق انها كانت تعقد من اجل خدمة مصالح الدول الغربية الكبرى بشكل رئيس، ولا سيما المصالح البريطانية، وقد كانت الدول الاخرى التي تشارك فيها تستخدم لتحقيق تلك المصالح.
ومن خلال دراسة الاحداث السياسية التي شهدها العراق خلال العهد الملكي نلاحظ انه قطع شوطا كبيرا في التقدم السياسي نظرا للتحولات التي مر بها وانتقاله من مجموعة ولايات خاضعة للدولة العثمانية الى دولة لها كيانها السياسي المستقل واصبح له، وللمرة الاولى في تاريخه الحديث، نظام برلماني ديمقراطي، وظهرت الاحزاب السياسية للمرة الاولى ايضا، كما تم في ذلك العهد وضع الحجر الاساس للنظام الدستوري الجديد بعد صدور القانون الاساسي عام 1925 الذي يعد نقطة تحول على مستوى تنظيم الحياة العامة في البلاد ونظام الحكم على اسس قانونية، اضافة الى ذلك تم الاعتراف بالعراق دولة مستقلة رسميا بعد حصوله على عضوية عصبة الامم، كما شهد المجتمع العراقي تطورا ملموسا خلال تلك الفترة واصبحت للعراق علاقات اقتصادية مع دول العالم المختلفة، كما اصبح له جيش قوي مارس دورا فعالا في جميع المعارك التي خاضها، وازداد الوعي الثقافي للمجتمع نسبيا. وقبل سقوط النظام الملكي لم يكن العراق اقل مستوى، سواء على الصعيد الثقافي او الاقتصادي او الاجتماعي، من معظم الدول العربية المستقلة الاخرى. ووفقا للإمكانيات الاقتصادية التي كانت متوفرة خلال العهد الملكي وتحت ظل التحديات العديدة التي واجهتها الحكومات العراقية التي تشكلت خلال ذلك العهد فإننا نجد ان ما تحقق يعد بمثابة تقدما كبيرا ساهم في وضع الاسس الاولى للبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع العراقي على الرغم من كل السلبيات التي رافقت ذلك.
1262 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع