عبد يونس لافي
في أعالي جبلِ خَنْدَمَة
يَمَّمْنا وجوهَنا صوبَ الجهةِ الجنوبيةِ
الشرقيةِ من الحرمِ المكّيِّ، إلى جبلِ خَنْدَمَةَ،
رفقةَ الْأخَويْنِ أبي المحامدِ وأبي مُحمَّد.
وجبلُ خَنْدَمَةَ هو أحدُ جبالِ مكةَ،
ومكةٌ لو تدري – رعاكَ اللهُ – كلُّها جبالٌ،
فبين كلِّ جبلٍ وجبلٍ، جبلٌ أو شِعْبٌ أو ثَنِيَّةٌ.
فمِنَ الأحدَبِ إلى الرَّحمةِ،
إلى النورِ إلى ثورٍ،
إلى الحَجونِ إلى خَنْدَمَةَ،
إلى أبي قُبَيْسٍ إلى قُعَيْقِعان،
الى المطابخِ الى السيِّدةِ،
الى الطارقِيّ الى العَبّادي،
الى عمرَ الى كَبْكَبَ،
الى ثَبيرٍ الى غيرها من الجبال،
تتشكَّلُ اللوحةُ الخالدةُ المباركةُ لمكة.
هذه اللوحةُ تُجْبِرُ من راۤها،
أن يقعَ في حُبِّها،
أمّا انا فأيمُ اللهِ
– ولا أكْتِمُ سِرًّا – قد وقعت.
فمكةُ والجبالُ عُنصرانِ متلازمانِ
لا يَنْفَكّان، فمن يذكرْ مكةَ يذكرْ
جبالَها، (والشَّيْءُ بالشَّيْءِ يُذْكَرُ).
اِنَّ جَدَلِيّةَ التَّلازُمِ بين مكةَ والجبالِ
بوديانِها وشِعابِها حقيقةٌ قائمةٌ،
فهي جزءٌ من تكوينِها طبيعةً،
وهي جزءٌ من تكوينِها تاريخًا،
لِما شَهِدَتْ وما غيَّرَتْ.
هكذا أرادها اللهُ،
أمّا نحن فليسَ لنا الا نعكسَ
ما تراهُ عقولُنا المحدودةُ،
أمّا كُنْهُ الاختيارِ
فلا يعرفهُ إلّا من اخْتار.
واذ نحنُ عند خَنْدَمَةَ نقول،
يمتدُّ هذا الجبلُ مسافةَ ميلينِ تقريبًا
من الشمالِ الى الجنوبِ،
ويرتفعُ في بعضِ مناطِقِهِ
أكثرَ من 600 مترٍ
فوقَ سطحِ البحرِ.
امّا سُفوحُهُ فتنحدِرُ انْحِداراتٍ
شديدةً مخيفةً في بعض المناطق.
أراضيهِ وَعِرَةٌ جدًّا تضيقُ تارةً
وتتسعُ اخرى، هكذا رأيْتُها.
كان ابو المحامدِ يقودُ سيارتَهُ
بأناةٍ مقصودةٍ،
فهو قد خَبِرَ المنطقةَ،
وتربّى في ربوعها.
اوْصَلَنا إلى ارْتفاعاتٍ شاهقةٍ جدًّا،
وحين وقفْنا عند جانبِ الطريق،
بدأت المعاني تَتَداعى في رأسي،
فان لم أكنْ أعرفُ أَنّي في مكةَ،
لقلتُ لا يمكن إلّا أنْ أكونَ فيها.
بدت امامنا معالمُها، جبالُها،
مناطقُها، بناياتُها وطرقُها كلها،
امّا السَّياراتُ في شوارعِها.
فلم تَبْدُ لنا إلّا دُمًى متحرِّكة.
وبين الفينةٍ والأخرى،
كنا نتوقفُ للتصوير،
او شرحِ مَعْلَمٍ من معالمِ خَنْدَمَةَ،
حيث كان ابومحمد، ابنُ مكةَ،
الخبيرُالآخر، يساعدُ في التعقيب.
على أنَّنا لم نبخَلْ في أنْ
نُمازِجَ الجدَّ احيانًا بالهزلِ،
مما جلب الينا السرور.
نزلنا من خَنْدَمَةَ،
وواصلنا السفرَ الى جدةَ.
كنتُ اجلسُ بجانبِ أبي المحامدِ
وهو يقودُ السيارةَ،
وتركْنا بُلْبُلَ مكةَ أبا محمدٍ
في المقعدِ الخلفيِّ يُغَرِّدُ؛
تارةً يُطْرِبُنا واخرى يُطربُ نفسَهُ،
وكنا في الحالَيْنِ مسرورين.
سَلكْنا متعمِّدين الطريقَ القديم،
كي نزورَ ضاحيةَ الحُدَيْبِيَةِ،
(حاليا تسمى الشميسي).
الضاحية فيها مسجدٌ يُسَمّى الحُدَيْبِيَة،
مسجدٌ جديدٌ لا علاقةَ له بمسجدِ
الحُدَيْبِيَةِ القديم الذي أزيلَ تمامًا
ولم يبقَ له اثرٌ،
إلّا موقعُهُ الأصليُّ الذي
وَثَّقَتْهُ بعضُ المصادر.
امّا شجرةُ الرِّضْوانِ،
التي عُقِدَتْ في ظلِّها البيعةُ،
ويُفترَضُ أنّها قريبةٌ من المسجدِ
القديم، فلا أثَرَ لها منذ العام الذي
تلا البيعةَ، كما جاء في الاخبار.
اظنُّ غيرَ خافٍ على المُتَكَرِّمِ
عليَّ بقراءةِ ما اكتبُ هنا،
ما للحُدَيْبِيَةِ من ثِقَلٍ في تاريخنا،
ففيها تمَّتْ بيعةُ الرِّضْوانِ.
وبيعةُ الرِّضْوانِ، نَزَلَ فيها قرآنٌ
(لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ
إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ،
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ،
فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ،
وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).
إنَّ وزنَ بيعةِ الرِّضْوانِ يَتَجَلّى
في أنّها ترجمت مصداقيةَ صُحْبَةٍ،
حرَّكَها ايمانٌ تمكَّنَ من الصَّحْبِ
الذين جاءوا مع نبيِّهم من المدينةِ،
مُسالِمينَ لا يبتغونَ إلّا العُمْرَةَ،
فلا يُمَكَّنون منها ويُمْنَعون.
وحين تناهى الى اسْماعِهم،
أنَّ قُرَيْشًا تُصِّرُّ على ملاقاتِهم،
إن هُموا دخلوا مكةَ،
بَسَطوا أيديهم للنبيِّ
مُبايِعينَ مُعاهِدينَ قائلين:
إِنّا لَها يا رسولَ اللهِ،
ولن نَتخَلّى عنك أيُّها المُطاعُ،
مُرْنا تجدْنا صابرينَ،
وفي اللقاءِ ثابتين.
وتشاءُ حكمةُ القيادةِ النبويةِ،
أن تقبَلَ – حَقْنًا للدماءِ –
عرضَ قريشٍ للصُّلحِ،
دون قتالٍ ولكنْ بشروط.
وُقِّعَتْ وثيقةُ الصُّلحِ بينَ الرسولِ
ومشركي قريش في الحُدَيْبِيَةِ
دون ان تُؤدّى العُمْرَةُ
كما اقْتضتْ بُنودُ الوثيقة.
اخيرًا وليسَ اۤخِرًا حينَ تُذْكَرُ الحُدَيْبِيَةُ،
فإنَّما نَذْكُرُ أنَّ بئرًا نبوِيًّا فيها،
كان قد ارْتوى منه النبيُّ وصحبُهُ،
الذين تجاوزوا ألفًا وأربعمائةَ
صحابيٍّ وصحابيةٍّ،
حَطّوا رِحالَهُم في تلك البِقاع.
اَرْجَعْنا البصرَ كَرّاتٍ
فلمْ نَرَ لهذا البئرِ أثرًا،
كما هو الحالُ فيما تقدمَ ذكرُهُ
عن مسجدِ الحُدَيْبِيَةِ القديمِ،
وشجرةِ الرِّضْوانِ ،
وربما كان مُنْدَثِرًا في مكانٍ ما
من الارضِ المجاورةِ المسوَّرة.
بعد زيارتِنا لهذا الموقعِ،
واصلنا طريقَنا الى جَدَّةَ،
حيثُ دعوةُ العشاءِ الكريمةُ،
التي أقامها ابوالمحامدِ تكَرُّمًا
في دارِهِ المعمورةِ هناك احْتفاءً.
ضمَّت الدعوةُ نُخبةً طيبةً،
كانت على مستوىً عالٍ
خُلُقًا وثقافةً وموقِعًا وظيفيًّا
واجْتماعيًّا يستحقُّ الاحترام.
حرصَ الرجلُ على أن نتعرّفَ على بعضِنا،
كان لقاءً رائعًا غَمَرَ الجميعَ بسعادةٍ،
عمَّقت مشاعرَ الودِّ بين الجميع،
مازلنا نعيشُ آثارَها.
975 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع