د. سعد ناجي جواد*
يوم النكسة.. ذكريات مؤلمة لا تنسى
تمر اليوم الذكرى السنوية المؤلمة لحرب 5 حزيران/يونيه 1967 التي شنتها اسرائيل على ثلاث دول عربية وهزمتها جميعا، ولم تكتف بذلك بل انها اصرت على ارتكاب مجازر بحق الجنود المصريين والسوريين الذين وقعوا في الاسر. وهذه قصص مؤلمة اخرى بحد ذاتها، والجانب الاكثر ايلاما فيها ان الدول المعنية لم تتابعها قضائيا ودوليا، ولم يتم ملاحقة اسرائيل بخصوص المئات من الاشخاص الذين فُقِدوا او غُيبوا ولم تظهر اي معلومات عن مصيرهم لحد اللحظة.
في مثل هذا اليوم، بل وفي بدايته، لا يمكن ان اصف الفرحة التي غمرتنا نحن الذين كنا في بداية شبابنا وفي السنة الاولى من دراستنا الجامعية بما حدث. لقد تم تحفيزنا واثارتنا بطريقة غير طبيعية، وصرنا لا نستطيع النوم خشية ان تبدأ الحرب التي ستحرر فلسطين ونحن غير متابعين لها. خلقوا فينا شعورا زائفا مسبقا بالانتصار القادم جعلنا نصدق ان عند اندلاع الحرب ستطلق مصر اكثر من الف طائرة حربية لكي تدمر دفاعات الجيش الاسرائيلي، وان الجيش الاردني سيتمكن في خلال يوم واحد او ساعات معدودة من قطع مسافة الكيلومترات القليلة بين القدس الشريف وتل ابيب لكي يقسم الاراضي التي احتلتها اسرائيل بعد عام 1948 الى قسمين. وان الجيش السوري الذي يربض على هضبة الجولان المطلة على شمال فلسطين سوف لن يجد صعوبة في دك الدفاعات الاسرائيلية ويتوجه نحو حيفا. ولهذا عندما بدأت الحرب كنا في اسعد حالاتنا وفي نشوة لا توصف. لم يخطر ببالنا ان جيوشنا ستهزم شر هزيمة وفي غضون ايام قليلة. وحتى عندما سمعنا عن نتائج الضربة الجوية الاسرائيلية الاولى وتدمير سلاح الجو المصري كنا نقول ان هذه اكاذيب صهيونية، او ان ما تم تدميره هياكل خشبية لطائرات وهمية، وان الطائرات المصرية الحقيقية ستخرج من مخابئها وتحسم المعركة. كنا نصدق اذاعاتنا واعلامنا الكاذب، كنا نصدق سياسينا معتقدين انهم استعدوا استعداداً كاملاً لهذه المواجهة.
وفجاءة جاءت اللطمة الكبرى التي اعادتنا الى واقعنا المؤلم والى حال امتنا المزري. واكتشفنا الوهم الذي عشناه لايام قليلة في ظرف لحظات. وبالمناسبة فإننا لم نصدق ان اسرائيل احتلت كل سيناء ووصلت الى قناة السويس واحتلت كل الضفة الغربية ومرتفعات الجولان الا بعد ان اعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استقالته. فقط عند ذلك علمنا حجم الكارثة وعمق الهزيمة. كانت كل الاذاعات والصحف العربية تتحدث عن انتصارات ومعارك طاحنة تكبد فيها العدو خسائر هائلة واسقطت الدفاعات الجوية مئات الطائرات الاسرائيلية. وربما ساهم خبر اسقاط طائرتين اسرائيلتين، (واسر طياريها وعرضهم على شاشة التلفاز)، حاولتا مهاجمة قاعدة عسكرية غرب البلاد كانت تنطلق منها الطائرات العراقية التي قصفت يافا ونتانيا في زيادة شعورنا بالنصر. ولا يمكن ان انسى ما كانت تبثه اذاعة بغداد انذاك. ففي الايام الاولى ربطت بثها باذاعة صوت العرب من القاهرة، وبعد يومين عندما بدأت بوادر الهزيمة تظهر على اصوات ونبرات مذيعي صوت العرب، قطعت اذاعة بغداد الربط مع الاذاعة المصرية وبثت خبرا مفاده ان الجيش العراقي الذي دخل الاراضي الاردنية قد ارتبط بالجيش السوري في الشمال والجيش المصري في الجنوب وشكلوا جميعا كماشة اطبقت على جيش العدو الصهيوني، بينما كانت القطعات العراقية لا تزال في منطقة المفرق.
بعد سماع خطاب التنحي للرئيس عبد الناصر اصبح الانهيار النفسي كاملا، وكانت الدموع لا تتوقف عن الانهمار على الوجوه المشدوهة. اصبحنا تائهين هائمين في الشوارع، لم نجد سوى السفارة المصرية لكي نرابط امامها حتى فجر اليوم التالي مع حشود شعبية كبيرة، شعرنا ان عبد الناصر وبقاءه كان املنا الوحيد المتبقي، لم نفكر ساعتها بالاخطاء الكبيرة التي ارتكبها في مسألة اعداد الجيش. ثم تقبلنا فكرة ان من كان حوله هم السبب، ونسينا الحقيقة التي تقول انه كان ملزماً بأن يكون اكثر ادراكا لهذا الواقع، خاصة وان ما حدث كان امرا مكررا لما جرى في العدوان الثلاثي في عام 1956، وان ما حدث انذاك كان يفترض ان يكون قد اعطاه فكرة واضحة عن قيادات الجيش المهلهل واداءه الضعيف انذاك. لكن للاسف ان ذلك لم يكن واقع الحل. ويجب ان اعترف ان صحوته المتأخرة، وإعادة بناء الجيش المصري على اسس صحيحة كانت سببا من اسباب بعث بعض الامل في نفوسنا، وفي نفوس ابناء الجيش المصري الذي سارع ابناءه الى تحقيق انتصارات كبيرة (معركة راس العش واغراق مدمرة ايلات وحرب الاستنزاف).
هناك من يقول ان خطأ مصر الاكبر كان الامتناع عن، او التردد في توجيه الضربة الاولى، ومن يقول هذا يخطأ هو ايضا. لان الضربة كان يمكن ان تؤخر الهزيمة السريعة لايام قليلة، وان النتيجة، وبناءا على اداء الجيوش العربية التي لم تكن مستعدة اطلاقا لمثل هذه الحرب، كانت ستكون نفسها.
الشيء الغريب بل والمذهل ان جيلنا الذي اصيب بهذه الضربة القاسية لم يفقد الامل، على العكس كانت افعالنا كلها تدل على تمسكنا بالامل حتى وان كان كاذباً او واهياً. انتظمنا في دورات تدريبية على السلاح اجبرنا الحكومة انذاك على تنظيمها، ووافقت الحكومة على تشكيل (كتائب الشباب) لسبب غير السبب الذي كنا نفكر به. الحكومة كانت تفكر في امتصاص غضبنا وحماسنا كي لا تنقلب التظاهرات التي ملات شوارع بغداد وباقي المحافظات ضدها، بينما كنا نحن نعتقد ان التدريب على السلاح هو ما سيمكننا من المشاركة في الحرب غير مدركين ان الحرب قد انتهت. كنا نجهد نفسنا بالتدريب معتقدين اننا سنكون على جبهات القتال حول فلسطين الحبيبة بمجرد ان ننهي تدريباتنا. كنا نصدق كل ما يقال لنا. عندما كنا نشتكي من قدم البنادق التي كنا نتمرن عليها، (بنادق كان تستخدم في الحرب العالمية الاولى)، كانوا يقولون لنا ان التدريب الاساسي يجب ان يكون في البداية على هذه البنادق. وعندما كنا نشتكي بأن وقت التدريب يضيع في امور ثانوية وغير مجدية، مثل تنظيم سيرنا في مجاميع والوقوف بالاستعداد واداء التحية العسكرية بصورة صحيحة، كان الضباط الذين يشرفون علينا يقولون لنا بان ذلك هو اساس الانضباط العسكري المطلوب، (وذلك لاننا سنكون ظهير الجيش العراقي ونحمي خلفيته واجنحته). ولم نكن نصدق فقط بل كنا نندفع اكثر واكثر في التدريب. وبالنتيجة نجحت الحكومة في قتل جذوة الحماس في داخلنا. بعضنا اختصر الطريق وترك دراسته كي يلتحق بالفدائيين الفلسطينين، لكي يصابوا بعد فترة بخيبة ثانية ويعودوا للدراسة بعد ان ضاعت عليهم سنة دراسية كاملة. اخرين اتجهوا الى الاحزاب السياسية التي كانت تدعي بانها تضع البرنامج لتحرير فلسطين، ولم يدركوا ان تلك الاحزاب لم تكن سوى وسائل للوصول الى الحكم على اكتافهم واكتاف غيرهم من الشباب المندفع. وحتى قطاعات الجيش العراقي التي ارسلت الى الاردن ظلت مرابطة هناك لسنين على امل ان تستأنف الحرب وتشارك فيها ولم يحدث ذلك.
في عام 1967 استطاعت اسرائيل ان تحتل كل اراضي فلسطين ومعها اراض اكبر مثل صحراء سيناء وهضبة الجولان. كنا نسمع قصصا عن بطولات فردية عربية، لضباط وطيارين وجنود يُفتخر بها وكنا نتناقل هذه البطولات مع مرارة دفينة. كان الجانب الاخر، اسرائيل ومن يدعمها، يسفه هذه الانتصارات كي يجعلنا نصاب بالاحباط، ولكن جذوة الامل ظلت، وما زالت داخلنا. جذوة الامل هي التي تجعلنا نتفاعل مع اي انتصار مهما كان صغيرا، وتجعلنا نفخر بان امتنا ما تزال بخير عندما نجد شبابها يواجهون الاحتلال بصدور عارية ويلقنون جنود اسرائيل الدروس عندما يحاولون اهانتهم او استفزازهم، وما حدث على حدود سيناء موخرا خير دليل على ذلك.
حقا ان هذه الامة امة عظيمة لا تعرف اليأس ولا تعرف الهزيمة، بل ولا تعترف بالهزائم حتى وان تكاثرت عليها وارهقتها، وهذا ما يجعل العدو يحار في كيفية التعامل معها. احد قادة العدو قال كيف يمكن ان تقاتل شخصا يريد ان يستشهد ويرمي بنفسه الى الموت؟ وهذا هو السؤال الصحيح. جيوش الاحتلال والاجهزة الامنية والقمعية تهدد الناس بالقتل لارهابهم وردعهم، فكيف تفعل ذلك مع اناس يذهبون الى الموت الشريف باقدامهم. ان امة تمتلك هذا النوع من الشباب لا يمكن ان تقهر. اسرائيل ومؤيديها يفرحون بما يقومون به من عمليات تفضي الى افساد الاجيال والشباب والمجتمعات ثم يكتشفون ان الامة مازالت تزخر بمجاميع غير قابلة للتدجين او الافساد. واكثر ما يقلقهم هو الوعد الرباني للمسلمين بالنصر، (وَعْدَ ٱللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
*كاتب واكاديمي عراقي
2989 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع