ابراهيم الولي*
عن الدولة العميقة في العراق
مقدمة: ثلاث قضايا شدت انتباهي بما حملني على العودة الى الكتابة اذ استقرئ وجود دولة او حتى دويلات عميقة في بلدي العراق،ذلك من احداث تبرز على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي . القضية الاولى تتعلق باحقاق العدالة ،والثانية حول التلاعب بالتركيب الديموغرافي للمواطنين في مناطقهم، والثالثة عن التمسك بروح المواطنة قولا وفعلا . وانا هنا لا اتحدث عن الفساد الذي فاحت رائحته في كل مكان، ولو ان مجهودا يقدّر للحد من ممارسته ،ارجو ان يعم جميع طبقات المسوؤلين صغارا وكبارا اذا مااريد حقا معالجة هذه الآفة التي جعلت من العراقيين من يشكو العوز والهوان في وطن انعم الله عليه نعماً لاتعد ولاتحصى . فاذا استعرضنا القضية الاولى نجدها في استشهاد المرحوم هاشم الهاشمي المحلل السياسي البارع :فسنرى ان شابا رسم له بدقة التربص بالمرحوم عند دخوله مساء الى بيته في حي زيونة ببغداد وقد نفذت الخطة تحت انظار عدسات الامن وكلنا تابع تصميم هذا الشاب ورباطة جأشه حين وجه غدارته لاغتيال المرحوم،ولم يطعه سلاحه لتنفيذ مهمته فما كان منه الا اللجوء لمسدسه الرسمي ليكمل مهمة الاغتيال ، ثم يمتطي دراجة بخارية كانت تنتظره مع سائقها على الرصيف المقابل لموقع الحادثة و قد انطلقا مكملين مهمتهما . لقد راقبت كما راقب العراقيون الشريط المسجل لهذه الحادثة التي لاتقبل اي عذر في انكار اي حلقة منها فذلك مايقال له الجرم المشهود. Flagrante delicto . وقد راقبنا السيد الكاظمي رئيس الوزراء السابق الذي بدا عليه التأثر الشديد وهو يواسي عائلة الفقيد ويعدهم باحقاق العداله باقرب مايمكن .كان ذلك في 6/6/2020 اي قبل سنتين من وقتنا .وبدات الاشاعة تسري فمن قائل بان القاتل معروف وان جهات معينة هي التي تحميه، كما اشيع انه هرب الى ايران ،ثم تاتي جهات امنيه تكذب ذلك وكان اخرها تصريح وزير العدل العراقي حين صرح في برنامج تلفزيوني عن مكان القاتل والذي عرف بانه (احمد حمداوي عويد) فقال بانه موقوف لدى الجهات الامنية بانتظار اصدار حكم قطعي عليه ، وحينئذ سيسلم الى وزارة العدل المسؤولة عن تنفيذ هذه الاحكام . واخيرا صدر الحكم من محكمة الرصافة على المتهم بالاعدام شنقا . المعلوم ان احكاما كهذه تخضع لقرار نهائي من محكمة النقض التي سيعرض عليها قرار الحكم الصادر من المحكمة ، وهنا يبدا التشكيك في التوقيت الزمني وفي الادارة العدلية... اذ يرى البعض ان القضية اخذت عامين منذ ارتكاب الجريمة لغاية اصدار حكم الاعدام فربما اعطى ذلك مبراً لشك البعض في جدية اصدار قرار النقض بالتوازي مع التراخي في الفترة التي سبقت اصدار القرار .تلك مسالة هزت الضمير العراقي فهي قضية سياسية بالدرجة الاساس فلا يعقل مطلقا ان يكون المجرم قد ارتكب فعلته بمعزل عن تاثير داخلي او خارجي ، لهذا فان الحكومة القائمة تقع تحت ضغط شديد لتسويف القضية او حتى بنقض قرار المحكمة .. ولو انني واخرين نثق بعدالة وموضوعية القضاة الكبار في محكمة النقض . وفي غير هذين المثلين، هناك العديد من المشاكل المعلقة التي يدرك الحكام مكامن العدوان على العدالة وعلى الديمقراطية فيها دون ان يتمكن احد منهم اخذ موقف صريح شجاع يرضي ضميره بنزاهة وشفافية هما ما يميز حاكماً سياسياً عن اخر. في العراق اسقاطات سلبية عديدة زرعت منذ 2003 اي عندما احتل الامريكان العراق لاسباب ثبت للقاصي والداني بطلانها ،فضلا عن السخرية منها، وقد جاءت جميعها بمعزل عن منطق المجتمع الدولي ممثلا بمجلس الامن وتلك مسالة لافائدة من الخوض فيها فقد باتت مكشوفة كلعبة سياسية بائسة هدفها الاستحواذ على موارد ومقدرات الشعوب لاضعافها واخضاعها بكل وسيلة ، ولم تكن الفوضى الخلاقة سوى واحدة منها... وهكذا جاء دور منظمات اسلامية معلنة الجهاد على الاستعمار ،ولا احد يدري حقا من كان ومازال وراء تلك التنظيمات التي اخرها داعش التي دمرت المحافظات السنية في العراق كالأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى ،فكان ان تمزق النسيج الاجتماعي العراقي بصورة لايمكن تصور معالجته او رتق ماتمزق منه فكان خراب المدن وتهجير اهلها فمنهم من ملأ دول العالم من اسيا واستراليا شرقا الى كندا غربا بألاف المثقفين العراقيين من ذوي الاختصاص، اما الذين هُجّروا في الداخل، فتلك هي القضية الثانية ذات البعد الديموغرافي وقد خطط له عن عمد وتبصر . كان اولها تهجير سكان منطقة جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل وقد هجر اهلها، وهم بالاف من منازلهم ومزارعهم واستولت منظمات شبه عسكرية عليها، ولا احد يجزم حتى الان عما يجري في تلك المنطقة التي ابدل اسمها الى جرف النصر حتى ان مسؤولا عراقيا كبيرا منع من الدخول اليها لمجرد الزيارة ، وليس سرا القول بأن احد المسؤولين اجاب احد السائلين عن هذه القصة بالقول بأن القرار بيد دولة مجاورة . أما منطقة الصدع الثانية المماثلة لهذه فتلك المتعلقة بمناطق واسعة من محافظة ديالى التي لم يعرف اهلها الاصليون نعمة الأمن منذ زمن، والحديث يدور حول استحواذ مليشيات محلية على المعسكر السابق لمنظمة مجاهدي خلق الايرانية التي كانت يوما ما ضيفا على العراق ، وسبحان مبدل الاحوال . أما القضية الثالثة فهي عن المواطنة كركيزة أساسية لفلسفة الحكم في أي بلد. المواطنة Citizenship كما يعرف الجميع هي العلاقة السليمة المتبادلة بين الدولة وبين الفرد في مجتمعها. للدولة مالها وما عليها تجاه الأفراد و لهؤلاء مالهم وما عليهم من حقوق و واجبات ومسؤوليات تلزمهم روح المواطنة به طبقا للعقد الاجتماعي بينهما . أقول هذا بسبب تجاهل الدولة وحتى وسائل الإعلام وبعض الباحثين في الشأن العام، حين اسمع تسمية المواطنين العراقين بأنهم مكّون سني ومكّون كردي وآخر يزيدي أو مسيحي. هذه التسمية جاءت من مستعمر يريد مسح فكرة المواطنة كي يثبت في الضمير الجمعي العراقي استعلاء بعض على بعض ولبثّ ممارسة المغالبة في التعامل بسبب العددية بدل المواطنة التي يكون جوهرها المساواة بين المواطنين .. و اذكر كمثل موازٍ لهذه الحالة ؛ كان النظام الملكي وربما مابعد ذلك، يطلق في مصر على أفراد الشعب تسمية رعايا، وفي تلك التسمية انتقاص لقيمة الفرد بل محاولة لزرع روح انهزامية تبعث في نفوس الناس القبول بالخضوع والإذعان للحاكم، حتى انبرى شيخ من الأزهر، محمد خالد، ليصدر كتاباً عنوانه مواطنون لا رعايا. وكانت تلك صرخة اصلاح لابد تعني ما أقول عن تسمية المكونات في بلادي. بسم الله الرحمن الرحيم ( ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الأسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون*). وسبحان الذي نصح الناس بأن أمََرهم أن: بسم الله الرحم الرحيم( وقولوا للناس حسناً**). صدق الله العظيم. إنما أردت من استقراء تلك الأمثلة من اختلال ميزان العدل في بلادي لسبب أو آخر كان خارجياً أم داخلياً، متعدد الوجوه فهذا ما قادني للحديث عن الدولة العميقة في العراق وقد دأب المسؤلون على اطلاق تسمية الجهة المجهولة أو الطرف الثالث عند وقوع مشكلة ما ، هي في الحقيقة من قبل دولة عميقة، فما هي هذه الدولة العميقة؟ —————————
* سورة الحجرات الاية 11 **سورة البقرة الآية83 تعريف الدولة العميقة :deep state او المتجذرة او الموازية او حتى السرية ،فتلك مسميات لمجموعة من الافراد او المجاميع تنكفئ على ذاتها ،ربما لفشلها في انتخابات اولعدم استطاعتها تحقيق اهداف محددة ترسمها لنفسها بسبب تسّيد السلطة الشرعية التي هي في العلن عبارة عن الدولة في بلد ما ،هذه الدولة العميقة تكون شبكة عنكبوتية متماسكة متكتمة في عملها تعمل بالتشاور ين مكوناتها لتحقيق الاهداف المتفق عليعا والمرسوم لها وتكون علاقتها بالدولة الشرعية او الأم ان شئت ،عكسية تماما، فان ضعفت الدولة قويت هي في نشاطها، وان قويت الدولة الام فسيكون الضعف والتخاذل من نصيب الدولة العميقة . والدولة العميقة غالبا ماتكون شريرة لاتأبه للقيم السائدة في بلادها فهي ماكيافلية تعتبر ان الغاية تبرر الوسيلة في مخططاتها كما أن معظم الدول العميقة تراها تركن الى دول او جماعات اجنبية مادام ذلك يحقق لها غاياتها وقد تكون تلك دول اجنبية تبدو راعية لدولة عميقة هنا وهناك بصرف النظر عما يسببه ذلك من ضرر للدولة الشرعية . الدولة العميقة بدأت بالظهور في تركيا حين تنادى ضباط ومدنيون اتراك الى العمل بها من اجل احياء التراث العلماني الأتاتوركي الذي حققه مصطفى كمال أتاتورك لتركية الحديثة مما أصابها من ضعف الرجل المريض بعد مؤتمر فرساي 1919 ومعاهدة لوزان 1923 فكانت هناك جمعيات تركية الفتاة وجبهة الاتحاد و الترقي وغيرهما . _ ومثل اخر في الحياة الدولية الراهنة ؛ فقد يكون في صالح سمعة الدولة العميقة تلك هي قيام قادة عسكريين كبار، في الشرق والغرب بالاتصال ببعضهم سرا، اي دون علم الجهات الرسمية العليا في دولهم بتبادل كلمات شرف بعدم اللجوء الى استخدام الاسلحة النووية في حال اندلاع خصومات حادة قد تؤدي الى نشوب قتال بين بلديهما ، وقد جرى هذا المثل بين اركان امريكان وصينيون وربما مع بعض الروس ، فان صدق ذلك فانما اعتبره سلوك جماعة دولة عميقة وان كان الغرض منه فاضلا عكس ماتتميز به الدول العميقة عادة من سطو على المال العام وعلى الاتيان بكل ما من شأنه اضعاف او الاطاحة بالسلطة الشرعية افي بلدانهم بطموح وصولهم الى السلطة . اعود بعد التعريف بماهية الدولة العميقة كتطبيق في السياسات الدولية المنحرفة، فاحاول ان استقرئ من امثلة واقعية تجرى في العراق منذ ازمان، وان كان ابرزها واوضحها ؛اسقاطات الاحتلال الامريكي للعراق 2003 ولما قبله من وقف الحرب الايرانية العراقية 1988 وماتلى ذلك من حصار اقتصادي وعسكري جائر على العراق. وانا ارصد من مراقبتي اليومية لاحداث بلادي العراق ، اجد في تلك ابرز الامثلة فحسب ، ذلك لان الامثلة عديدة ، ممايشير الى قيام دول عميقة وليس دولة عميقة في العراق منذ ذلك الحين . ولعل عاملين اسايين في نظري كانا ومايزالان يغذيان قيام الدولة العميقة في العراق،اولهما :خروج غير مشروع لفئة او جماعة منظمة، وغير ذلك من داخل العراق وهي تسطو على مقدرات الدولة بحجة اصلاح وضع سياسي اواقتصادي . والثاني مصالح دول اجنبية عديدة، وعلى راسها الولايات المتحدة وبعض دول غربا وشرقا ،فضلاً عن دول الجوار في رعاية غير مكشوفة للدولة العميقة تحقيقا لأغراض تلك الأطراف التي ترى في ذلك العمل ضرورة لمتطلبات امنها القومي،حتى ولو على حساب أمن ومصالح الدولة الشرعية ذاتها . يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن الدول: (… ان منحنى التنازل نحو الأسوأ في الدولة أو النظام عندما يهرم بشكل لا يمكن اصلاحه بسبب وجود فئات لا ترغب ولا ابناءها بالتغيير، بل تقف ضده والسبب في ذلك يعود إلى حصول خلل مالي في الدولة بما أوصل فئة من القوم إلى أن تكون أغنى من الدولة ذاتها. فهم يسعون إلى سن قوانين فصِّلت لتضمن مصالحهم ..) ويقول في مكان آخر عن انهيار الدول(… يصبح الانتماء إلى القبيلة أشد والإنتماء إلى الوطن خرافة وتختفي الفتن وراء قناع الدين...). خاتمة: تقوم الحكومة الحالية بتنفيذ مشاريع اصلاح البنى التحتية في ارجاء البلاد من فشل الكهرباء .. إلى الحاجة الماسة لالاف المدارس المتهالكة..إلى معالجة البطالة ، وآخرها البدء بتنفيذ الطريق الستراتيجي للتنمية من الفاو إلى تركيا. وقد أطلعت على بعض النقد لهذا المشروع، من ذلك أن سكة حديد متطورة تتصل بها الكويت وايران ستقلل من فاعلية ميناء الفاو الذي قصد به الشحن البحري الواسع. وقد لاحظنا حرص الجارة ايران على تحقيق خط الشلامجة بالبصرة بما حمل بعض المتشائمين على القول بأن المشروع سيجعلنا حمالي بضائع للآخرين. ولست ادري ، والحكومة بالطبع ادرى ،بمدى التنسيق بين طريق التنمية العراقي وطريق الحرير الصيني، فتلك مسألة لابد من الاخذ بعين الاعتبار وضع صيغة تفاهم لربط الطريقين ليكمل بعضهما بالاخر في المنطقة. ففي ذلك أعظم النفع من وراء المشروع. كل ذلك حسن، ولو ان البعض يرون أنه يدخل في استراتيجية الإلهاء distraction التي يقول عنها شوسكي في ستراتيجياته العشر في حكم الشعوب، ذلك لأن الدولة العميقة ( او المجهولة) لا يمكن أن تسمح بتحقيق اصلاحات شاملة لا تصب في مصلحتها مادياً او في هدفها في السيطرة على الدولة. والله الموفق.
*سفير عراقي سابق
1172 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع