علي المسعود
فيلم "فكتوريا وعبدول" يفضح العنصرية والتمايز الطبقي في الاسرة الملكية
"فيكتوريا وعبدول " فيلم صدر عام 2017 تدور أحداثه في أواخر العصر الفيكتوري في 1887-1901 من إخراج ستيفن فريرز ، يستند على أحداث حقيقية في الغالب كما تكشفها بداية الفيلم ويعرف الكثيرون عن حياة فيكتوريا ملكة (بريطانيا العظمي) وزواجها من الأمير ألبرت وشغفها بالفنون وإدارتها للحياة السياسة حتى لقبت بأم أوروبا . لكن هناك سراً في حياة الملكة وهو علاقتها بخادمها الهندي المسلم عبد الكريم بعد تعيينه خادم منزلي للملكة فيكتوريا ومن ثم أصبح صديقا معلما (أو مونيشي) للملكة واستمر حتى وفاتها. في البداية نتعرف على عبدول ، اسمه محمد عبد الكريم ولد في الهند لأسرة مسلمة في عام 1863 ، والده يعمل مساعدا في مستشفى مع فرقة من سلاح الفرسان البريطاني . وعندما كبر عبد الكريم حصل على وظيفة كاتب في سجن في أكرا . كان السجن الذي عمل فيه كريم يضم برنامجا لإعادة تأهيل السجناء حيث يتم تدريبهم على نسج السجاد. وساعد كريم مشرف السجن " جون تايلر" في ترتيب الرحلة إلى العاصمة الإنجليزية . في الوقت نفسه، طلبت الملكة اختيار خادمين هنديين سيعملان لمدة عام بمناسبة مرور خمسين عاما على توليها العرش . واختار تايلر كريم ورجلا آخر يدعى محمد بوكش لهذه المهمة . تعلم كريم اللغة الإنجليزية ولقن آداب المعاملة البريطانية قبل السفر لملاقاة الملكة فكتوريا وخدمتها فى حفل اليوبيل الذهبى للملكة عام 1887 . ورغم أن الجميع شدد عليه بألا ينظر فى عينى الملكة إلا أنه كسر الاوامرعندما نظر إلى عينيها عند تقديمه للحلوى ، وقعت عيناه على الملكة وإنحني لتقبيل قدم الملكة ومن تلك النقطة يصبح أحد أعز المقربين منها يتحدث معها ويخبرها عن تاج محل وعجائب المطبخ الهندي، . وتصبح الملكة معجبة بعبدول أكثر من أي شخصء آخر وتطلب منه تعليمها اللغة الهندية ويقترح عليها اللغة الأردية التي يصفها أكثر اللغات الهندية "نبلا". يبهرها بأوصاف شعرية متوهجة لوطنه تثير خيالها . لكن هذه الصداقة تثير استياء الكثيرين في الإمبراطورية ليس بسبب الاختلاف الطبقي ولكن بسبب كونه هنديا ومسلما .
الفيلم يصور هذه العلاقة والأشكال المختلفة للعنصرية والعداء التي واجهه عبدول أثناء تنقله بكونه شخصا من جنوب آسيا أخذ مكانا متميزاً في دائرة الأسرة الملكية خلال العصر الفيكتوري . معظم الشخصيات المصورة تاريخية تبدو شخصيات مختلقة . الخادم (محمد ) رفيق عبدول في السفرة شخصية خيالية ، وكذالك لا يعرف سوى القليل نسبيا عن زوجة عبدول وعائلته . لكن مشاركة عبدول في اليوبيل الذهبي وغيرة وأحقاد حاشية الملكة كانت رواية صحيحة. إحدى المشكلات التي واجهت المؤرخون تدمير الملك إدوارد للعديد من سجلات الملكة وكل مايخص فترة خدمة عبدول في القصر الملكي ، ومعظم الروايات جاءت من عائلة عبدول والتي تم الحصول عليها في وقت لاحق بعد وفاة عبدول . وبالتالي لانضمن حصولنا على منظور عادل لعلاقتهم . ومع ذلك ، تبين لنا أن الملكة كانت على وشك أن تمنح عبدول لقب فارسا ، وتعدل عن قرارها بعد ضغوط وتهديدات االبلاط الملكي وحاشيته . كما قدمت له الملكة العديد من الهدايا بما في ذلك الأراضي في الهند و تطرقل الفيلم لهذا الامر بشكل بسيط جداً ، لكن عبدول أصبح ثريا جدا خلال فترة وجوده مع الملكة وتمكن من الاحتفاظ بهذه الثروة في الهند بعد أن أجبر على الخروج من المملكة. من الواضح لم يكن عبدول كاذباً بشأن بعض الأحداث الرئيسية في علاقة الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية ولم يظهر له أثر بشكل مباشر على السياسة البريطانية في الهند ، لكنه ساهم في زيادة اهتمام الملكة بشبه القارة الهندية . الكثير من أحداث الفيلم كانت دقيقة في إظهارأهتمام الملكة بتعلم اللغة الأردية ومبادئ الإسلام وساعدها عبدول في التعرف على الهند وتاريخها وثقافتها . إستنادا إلى كتاب الصحفية شراباني باسو "فيكتوريا وعبدول القصة الحقيقية لأقرب المقربين من الملكة " أعتمدت في كتابتتها إلى مذكرات عبد الكريم التي اكتشفت بعد وفاته وعلى مصادر تاريخية أخرى موثقة تحكي عن هذه الحقبة ، تحاول الملكة ببساطة تعلم شيء عن أمة وشعب تحكمه . من الواضح جدا أن الملكة فيكتوريا مأخوذة بشخصية الرجل الطويل والوسيم الذي تجعله في النهاية مستشارها الروحي (مونشي) . علاقة الملكة بالخادم كانت من الممكن أن تتطور قبل أن يخبرها عبد الكريم بأنه متزوج ، فما كان منها إلا أن أحضرت زوجته المنقبة وأنزلت الأسرة في بيت ضيافة ملحق بالقصر واستمرت علاقة صداقة وولاء عميقة بين الملكة وخادمها ، وكانت تدرك أنها إمبراطورة الهند وتريد معرفة المزيد عن الهند وتقرر تزيين جزء من منزلها في جزيرة وايت بالتحف والمقتنيات الهندية .
أثارت تلك العلاقة البلاط الملكي والحاشية فهددوا بالاستقالة الجماعية حين أرادت أن تنعم عليه بلقب آخر يرفع مكانته. هذا الاهتمام الخاص بالخادم عبدول زلزل البيت الملكي والأسرة الملكية وبشكل غير مسبوق ولدرجة أن ابن فيكتوريا ، بيرتي( إيدي إيزارد) أمير ويلز المتعطش للسلطة ، هددها بإلأعلان عن إصابتها بالجنون من أجل إزاحتها عن العرش . وفقا للمؤرخين ، أظهرت عائلة فيكتوريا وحاشيتها تحيزا للتنوع العرقي والاجتماعي ، ذكرت المؤرخة كارولي إريكسون في كتابها "جلالة الملكة الصغيرة : حياة الملكة فيكتوريا"، أن "العنصرية كانت آفة العصر، وقد تزامنت مع الإيمان بمدى ملاءمة هيمنة بريطانيا العالمية. وكان وضع الخادم الهندي ذي البشرة الداكنة في المنزلة نفسها مع خادمي الملكة البيض أمرا غير مقبول، لذلك كانت مشاركته لهم في تناول الطعام على طاولة واحدة إلى جانب المشاركة في حياتهم اليومية بمثابة إهانة ". وخلال فترة خدمة عبد الكريم منحته الملكة فيكتوريا عديدا من الأوسمة والنياشين وخاصة ومرافقته لها أثناء زياراتها لعواصم أوروبا ولقاءاتها مع الملوك ورؤساء الحكومات . وقد علم عبدول الملكة كيف تكتب باللغتين الهندية والأردية ، وكيف تأكل الكاري الهندي الذي أصبح فيما بعد طبقا رئيسا على المائدة الملكية . وفي نهاية المطاف أصبح عبدول السكرتير الفعلي للملكة فيكتوريا . وسمح له بأن يتقلد سيفا وأن يحمل أوسمته ونياشينه أثناء وجوده في البلاط ، وسمح له كذلك باستقدام كل أفراد عائلته من الهند إلى بريطانيا . وأصبح عبد الكريم يحظى بأفضل الاماكن بين صفوف النبلاء والأمراء في الموائد الملكية وحفلات الأوبرا التي تحضرها الملكة .
تصف الكاتبة والصحفية ( شراباني باسو) :" إنه في الوقت الذي بلغت فيه الامبراطورية البريطانية أوج مجدها، كان شاب مسلم يجلس في مركز دائرة النفوذ والتحكم في قمة هرم تلك الامبراطورية ". وكانت تلك العلاقة بين فيكتوريا وعبد الكريم بمثابة صدمة قاسية لأفراد الأسرة المالكة ، ومما زاد من شعورهم بالمرارة أنهم يعرفون أنها علاقة أعمق وأكثر حميمية وسرية من العلاقة السابقة بين الملكة والشاب البريطاني جون براون . وسط كل هذا ، هناك قلق ذعر كبيرين من هذا التقارب الذي تجاوز التقاليد الملكية ، ولا سيما رئيس الوزراء اللورد سالزبوري (مايكل جامبون) ، والسكرتير الخاص هنري بونسونبي (تيم بيجوت سميث) ، والبارونة تشرشل (أوليفيا ويليامز) ، والطبيب الخاص الدكتور ريد (بول هيغنز) ، ناهيك عن ابنها بيرتي أمير ويلز (إيدي إيزارد) . تبدأ تلك المجوعة من خلق المتاعب ، أولا تكذيب حكاية عبدول لفيكتوريا عن التمرد الهندي ضد الاستعمار البريطاني وهو تمرد هندي طويل ضد الحكم البريطاني. وبسبب الأحراج الذي سببه لها قررت فيكتوريا طرد عبدول لكنها غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة . والثانية عندما يكتشف طبيب البلاط أن عبدول مصاب بمرض السيلان ، لكن مرة أخرى تظل الملكة مساندة لعبدول ولا تعير أهتمام لذالك . فُزعت عائلة الملكة فيكتوريا وخدمها من تأثير الخادم الشاب واتهموه بالتجسس لصالح الرابطة الإسلامية الوطنية . اكتشف فريدريك بونسونبي (نجل السير هنري) أن المونشئ لم يتحرى الصدق بخصوص نسبهِ ، تجاهلت فيكتوريا كل هذه الادعاءات واعتبرتها بدافع التحيز العنصري . بعد فترة وجيزة ، تتعب الملكة وتقع طريحة الفراش وتدرك فكتوريا أن ألاسرة المالكة سينتقمون من عبد الكريم الخادم الوفي بعد رحيلها وتأمره بالعودة الى الديار . ولكن عبدول يرفض الامر ويصرً على البقاء مع الملكة حتى وفاتها في عام 1901 . طلبت فيكتوريا أن يكون عبدول من ضمن المجموعة الصغيرة مع أقرب أصدقائها وأفراد عائلتها المعزين في جنازتها في قلعة وندسور ، وامتثل إدوارد نجل فيكتوريا لهذا الطلب ، ودمج عبدول في موكب الجنازة وسمح له بأن يكون آخر شخص يشاهد جثة فيكتوريا قبل إغلاق نعشها .
ومثلما توقعت الملكة تماما ، بعد بضع ساعات من جنازة الملكة فيكتوريا، كان من أوائل القرارات التي اتخدها إبنها إدوارد طرد عبد الكريم وإنهاء خدماته بصورة مهينة . أرسل إدوارد السابع حراسا إلى الكوخ الذي شاركه عبدول مع زوجته ودمر المكان واستولى على جميع رسائل الملكة وأحرقها على الفور و أمروا كريم بالعودة إلى الهند على الفور ، دون ضجة أو وداع . بعد بضع سنوات ، يظهر عبدول وهو لا يزال يتحدث ويقدس الملكة من خلال رعاية تمثالها في منطقة بالقرب من تاج محل . في عام 1909 مات عبدول وضاعت حكاية عبدول مع الملكة فكتوريا ولم تكشف إلا بعد مائة عام عندما حفرت الصحفية (شراباني باسو) عميقا واكتشفت معلومات لم يسبق الاعلان عنها .
السيناريو الذي كتبه "لي هول " يسمح بذكاء لرواد السينما باكتشاف من هو هذا الساحر الهندي الغامض وما عمله مع فيكتوريا ، يبدو عبدول صريحا ولكن سيظهر في النهاية أنه عرضة لحذف الحقائق حول ماضيه . في البداية تمت ترقيته إلى المساعد للملكة في مراسلاتها اليومية ، وتطلب من هذا الكاتب السابق في السجن أن يدرسها لغته الأم الأردية وتعاليم الاسلام . عندما علمت أن كلمة المعلم هي "مونشي" ، أعلنت فيكتوريا أن هذا سيكون الآن منصب عبدول الرسمي . مع تزايد أعتماد الملكة على عبدول الهندي تتصاعد التوترات بين أولئك الموجودين في دائرتها الداخلية وتحاك المؤامرات من أجل إبعاده . من المؤكد أن العرق والطبقة والامتيازات الضخمة تلعب دورا في تأجيج إستيائهم المشترك من أن يتم دفعهم جانبا من قبل هذا الغريب الأجنبي لدرجة التمرد على الملكة . على الرغم من أن العلاقة بين الملكة فيكتوريا (جودي دينش) ومونشي - الكلمة الأردية للمعلم - امتدت خمسة عشر عاما في الواقع ، إلا أن الفيلم لا يصور مثل هذا المرور الكبير للوقت وبدلا من ذلك يشير إلى أن عبدول كان إضافة متأخرة إلى الحياة الملكية المتعثرة بسبب الروتين والملل من الشكليات. بالرغم من ملاحظتهم بأن ألملكة فكتوريا تصبح في أفضل حالاتها حين تجتمع مع عبدول و بمفردهما ، يناقشان نقاط الاختلاف والتشابه في الدين أوالانقسام العرقي بين البريطانيين والهنود وكيف يرتبط كل ذلك بمفهوم الإمبراطورية ، الا ان هذا الامر يثير حنق ولي العهد والحاشية . هناك الكثير مما كان يمكن فحصه فيما يتعلق بالإمبراطورية البريطانية وانتشارها الاستعماري لكن سيناريو لي هول لا يكشف شيئا على الإطلاق عن هذا الرجل المسلم وما يفكر فيه في الموقف . بشكل عام ، صور الفيلم علاقة وثيقة بين شخصين غير متجانسين تسببت في ضغوط كبيرة َ لا سيما العنصرية والتعصب في ذلك الزمن ، كانت صداقتهما حقيقية بالرغم من أن الأمر مخالف للطبيعة العلاقات المتعارف عليها في ظل تعقيدات التاريخ والقمع الاستعماري . تحاول المكلة فيكتوريا تغطية الفجوة الآخذة في الاتساع بين "إنسانية" الملكة ( التي يصعب على المشاهد تصديقها ) والظروف المروعة للسكان المستعمرين في شبه القارة الهندية والتي يتجاهلها السيناريو تماما على حسابه الدراما المستمدة من كتاب شرباني باسو التاريخي المستند إلى يوميات عبد الكريم التي عثر عليها بعد أكثر من مائة عام من وفاته .
الخلاصة : لا نعرف حقا ما إذا كانت هذه الحكاية قد حدثت على هذا النحو ، لكن الثراء الذي يتم به تقديم الشخصيات يجعلنا ننسى الدقة التاريخية والتي يتم تطويرها بسخاء والدافع وراء أفعالهم يصبح ممتعا. تلجأ فيكتوريا إلى عبدول لأنها تحتاج إلى صديق مقرب لمساعدتها على نسيان عزلة ومرارة الماضي . الشاب عبدالكريم من جانبه لا يسعى إلى الثروة أو الوضع الاجتماعي، ولكن من لحطة تبادل النظرات مع الملكة في مواجهته الاولى سوف نفهم أنه يريد أن يكون معها ، لربما كان حدسة في أنها تحتاج إلى شخص يفهمها ويحمايتها ويراها كشخص بسيط من لحم ودم . فى رأيى الفيلم يضفى الملكة فيكتوريا درجة كبيرة من الإنسانية وهي تحنو على الشاب الهندي المسلم ، أضافة الى كونها امرأة مسنة تريد أن تعيش حياتها، فهى تعرف أنها عصبية وبدينة وتدرك أن الحاشية التى تحيط بها لا تحبها، وأن أبناءها لا تنتهى أزماتهم ومشاكلهم وتناحرهم، الجميع هنا يتجسس عليها وينتظر موتها ، في حين الشاب عبدول الطيب القلب كان يضمر لها الخير ويكنُّ لها الحب .
بالرغم من أن فيلم "فيكتوريا وعبدول" في عنوانه التمهيدي يركز على حقيقة أحداثه التي كتبها الكاتب المسرحي لي هول لذي اعتمد على كتاب عام 2010 للصحفية الهندية شراباني باسو وحاول الاقتراب من تفاصيل علاقة المكلة فكتوريا مع عبد الكريم ، لكن ثناء قيام شراباني باسو بجولة في المنزل الصيفي في جزيرة وايت في فيكتوريا في عام 2003 لاحظت العديد من اللوحات وتمثال نصفي بارز لخادم هندي يدعى عبد الكريم . "لم يبدو خادما" كما قالت باسو لصحيفة التلغراف في عام 2017 " لقد تم رسمه ليبدو وكأنه رجل نبيل ، كان يحمل كتابا و ينظر جانبا. شيء ما في هذا التعبير أدهشني ،". في الفيلم يستخدم المخرج فريرز الصداقة غير المتوقعة بين فيكتوريا وعبدول لاستكشاف قضايا العرق والطبقية والدين والثقافة والاستعمار بشكل ساخر لغرض لفت الانتباه إلى الخروقات والعنصرية والظلم . أما بالنسبة لما رأته الملكة في عبدول بعيدا عن أصله وعرقه ، الصحفية باسو توضح لصحيفة التلغراف هذه المسألة قائلة ، "لقد تحدث إليها كإنسان وليس كملكة ، الجميع أبقوا على مسافة منها حتى أبناءها ، وجاء هذا الشاب الهندي ببراءة يخبرها عن الهند وعائلته وكان المستمع عندما تشكو من عائلتها" .
2166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع