المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
من مفارقات الحياة – القوافل العسكرية
كانت السياقات الرسمية المتبعة والواجبة التنفيذ تقضي بعدم جواز تنقل العسكريين ومنتسبي الأجهزة الأمنية بين المدن والقصبات الشمالية الكردية الا برفقة القوافل العسكرية المعدة لهذا الغرض ضماناً لسلامتهم وعدم تعرضهم للمخاطر من قبل مفارز قوات البيشمرگة والتي كانت تتواجد على الطرق الموصلة بين هذه المدن والقصبات في فترات القتال الدائر بين الأنظمة العراقية المتعاقبة والحركة الكردية بقيادة (مصطفى البارزاني) وكانت هذه القوافل تتكون وحسب أهمية الطريق وخطورته من قوة عسكرية مسلحة مع عدد من العجلات العسكرية من مختلف الأنواع وبأمرة ضابط ، وعند الحديث عن القوافل العسكرية تحضرني ثلاثة حوادث احداها مؤلمة والاخريات طريفة فأما الاولىٰ التي لا يمكن ان انساها لأثرها العميق في نفسي ووجداني وكانت مع بدايات تخرجي من كلية الشرطة في عام (1969) وتعيني على ملاك قوة الشرطة السيارة وكنت برتبة ملازم في الفوج العاشر في منطقة تقع بين ناحيتي شوان و طق طق على طول الطريق الواصل بين محافظة كركوك و قضاء كويسنجق، كنت عائداً من اجازتي في شهر مايس (1969) ومعي عدد من زملائي الضباط والمراتب العاملين في نفس الوحدات العاملة في نفس هذا الخط و الاتجاه وكانت نقطة تجمعنا في محافظة كركوك ومنها يتم الانطلاق نحو الأماكن المقصودة بعد تحديد الوقت والمكان الذي تنطلق منه القافلة العسكرية ومعها جميع السيارات التي تقصد وحدات عسكرية ودوائر أمنية تقع على نفس الاتجاه المحدد للقافلة وفي الصباح الباكر حضرنا الى نقطة تجمع السيارات حيث انظمت السيارة التي تقلنا مع بقية السيارات المكونة للقافلة العسكرية واصبح عددها يربو على العشرون عجلة وفي المقدمة منها مدرعة عسكرية وتعقبها سيارة المقدم آمر القافلة ومن ثم تحركت القافلة وكانت تسير ببُطء لطبيعة العجلات والحمولات المحملة على بعضها ورداءة الطريق، عند عبورنا و اجتيازنا لناحية شوان ووصولنا الى منحدرات تلال (خالخالان) انحرفت احدىٰ الشاحنات من نوع زيل روسي عن الطريق وانقلبت الى الوادي الذي يقع تحت الشارع وتدحرجت لعدة مرات واستقرت مقلوبة على احدى جوانبها بعد أن استطاع سائقها ان ينجو بنفسه اما زميله العسكري الذي كان بصحبته ويجلس معه في المقعد الامامي استطاع هو الآخر أن يلقي بنفسه من باب السيارة خارجها الا أن ذراعه اليمنى بقيت تحت السيارة المقلوبة وهو يصرخ بأعلى صوته وكلماته لا يمكن أن أنساها وكانت القافلة قد توقفت عن المسير وترجل كافة من كان فيها على الشارع الترابي غير المبلط والجميع ينظر مشدوداً الى هذا المنظر المثير للشفقة وكنت احدهم، السيارة كانت محملة بالأعتدة والقنابل وبعد برهة يسيرة ظهرت بوادر اشتعال النار في محركها، هرع بعض الجنود واندفعوا محاولين النزول من حافة الوادي لغرض تخليص هذا الجندي المسكين من محنته الا أن المقدم الركن آمر القافلة بادر وكان واقفا بمواجهة هؤلاء الجنود بعد أن اخرج مسدسه وسحب اقسامه مهدداً بإطلاق النار على أي فرد يتقدم نحو الجندي الذي كان مستمراً في صراخه وبكائه ومناداته في طلب العون والمساعدة... آني بعرضكم يمعودين خلصوني...اهل المروة وينكم آني راح أموت ..وينكم؟؟. شباب...لخاطر اطفالي...لك انتو مو اسلام شبيكم...تعالوا گصوا ايدي رحمو حالي...وهو يحاول بكل جهده اخراج ذراعه من تحت السيارة دون جدوىٰ والضابط آمر القافلة يأمر الجميع بالعودة الى السيارات والتحرك من هذا المكان بعد تصاعد النيران والدخان وبعد الابتعاد لمسافة قصيرة بدأت أصوات انفجار العتاد والقنابل تسمع من قبلنا والجندي الذي تُرك يواجه مصيره لوحده وافاه الأجل وترك في نفوسنا الاسىٰ والحزن ومنظر لا يمحو من ذهني في توسله واستعطافه الحاضرين دون فائدة.
قافلة عسكرية
التمس منكم العذر لما سببته لكم من أذىٰ وعدم ارتياح من خلال روايتي لهذا الحدث الأليم واعوضكم عنه برواية قصتين أخرين لي مع القوافل العسكرية ولكنها مشوقة وطريفة حيث كنت عائداً من اجازتي من بغداد الى محافظة أربيل بعد تجدد القتال بين النظام العراقي والحركة الكردية والذي كان قد توقف لمدة أربعة اعوام على اثر توقيع اتفاقية (11 آذار 1970) كنا في الشهر الخامس من عام (1974) قصدت گراج النهضة وركبت احدىٰ سيارات الأجرة العاملة على خط بغداد – أربيل مع بقية الركاب وقبل ان يتحرك السائق استفسر منا (خو ما بيكم واحد عسكري؟) واجبناه جميعاً بالنفي وتحرك السائق وهو يلفظ جملة ((توكلنا عليك يا الله )) كنت برتبة ملازم أول شرطة الا انني كنت لازلت احتفظ بهوية الجامعة المستنصرية – قسم القانون بعد أن كنت قد انهيت الدراسة في عام (1972)، وضعت الهوية المذكورة في جيبي اليمين والهوية العسكرية في جيبي اليسار عند وصولنا الى سيطرة حمرين ووقوفنا طلب المسؤول فيها ابراز هوياتنا فما كان مني وكنت ضارب دالغة كما يقولون الا ان اخرج له هويتي العسكرية بالخطأ ويطلب من السائق ((اطبگ ويه القافلة العسكرية)) والسائق يرد عليه ((ليش اطبگ ويه القافلة وآني ماشايل ويايا عسكري)) ومسؤول السيطرة يرد عليه ((اطبگ اخي شنو ما شايل عسكري وهذا الأخ اللي وياك ملازم اول بالشرطة)) على اثر ذلك اتجهت نظرات السائق وبقية الركاب نحوي وهم يعاتبونني ليش اخي هيجي سويت بينا هسه شنو ذنبنا ويه القافلة ما نوصل أربيل بعد عشر ساعات والسائق يعاتبني اخي بالگراج جانت سيارات للعسكرين جان ركبت وياهم...طلبت منه ومن بقية الركاب امهالي بعض الوقت وسوف اعالج الحالة وكان السائق يرد شدعالج مستحيل يخلونا نطلع بدون قافلة وأرد عليه اذا ما خلونا اترككم، نزلت من السيارة وطلبت من الجندي ان يدلني على آمره المباشر فدلني عليه وكان جالساً في اعلى التل فتعنيت الصعود اليه وكان ضابطا عسكريا وبرتبة ملازم أول وبعد السلام والسؤال عن الحال والاحوال عرفته بنفسي وبأنني وقعت في خطأ عندما أبرزت هويتي العسكرية بدلاً من الهوية المدنية للعسكري الواقف في السيطرة وابرزتها له وطلبت منه أن يساعدني ويسمح لي وجماعتي من استثنائي من مرافقة القافلة العسكرية والانصراف مع تأكيدي له بانني سوف اخفي الهوية العسكرية ولن ابرزها الا عند الحاجة سمح لي بالانصراف وطلبت منه ان يؤشر بيده للعسكري ليسمح لي بمواصلة السفر الى أربيل وفعلا تم ذلك وعند عودتي وركوبي سيارة التاكسي تعجب مني السائق عن كيفية سماحهم لي بالسفر وليس برفقة القافلة العسكرية، ولما شرحت له الحالة وما وقعت فيه من خطأ ابرازي للهوية العسكرية بدلاً من المدنية، طلب مني أن اسلمه الهوية العسكرية وبعد ان وضعها في مكان مخفي من السيارة بادرني بالقول ((والله ما ارجعلك ياها الا في أربيل)) وفعلاً عند وصولي الى محافظة أربيل استلمت الهوية العسكرية وودعت السائق.
وحدث آخر صادفني في (شهر كانون الثاني 1975) عندما كنت عائداً الى أربيل مع صديقي (شيرزاد) الذي كان يعمل سائق أجرة على خط بغداد – أربيل
وكانت سيارته من نوع بلايموث وطلب مني أن انتظره في داري في مدينة الثورة ليأخذني معه بعد أن يقبط ويحصل على الركاب الثلاثة في المقعد الخلفي، جاءني متأخراً في الساعة الرابعة عصراً والسيطرة تغلق في كركوك بالنسبة للعسكريين في تمام الساعة السادسة، عاتبته على
سيطرة حكومية
التأخير وبأن السيطرة لن تسمح لي بالعبور الا أنه أجابني ضاحكا ومازحا... اترك الموضوع عليَ آني اعالجه انت ما عليك شوف شلون راح اعبرك، فاتني أن اذكر بأن هويتي المدنية الصادرة من الجامعة المستنصرية كنت قد فقدتها، على كل حال قبل وصولنا الى سيطرة كركوك – أربيل وكنت قلقا وافكر عن الوسيلة التي سيخلصني منها (شيرزاد) من هذا المأزق واذا به ينحرف عن الشارع ويوقف السيارة ويطلب مني قيادتها بدلاً عنه لحين العبور من السيطرة وكان الوقت ليلاً وفعلاً قمت بهذا الواجب على اكمل وجه حيث أوقفت السيارة في السيطرة وتقدم نحوي أحد الجنود وهو يسألني ... أخويه السائق خوما وياك عسكري...؟؟
فأجبته بكل ثقة... لا أخويه الكل مدنيين وتكدر تتأكد بنفسك...أجابني لا عيني تأكيدك كافي...روحوا الله وياكم ..
بهذا أكون قد أنهيت الحديث عن السيطرات بمختلف أنواعها والمعاناة التي كانت تسببها للعسكريين والمدنيين على حد سواء وبعد سقوط النظام السابق في عام (2003) زادت السيطرات وانواعها ليس في خارج المدن وانما في الازقة والشوارع داخل كل مدينة والعاصمة بغداد، اترككم في عناية الله وحفظه.
795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع