د. صبحي ناظم توفيق خبير
ستراتيجي وعسكري... دكتوراه في التأريخ
9 نيسان/2023
عقدان من الزمن على ضياع الوطن -الجزء الثاني-
تمهيد
في يوم 9 نيسان المشؤوم في أنظار الغالبية العظمى من الشعب العراقي ومشاعرهم، عدا قادة الطبقة السياسية الفاسدة وأتباعهم المخدوعين بهم والمستفيدين منهم، وعدد من دول الجوار والمنبطحين أمامها... يوم بَسَط المحتلّون المجرِمون أذرعهم على عموم وطني وأشاعوا فيه القتل والدمار والنهب والسلب والفساد وسرقة أموال الشعب والمخدرات والسفالة، وأعادوه عنوة إلى الحضيض في كل مناحي الحياة بلا إستثناء.
وإيفاءً بوعدنا في ختام الجزء الأول من هذه المقالة، والمنشور يوم 4 نيسان 2023 على صفحات هذا الموقع الأغر، نضع اليوم أمام أنظار متابعينا الأعزاء الجزء الثاني منها تحت العناوين الآتية:-
1. السيادة الجوية.
2. التقدم سراعاً.
3. التخطّي والمجازفة المحسوبة.
4. الإتصــالات اللاسكية والسلكية.
5. التعاون بين الصنوف.
6. الإيمان بهدف الحرب.
7. "بغداد": الغاية المتوخاة.
8. هول الدمار.
9. غياب القادة عن الأنظار.
السيادة الجوية
في مقولة للجنرال الإيطالي "دوهيت" عام 1925، يوم كان تعداد الطائرات في عموم العالم لا بتعدى بضعة آلاف متواضعة في كل مواصفاتها، أنه سيأتي يوم تستطيع فيه الطائرات تدمير جميع منشآت دولةٍ ما، حتى ترغمها على الإستسلام من دون خوض حرب برّية أو بحرية.
تلك المقولة المعبّرة عن بُعد بصيرة، إن لم تكن قد تحققت بشكل مطلق في الحروب الحديثة، فإن سلاح الجو كان الحاسم الأهم في حروب أواخر القرن العشرين، بما فيها حرب الخليج الثانية (1991)، وأخيراً غزو العراق موضوع بحثنا... فالسيادة الجوية التي تحقّقت خلاله، والدمار الهائل الذي أحدثته العمليات الجوية بإستثمار قدرات الطائرات والصواريخ والمقذوفات الدقيقة، هي من مهّدت للإنتهاء من غزو العراق بسرعة لم تَدُر في مخيّلة معظم المحلّلين الستراتيجيين، وجَعَلت القوات البرية المتحالفة بجميع صنوفها، حرّةً في الإندفاع السريع نحو مدن العراق الكبرى في الجنوب والغرب والوسط، قبل أن تقتحم "بغداد" بسهولة ويُسر مشهودَين ومُؤسِفَين.
تعتبر السيادة الجوية أعلى درجات التفوّق الجوي، وتعني أن تكون الطائرات والصواريخ والمقذوفات متمتعة بحرية الحركة والمناورة والتهديف، متى وأينما وكيفما تشاء، ومن دون أن تقاطعها أخطار مقابلة، سواء أكانت طائرات معترضة أو مقاوِمات أرضية ثابتة أو محمولة على منصّات بحرية عائمة أو غاطسة.
وهذا ما تمّ تحقيقه في عمليات غزو العراق، وفقاً لما يأتي:-
1. قرار القيادة العراقية قبل إندلاع الحرب، بعدم إقحام القوة الجوية وطيران الجيش فيها، بل إخفاء القاصفات (BOMBERS) والمقاتلات الإعتراضية (INTERCEPTORS) وطائرات الهجوم الأرضي (GROUND ATTACK) والسمتيات (الهليكوبترات) بين الأحراش والبساتين وحتى تحت الرمال... ولكن علينا أن نقدِّر، إن كانت قد قرّرت عكس ذلك، فإن الطائرات العراقية جميعاً كانت إما تُدمّر أو تحترق وسط القواعد والمطارات، وفي حالة إقلاعها فإنها كانت تُسقَط كالورق مع طياريها، فالفرق بين مستوَيات طائرات الطرفين ومزاياها وأدائها لا تُقارَن.
2. تنوّعت أسلحة مقاومة الطائرات العراقية، وأبرزها منظومات المقذوفات الصاروخية (سام -2، سام -3) المنفتحة منذ السبعينيات في عموم العراق، قد أكل عليها الدهر وشرب، فهي من منتجات الإتحاد السوفييتي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وقد أثبتت محدودية فاعليتها حتى في حرب فييتنام (1965- 1975)... وثانيها مدافع مقاومة الطائرات، وبالأخص (57 ملم) والتي لا يتعدّى مداها (6,6) كيلومتراً، والاُخريات دون ذلك... وثالثها منظومات المقذوفات الصاروخية من الطُرُز الجيدة نسبياً، وأفضلها الفرنسية "رولاند" ذات الأداء المُتمَيّز، ولكن سلبيتها تكمن في محدودية المدى بواقع (5,6) كيلومتراً... ولذلك قرر طيارو التحالف التحليق بإرتفاعات أعلى من مديات الأسلحة العراقية، في حين كان بإقتدارهم ضرب الأهداف الأرضية من دون أية عوائق... لذلك أضحى تأثير المقاومات العراقية تجاه العدو أقرب لمستوى الصفر، بل أنّ ملايين القذائف التي أُطلِقَت تنفيذاً لأوامر القيادات العراقية إنفلقت في السماء هباء منثوراً ولم تَفِدْ في إصابة أي هدف جوي معادٍ.
3. إستثمار التحالف للتشويش الألكتروني الساحق، والذي يتمتع بإمكانات هائلة من طائرات الحرب الألكترونية الإختصاصية (ECM) وطائرات (AWACS) العملاقة، والتي أوقفت عمل الرادارات العراقية القطرية ذات المديات البعيدة، أو الرادارات متوسطة المدى المعتمدة لدى قواطع الدفاع الجوي الجغرافية، أو قصيرة المدى الملحقة بمنظومات المقاومات الأرضية... وبذلك شُلَّت المقاومات العراقية إلاّ من رمي إطلاقات تعتمد على العين المجردة والنواظير المقرّبة، والتي لم تُجْدِ نفعاً سوى الكسب الإعلامي وأنظار عامة الناس.
4. التدمير الهائل لقيادات قواطع الدفاع الجوي العراقية منذ الليلة الأولى من الحرب، وتواصله في الأيام اللاحقة، بحيث لم يَبْقَ من يقود مقاومة الطائرات أو يديرها ويسيطر عليها بشكل مركزي لمجابهة هذا العدد الهائل من الطائرات والأهداف الجوية ذات القدرات الممتازة.
التقدم سراعاً
كانت التشكيلات الحليفة التي إقتحمت العراق، إمّا على شكل جحافل دبابات ومدرعات ومشاة محمول وسط عجلات قتال مدرّعة، أو محمولة جوّاً في متن هليكوبترات نقل ضخمة أو طائرات نقل تعبوي (C-130) و(V-22)، تحقق قابلية حركة ومرونة عالية.
ولما كانت المناطق الجنوبية والوسطى من العراق منبسطة ومحدودة الموانع الطبيعية، فإن القوات الغازية كانت قادرة على التحرك بربوعها في جميع المحاور... ورغم ذلك فقد وَقّتَ الغزاة عملياتهم مع موسم الربيع الذي يندر فيه هطول الأمطار في جنوبيّ العراق ووسطه.
أما الوحدات العراقية فقد تمركزت داخل مراكز المدن، ولم تكترث بحماية الطرق الخارجية بدوريات راجلة وآلية، ولم تزرع كمائن تعوِّق تقدم الأعداء عليها، ولم تنشيء موانع اصطناعية و تخرِّب طرقاً وجسوراً لتعويق العدو وأرتاله الإدارية.. لذلك تقدم الأمريكيون من أقصى الجنوب نحو الوسط بسرعة هائلة، وحققوا تماساً مع وحدات الحرس الجمهوري، قبل أن يتواجهوا قبالة المدافعين في تخوم العاصمة.
ويبدو أن الأمريكيين بشكل خاص، إستذكروا خبراتهم المتراكمة والمحتوية على دروس ومبادئ لتحقيق أقصى سرعة في صفحة التقدم، وقد يكون أهمها:- المعلومات المستدامة، الإسناد الجوي، المباغتة، إِدامة الزخم، التوجيه الواضح، ردّ الفعل السريع، توازن القوة، التعرّض المستمر، وتأمين الشؤون الإدارية.
التخطّي والمجازفة المحسوبة
يستهدف "التخطّي" ترك القوة المتقدمة لمواضع العدو الدفاعية وإبقاءَه تحت الرصد وتثبيته بنيران من أسلحة ذات مديات مناسبة، ومواصلة الإندفاع نحو الهدف التالي.
القوات البريطانية نجحت كثيراً في توغِّلها من أرض دولة الكويت نحو أرض العراق منذ فجر 20 آذار 2003 بإتّباع هذا الاُسلوب، وحققت شبه حصار لفوج مشاة بحري عراقي يدافع عن ميناء "أُم قصر"، فثبّتته وتَخَطّتهُ، وإندفع قسمها الأكبر نحو الزبير والبصرة.
أما الفرق الأمريكية فقد سلكت في اليوم ذاته طريقها بإتجاه الناصرية ثم السماوة، وبلغت وحداتها صحراء النجف وكربلاء، تاركين العديد من المدن والأقضية والنواحي الكبيرة تحت رحمة نيران أعداد ضئيلة من الدبابات والمدرعات والهليكوبترات وطائرات الهجوم الأرضي، قبل بلوغ المناطق الغربية والجنوبية من بغداد.
وتبدو أن القيادات العملياتية العراقية لم تكن على دراية باُسلوب "القَفزات" الذي مارسته القوات الأمريكية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية في أكثر من جبهة قتال، وخصوصاً في الشمال الأفريقي وآوروبا حيال القوات الآلمانية المعروفة بكفاءتها، وكذلك في حرب كوريا (1950ـ 1953) وغيرها، لذلك فوجئ العراقيون بالغزاة وقد بلغوا صحراء النجف وكربلاء في غضون أربعة أيام.
تَجَلَّتْ المجازفة الأمريكية في تركهم مئات الكيلومترات من جنوبي العراق خلفهم، ولكنها كانت مجازفةً مدروسة ومحسوبةً، مع إبقاء تلك المناطق تحت رصد جوي يحوم فوق رؤوس المتقدمين أو على مقربة منهم، ناهيك عن معلومات مؤكدة بأن العراقيين المتمركزين وسط المدن سوف لا يتركونها إلى البراح، كون التوجيهات الصادرة من قياداتهم العليا الى القيادات المحلية مشددة لا تقبل التأويل.
الإتصــالات اللاسكية والسلكية
أُعتُبِر صنف المخابرة/الإتصالات منذ الحرب العالمية الأولى بمثابة العمود الفقري لأي جيش، كونه المسؤول عن تأمين الإتصالات السلكية واللاسلكية بين الآمرين والقادة والضباط وحتى ضباط الصف، والتي بدونها يستحيل إيصال الأوامر وتحقيق القيادة والسيطرة على القيادات والوحدات المرؤوسة في الوقت المطلوب.
أصدرت القيادة العامة العراقية قُبَيلَ إنطلاق هذا الغزو، توجيهات مُلزِمة بضرورة تطبيق "الصمت اللاسلكي" على الأجهزة اللاسلكية، شريطة إبقائِها مفتوحة للإستماع ليس إلاّ، ولا يُسمَح بالتحدث عبرها الاّ عند الضرورة القصوى، ولمّا يبدأ التماس المباشر مع العدو.
ولكن الذي حصل بحق الأجهزة اللاسلكية ذات المديات البعيدة لدى القيادات العليا، أن التشويش الألكتروني المعادي جعل منها مجرد كتلة لا تُجدي نفعاً... أما من شغّل جهازه اللاسلكي ولو كان قصير المدى ولم يَنَلْهُ التشويش، فقد قُصِفَ بعد دقائق من التحدث به، ولمّا إنتبه الجميع لهذه المصيبة، فإنهم آثروا السلامة وأغلقوا أجهزتهم.
لذلك لم يَبْقَ في الساحة سوى الإتصالات السلكية المعتمِدة على البدالات المحورية الخاصة والخطوط المدنية الإعتيادية... ولكنها اُستُهْدِفَتْ في المدن الجنوبية منذ اليوم الثاني من الحرب، قبل تتالي الأيام الى المحافظات الوسطى ثم بغداد، ولذلك لم تَبْقَ لدى العراق أية إتصالات سلكية محورية أو هواتف مدنية لدى تقرّب الغزاة من العاصمة.
أما الهواتف النقالة "ثريا" المرتبطة بالأقمار الصناعية، والتي جُهِّزَتْ بها القيادات العليا وعدد من قادة الحرس الجمهوري بها حصرياً، فإن حالها لم يكن أفضل من أي جهاز لاسلكي.. والأخطر أن الـ"ثريا" بحكم تردداته الكهرومغناطيسية كان يُرشِد الطائرات الحليفة نحو أي موقع ذي أهمية بالغة، ولذلك صدرت أوامر لاحقة أن تُغلَق جميعاً فأمست القوات المسلحة العراقية برمّتها محرومة من أية إتصالات سلكية أو لاسلكية، ولم يبقّ لديها عند تقرّب الأمريكيين الى ضواحي "بغداد" سوى ضباط الإرتباط والمعتمدين لإيصال المعلومات وإبلاغ الأوامر الى القادة الأقدمين، فتدَنَت مستويات القيادة والسيطرة لدى الجانب العراقي الى مستوى النكبة.
التعاون بين الصنوف
التعاون هو المبدأ التاسع من مبادئ الحرب العشرة، وهو من يفرض ذاته في صفحات القتال تعرضية كانت أم دفاعية (التقدّم، الهجوم، الدفاع، والإنسحاب) على حدّ سواء... ويعني أن يُسانِد صنف من القوات المسلحة صنفاً أو صنوفاً أخرى بغية تَوَخّي الهدف المُبْتَغى بأسرع وقت وأقل جهد وأدنى التضحيات والخسائر، ويتجلّى مبدأ التعاون بشكل خاص في صفحة التقدم لتحقيق السرعة.
لا يمكن بطبيعة الحال أن نستغرب تطبيق القوات الغازية لهذا المبدأ، إذ لها تأريخ حروب عظمى وخبرات متراكمة، بما فيها الحربان العالميتان وحروب إستعمارية لا تعدّ ولا تُحصى، وكونها على أهبة الإستعداد في أية ساعة، وخصوصاً تشكيلاتها المخصصة ضمن حلف (NATO) خلال أيام "الحرب الباردة"، وخوضها أكثر من حرب محدودة في بقاع عديدة من العالم.
وفي ذات الوقت لا نستصغر من شأن القوات المسلحة العراقية التي اُقحِمت في حروب متتالية أو أُضطُرّت لذلك، فمارست قتالات متنوعة وسط بقاع جغرافية متنوعة، داخلية كانت خارج الوطن، بدءاً من عقد العشرينيات، ووصولاً الى "حرب فلسطين" (1948)، حرب حزيران (1967)، حرب تشرين (1973)، حتى تُوِّجَتْ بثلاث حروب ضروس متتالية قبل أن تُقحَم في هذه الحرب غير المتكافئة.
وقد تأتي على رأس قائمة متطلبات تطبيق مبدأ التعاون، كل من التدريب المُتْقَن والمشترك، توفّر المعلومات، والإتصالات الجيدة والأمينة، والتي توفرت لدى القوات الغازية، على عكس القوات العراقية للأسباب الآتية:-
1. تضرر الجيش العراقي وتراجعه في كل شيء، بعد كسر فقرات عموده الفقري منذ إنسحابه القسري من الكويت سنة 1991، تبعه الحصار الذي فُرِضَ على عموم العراق 12 سنة متوالية.
2. حرمان القوات العراقية من التدريب المشترك والمُتقَن لعوامل عديدة يطول الحديث عنه..
3. الفساد الإداري والمادي الذي دبّ بأوساطها في عقد التسعينيات، وتراجعها في كل مناحي التقاليد المتقن والإنضباط العسكري.
4. إنشغال قادة العراق بأمن النظام السياسي كأسبقية اُولى، ولربّما الوحيدة.
5. محدودية المعلومات الإستخبارية عن الغُزاة وتخطيطهم العملياتي والتعبوي، والتي لم تكن القيادات العراقية العليا سوى على إطلاع سطحيّ عنها، أو أنها لم تَرْضَ على ذاتها أن تصدّق تلك المعلومات.
6. محدودية تبليغ الحقائق والأخطار القائمة إلى المرؤوسين بجميع المستويات تحت ذريعة أن لا تتأثر معنوياتهم، وذلك سيراً على ذات النهج المخطوء الذي أُتُّبِعَ خلال حربي خليج الأولى والثانية.
لذلك إندفعت القوات الغازية المعهودة بكفاءتها وبأقصى سرعة نحو بغداد، فيما تعاونت دباباتهم مع مشاتهم الراكب ومظلتهم الجوّية الفعالة والحائمة فوق الرؤوس نهاراً وليلاً، فيما كانت مدافع ذاتية الحركة ترافقهم وتؤمّن لهم نيراناً ثقيلة خلال دقائق عند اللزوم، في حين واصلت أرتالهم الإدارية من وقود وأرزاق وماء وعتاد وإخلاء فوري للجرحى والمرضى والقتلى، تخدمهم وتُصلّح عجلاتهم وأسلحتهم المعطوبة أو تخليها بسرعة.
أما لدى العراق المُدافع عن وطنه، ومن دون إسهاب في التفاصيل، فقد كانت إمكاناته في تحقيق مبدأ التعاون بأدنى مستوياتها.
والآن إسمحوا لي أن أسرد أمام ناظِرَيكم بعض الأمثلة عن التعاون الهزيل:-
- في حالة توفر معلومات إستخبارية لدى القيادة العراقية -والتي لم يُسمَح حتى لضباط الركن الأقدمين لدى رئاسة أركان الحرس الجمهوري معرفة مواقعها لأغراض أمنية- فإن التوجيهات الخاصة لم يكن بالمستطاع إيصالها إلاّ باُسلوب الإرتباط العقيم، ولربما بعد إنقضاء ساعة أو عدة ساعات على المعلومة، ومن الطبيعي أن تكون معدومة الفائدة، لأن العدو كان قد ترك ذلك الموقع وإنتقل إلى آخر.
- من إحدى كتائب مدفعية الحرس الجمهوري المنفتحة في تلك الأيام بمنطقة "الحصوة"، تحدث لي ضابط برتبة ملازم أول بأن مدافع بطريته كانت من عيار 130 ملم مسحوب زنة 7 أطنان، لم تُجَهَّز سوى بساحبات المجهود الحربي ذات القدرة المحدودة على الحركة خارج الطرق من إحدى الوزارات المدنية... وقد كُلِّفَ أكثر من مرّة أن يتخذ موضعاً في العراء بالقرب من بلدة "المُسيّب"، شريطة أن لا يرمي منه بل يُحرِّك مدفعاً واحداً فقط الى موضع مؤقت، ولا يقصف هناك سوى ثلاث قنابل، وذلك لورود معلومات أفادت أن عدداً من عجلات القتال الأمريكية شوهدت بمكان ما في صبيحة ذلك اليوم... أما أمر الحركة والرمي فقد إستلمه بعد الظهر!!؟؟
- وإلتقيتُ بعد إحتلال العراق ضابطاً برتبة "مقدم" كان آمراً لبطرية مدافع مقاومة الطائرات لحماية سدّ حديثة... قال:- أنه لم يتلقَّ أية أوامر من أي مرجع جراء الصمت اللاسلكي، ولم تكن لديه أية معلومات عن مجريات الحرب إلاّ عن طريق الإذاعات غير العراقية، ولم يُنذَر مطلقاً حتى حلّقت في سماء المنطقة عدد من الطائرات الأمريكية من طراز A-10 باليوم الخامس عشر للحرب، وقصفتهم!!!!
وإذا كانت الأمور قد سارت كذلك، فقِسْ على ذلك!!!
الإيمان بهدف الحرب
عزيمة القادة العراقيين والضباط والمراتب على القتال، يُفترَض أن تكون بأعلى درجاتها، كونهم يدافعون عن وطنهم وعوائلهم أزاء غزاة يجهرون بإحتلال العراق.
ولكن إيمان معظمهم كان متدنّياً لأسباب عديدة:-
- أنهم خاضوا حروباً متتالية لأهداف غير مُقنِعة، وقد تراجع رأس النظام عنها لاحقاً، مثلما حصل مع إيران، أو بعد الإنسحاب المدمّر من الكويت، والتراجعات المضافة في سنوات الحصار.\تصدّر إمتداح شخص الرئيس صدام حسين معظم الخطاب الإعلامي من دون إستجلاب إسم العراق، وقد ترسّخت المشاعر لدى منتسبي القوات المسلحة بأنهم يدافعون عن نظام الحكم، وليس الوطن.
- إزدواجية القيادة في الوحدات والتشكيلات والمؤسسات العسكرية المختلفة، بين قائد عسكري يمتلك صلاحيات تلقانون والتقاليد العسكرية، وبين قائد سياسي يمتلك صلاحيات أعلى بحكم قيادة حزب البعث للدولة، والتي قد يستطيع بإستثمارها تحجيم دور الأوّل، وبالأخص حينما يكون متشبّثاً بمنصبه ومستفيداً منه ومُطيعاً للحزب الذي بلا إياه لم يكن يحلم بهكذا منصب.
- أفقد الفساد الإداري والمالي والمحسوبيات التي عمَّت دوائر الدولة أواصر القيم العسكرية والأخلاقية والتقاليد المترسخة والثقة، بعد أن ظلّت سائدة بمسوى مقبول في صفوف القوات المسلحة خلال سنوات الحرب ضد إيران.
- كان المُلاحَظ خلو الوحدات الميدانية من أصحاب النفوذ والأموال وأولادهم الذين يُثبّتون لدى الدوائر العليا والأجهزة الأمنية حفاظاً على حياتهم وراحتهم، بحيث إستشعر الشاب العراقي الإعتيادي أن الدولة تُقحمه نحو الموت، فيما تنظر نحو المُعزّزين نظرة مغايرة.
- تأثير وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية على مشاعر العراقيين قبل بدء الحرب وخلالها، بأن قواتهما آتية إليهم إبتغاء تحريرهم من براثن الدكتاتورية والشموليّة، وأن حياتهم القادمة ستكون أشبه بالجنان، وسيتمتعون بالديمقراطية والتعدّدية حالما يُحررون من الحزب الأوحد والقبور الجماعية، والعداءات المتأصلة مع دول الجوار.
- تحميل إذاعة خاصة أمريكية باللغة العربية واللهجة العراقية على طائرات نقل، تُبَثُ منها تلك الإغراءات المصحوبة بملايين المنشورات الورقية الناصحة للجنود العراقيين بالتوجّه الى مساكنهم وإحتضان أولادهم.
- وصاحب ذلك إسقاط الغزاة عشرات الألوف من "بطاقات المرور" التي يستطيع حاملها تسليم سلاحه لأي جندي أمريكي كي لا يتعرض إلى أي أذىً... ولما كانت الإتصالات معدومة بين التشكيلات الميدانية العراقية، فإن تأثير هذه المنشورات والبطاقات أمسى مدمّراً وحافزاً كبيراً نحو مؤاثرة السلامة الشخصية والنأي عن القتال، بحيث فُرِغَت الوحدات المقاتلة والساندة من معظم جنودها، ولم يَبْقَ سوى عدد ضئيل من الضباط والمراتب لدى كل منها.
"بغداد"الغاية المتوخاة
المعروف في التأريخ أن القائد العسكري البارع ومؤسس الإمبراطورية المغولية"جنكيزخان" هو من سجّل ستراتيجية إستهداف رأس دولة العدو، وقضائه على ثلاث إمبراطوريات كبرى في القرن 13، لمّا كان يشكِّل "قوة خاصة" من الفرسان مهمتها الأساس ترك ساحة المواجهة بين جيشه قبالة عساكر عدوّه، وتندفع بأقصى سرعة في البراري البعيدة عن المدن الكبيرة والصغيرة، وتطوي مئات الأميال من دون توقّف مستهدفة عاصمة العدو والملوك والوزراء، مباغِتَة إياهم في عقر عروشهم، فيرضخهم إما لمواجهة الموت أو الإستسلام أو الفرار، إذْ بموتهم أو غيابهم عن قيادة الدولة تتهرّأ العروش وتنهار القصور وتتفتت الأوصال وتغيب القيادة والسيطرة.
وإذا عكسنا ستراتيجية "جنكيزخان" على مجريات غزو العراق (19 آذار- 9 نيسان 2003)، فإن القيادة الأمريكية قدّرت أن في هذا البلد شخصية واحدة يمتلك القرار والكلمة الأخيرة على سلطاتها، فإذا ما أُزيح أو إختفى فإن إسقاط نظامه وإحتلال العراق يضحيان تحصيل حاصل.
أما القيادة العراقية فقد توقّعت قصفاً جوياً حليفاً تستغرق بضعة أسابيع، أسوة بحرب الخليج الثانية (1991)، وتصوّرت أن حزمة من مقذوفات "توماهوك" التي إنهمرت على أحد قصور الرئيس"صدام حسين" صبيحة يوم 19 آذار 2003 هي البداية، وأن توالي الضربات الجوية الثقيلة بالقاصفات والمقذوفات خلال الأيام التالية يستحيل أن تُسقِط النظام.
ولكن الرئيس العراقي بصحبة قادة سياسيين وعسكريين لم يستشعروا براحة بال في كل أيام الحرب، وأُضطُروا للتنقل خِفية من مسكن الى آخر بمعدلات يومية، فحدّ ذلك من قيادته وسطوته وإصدار توجيهاته لمعالجة المواقف الخطيرة... فيما كانت طائرات الغزاة تدمّر بنى العراق التحتية الداعمة للمجهود الحربي، والتي طالت مؤسسات التصنيع العسكري والهواتف المدنية والقيادات الحزبية والأمنية ومحطات توليد الطاقة ومصافي النفط، مُضافة إلى القواعد الجوية والثكنات العسكرية حتى لو كانت فارغة.
وفي الساحتين الجنوبية والفرات الأوسط إستطاع الأمريكيون تجميد حركة القوات العراقية بإفراز مجاميع صغيرة مدرعة وآلية مُسنَدة بالطائرات، وتَخَطّوا مدناً عديدة متوجّهين مباشرة نحو ضواحي بغداد.
هول الدمار
إضافةً الى الدقّة المتناهية في ضرب الأهداف الستراتيجية والقصور الرئاسية والقيادات العليا بذلك الشكل المُريع، فقد تَعَرَّضَتْ وحدات فرق الجيش العراقي البرّية، مع التركيز على تشكيلات الحرس الجمهوري المدافعة في أطراف بغداد، لقصف ثقيل غير مسبوق وبمعدلات يومية، وبإستثمار أثقل القاصفات العملاقة (B-52 … B-1 ... B-2) سواء بقنابل الإسقاط الحر زنة 3- 7 طن، ووصولاً الى القنبلة الضخمة "اُم القنابل" (MOTHER OF BOMBS) بوزن 5,9 طن، والتي صمّمت خصيصاً وأُنتِجت لتستخدم في هذه الحرب.
كان بإمكان واحدة من "أمّ القنابل"، حسب أقوال عدد من ضباط الحرس الجمهوري، أن تُخْرِج جحفل كتيبة تحتوي العشرات من الدبابات وعجلات القتال المدرعة وعدد من المدافع وأسلحة مقاومة الطائرات من الخدمة، وتحوّلها إلى مجرد أكوام من المعادن والسبائك، وتحرق أجساد الجنود وتُهرّئُها بشكل مرعِب، ناهيك عن تفجير الأعتدة المُكدّسة وسط الحفر، وبذلك يفرّ الباقون على قيد الحياة من هول الكارثة، ولا يعود معظمهم إلى ساحة القتال ثانية.
أما الأسلحة الثقيلة التي لم تُصَب، فإن المراقب ومعدات التسديد والتوجيه غير المعدنية الموجودة في جوفها، فإنها تتَكَسَّر وتغدو غير ذات فائدة، فيصبح السلاح الثقيل معطوباً ولا يصلح للإستخدام... ولذلك بلغت القدرة القتالية جراء القصف لوحده لمعظم تشكيلات الحرس الجمهوري الماسكة لضواحي بغداد، أقرب ما يكون الى الصفر، أو 15% في أفضل الوحدات... وبذلك أضحت المحاور المتجهة نحو العاصمة أمام القوات الأمريكية، مفروشة بأبدان متناثرة من بقايا الحرس الجمهوري.
لقد كانت حرباً غير متكافئة بالمرّة.
غياب القادة عن الأنظار
في عموم التأريخ لم يقترف القادة الكبار خطأً مثيلاً لقادة نظام الحكم في بغداد، فبعد تركهم لقصورهم وسكنهم في دور مجهّزة سلفاً وسط أحياء مكتظّة بالسكان، وهذا ما عمله القادة الأعلون ورئاسة أركان الحرس الجمهوريّ ودوائر وزارتي الدفاع والداخلية والأجهزة المخابراتية والأمنية والحرس الخاص، رغم كونهم المسؤولون المُناط إليهم ضبط الاُمور في بغداد وعموم العراق.. وكذلك عمل الوزراء المدنيّون والمحافظون وقوات الطوارئ وفصائل فدائيو صدام، حتى أمسى عدد من أحياء العاصمة ومدن العراق الكبرى مليئة بـ"المواقع البديلة".. وذلك ما أغاظ المواطنين وصَعَّدَ من مشاعرهم السلبية تجاه قادة النظام، لَـمّا إستشعروا بأنهم أمسوا دروعاً بشرية وأهدافاً لهجمات العدو الجوية الفتاكة.
أما النكبة الكبرى فقد حلّت وقتما أوشكت بغداد على الإنهيار، فبدلاً من إلتزام أولئك القادة بمواقعهم البديلة وقيادة من بقي تحت إمرتهم وضرورات إستشهادهم في سبيل الوطن والمبادئ التي طالما دَوَّخوا الرؤوس بها، فقد سابوا مواقعهم هاربين، بعضهم إلى خارج الوطن، وآخرون إلى أماكن لا تستجلب الأنظار وختلوا ببيوت أقربائهم في بغداد أو البعض من المدن والقرى، وكأنهم خطّطوا لذلك مسبقاً، وما أن إنقضت فترة قصيرة حتى إستسلم معظمهم إلى سلطات الإحتلال، وهذا ما كان الغزاة يتمنّونه.
وبذلك ساب البلد أمام الإحتلال البغيض، وإصطفّ إلى جانبه الرعاع وزعماء العصابات وعُتاة المجرمين وأرباب السوابق وأولاد الأزقة، وأمسوا هُم سادة الشارع العراقي، فإقترفوا أعمال السلب والنهب والسرقات والحرق والتدمير والقتل بالجملة لأعوام متتالية، والتي لم تضع أوزارها لغاية يومنا الراهن، وتبدو أنها ستتواصل في المستقبل المنظور، ما دامت الأسس التي تشكّل عليها نظام 2003 السياسي هشّة وترابية، مع سبق التخطيط والترصّد والإصرار.
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://www.algardenia.com/maqalat/58271-2023-04-05-15-05-56.html
1448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع