د. منار الشوربجي
منذ أيام قليلة، انتهيت من قراءة كتاب عن الماسونية، للكاتب الراحل بول جيفرز صدر في 2005. والكاتب مؤرخ معروف تخصص في التاريخ العسكري، ولكنه كان موهوبا في الكتابة، له 70 كتابا على الأقل في مجالات مختلفة منها الرواية بالمناسبة.
والحقيقة أن اهتمامي بالماسونية يرتبط باهتمامي بدراسة الولايات المتحدة الأمريكية. فالماسونية لها تاريخ طويل في أمريكا، يرجع للقرن الثامن عشر، ويقال إن من أعضائها قيادات أمريكية بارزة، كبنجامين فرانكلين أحد أهم من كتبوا إعلان الاستقلال الأمريكي، وجورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة. بل هناك من الكتابات ما يشير إلى أن الرؤساء روزفلت وترومان وفورد وجونسون وريغان، كانوا أيضا أعضاء في الماسونية.
ورغم ما يقال عن عضوية هؤلاء وغيرهم، إلا أن موقف الماسونية حتى داخل أمريكا ملتبس. فبينما يقول البعض، في أمريكا، إن بلادهم تقع بالكامل تحت سيطرة مؤامرة ماسونية، فإن آخرين يفخرون بدور الماسونية، كما يقولون، في إعلان الاستقلال، ويشيرون باعتزاز لما يعتبرونه رموزا للماسونية مرسومة على الدولار الأمريكي، وبعضوية الكثير من الرموز التاريخية والسياسية المعروفة في الماسونية.
والحقيقة أن المعروف عن الماسونية من خلال الكتب والدراسات يظل أقل بكثير مما هو غامض عنها. فالماسونية حركة سرية بامتياز، ولا يعرف ما يدور في داخلها سوى أعضائها الذين يقسمون على عدم إفشاء أسرارها.
وكتاب بول جيفرز عنوانه "الماسونية، من داخل أقدم الحركات السرية في العالم"، وهو يقدم لقارئه معلومات مهمة وإن ظلت في حدود ما تتيحه الماسونية نفسها. فالماسونية تأتى من الكلمة الفرنسية "ماسون"، والتي تعني الحرفيين المهرة في قطع الحجارة، وصارت ترجمتها العربية "البناؤون".
ورغم أن الماسونية بدأت بالبنائين، إلا أنها صارت لاحقا حركة فكرية (ولا نعلم بعد إن كانت أكثر من ذلك)، لكنها ظلت تحتفظ بالاسم ذاته، وبدلا من أن يرمز للبناء والتشييد، صار يرمز كما تقول الماسونية عن نفسها "للبناء الأخلاقى". ويقول جيفرز إن نشأة الماسونية منسوبة لقصة الحرفي البارع حيرام، الذي كان يعمل مع النبي سليمان في بناء الهيكل.
والقصة حسب جيفرز، أن حيرام كان مسؤولا عن كل الجوانب الفنية للبناء، وأن النبي سليمان أسر له ببعض المعلومات والأسرار التي تلقاها من الله. لكن ثلاثة من البنائين، كما تقول القصة، هددوا حيرام بترك البلدة إلى حيث الأجور الأفضل، إذا لم يقم بترقيتهم لرتبة "رئيس أكبر" وإشراكهم في ما يعرفه من أسرار كونية، وحين قاوم قتلوه.
والقصة عند الماسونية، كما يقول جيفرز، ليست مجرد جريمة قتل، وإنما قصة رمزية تشير لكارثة أخلاقية ألمت بالإنسانية. فعند الماسون "الهدف من بناء المعبد كان التعبير عن وحدة الإنسانية، وقتل حيرام يرمز لانهيار ما خططته السماء". ويقول جيفرز إن الماسونية رأت أنه بقتل حيرام "انطفأ نور المعرفة الكاملة... ولكننا نملك الحواس الخمس التي تساعدنا على التوصل لأسرار بديلة تميزنا عن غيرنا، حتى نحصل على الأسرار الحقيقية".
ثم تأتى النقطة الثانية في تطور الماسونية، أثناء الحروب الصليبية. وقتها، تم تكوين كتائب لمساعدة الجيوش الصليبية على "حماية الحجيج"، وأطلق عليهم "فرسان الهيكل"، وهي كتائب تشكلت من الماسونيين، نظرا لأهمية الهيكل بالنسبة لهم. وقد عرفت تلك الكتائب بشراستها ودمويتها الشديدة في القتال في صف الجيوش الصليبية، وزعموا أنهم يملكون معارف سرية، وظهرت عليهم علامات ثراء فاحش بعد الحرب. وهناك أحداث عالمية دموية نسبت للماسونية، مثل قتل الموسيقي النمساوي موزارت، الذي يقال إنه كان ماسونيا وقتلوه بعد أن أفشى أحد أسرار الجمعية.
هذا فضلا عن الاشتراك في الحروب الصليبية، والحرب الأهلية الأمريكية. وبينما اتخذ الأزهر وعشرات من الكنائس المسيحية مواقف حاسمة تحذر من خطورة الماسونية، فإن الجامعة العربية حذرت من الماسونية واعتبرتها داعمة للصهيونية.
وتهتم الماسونية بعلم الهندسة تحديدا، وتعتبره الأساس الذي تقوم عليه. وأغلب رموزها وعلاماتها عبارة عن رموز هندسية، مثل البرجل ومسطرة المعماري. وفي وسط الشعار الرئيسي للماسونية، يوجد حرف "الجي" الإنجليزي الذي يرمز لما يسمونه "مهندس الكون"، الذي بإمكان كل عضو "أن يعرفه وفق ديانته"، بينما يقول آخرون إنه الحرف الأول من كلمة "هندسة بالإنجليزية". وللرقمين 3 و7 أهمية كبرى لدى الماسونية، وللعضوية درجات يقول بعض الكتابات إنها ثلاث، بينما تؤكد أخرى أن هناك 32 درجة بعد تلك الدرجات الثلاث الأولى.
ومن يقرأ كثيرا عن الماسونية يعرف أنها بلا شك ذات طابع نخبوى مغلق، فأعضاؤها يؤمنون بأنهم وحدهم القادرون على معرفة أسرار الكون والتعامل معها، ولا ينبغي لأحد غيرهم أن يعرفها ولا يعرف ما يدور بينهم. وبالمناسبة، العضوية كانت في البداية محظورة على النساء دون إبداء أسباب.
لكن الطابع السري المخيف للماسونية يتجلى في القسم الذي يؤديه الأعضاء، فالعضو يتعهد بإخفاء أسرار الجمعية "وعدم الإفصاح عنها أبدا"... "وبالطاعة الكاملة دون أية تحفظات من أي نوع". ورغم أن هناك قَسَماً لكل درجة، إلا أن السرية والطاعة العمياء محورية في كل قسم. ويبدو أن العقاب عند إفشاء الأسرار دموي للغاية ألمح له القسم، لكن أحدا لا يعرف طبيعته على وجه اليقين.
ومن هنا، فجوهر الماسونية وأهدافها يظل سرا. وبسبب تلك السرية، لا يعلم أحد على وجه اليقين كم عدد أعضاء الماسونية في العالم، فهم لا يفصحون عادة عن عضويتهم. والماسونية تزعم أن هدفها هو تربية الأعضاء تربية أخلاقية فاضلة، تقوم على مبادئ "الأخوة والمساواة والحرية". وتؤكد على أهمية العمل الخيري، خصوصا في مجال الصحة.
لكن مثل تلك الأمور الأخلاقية والخيرية لا تحتاج لكل تلك السرية، الأمر الذي يؤكد أن هناك أمورا أخرى خطيرة لا يعرف أحد عنها شيئا.
996 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع