ديمقراطيات الربيع العربي

                                       


                           د. نسرين مراد

منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، طفت على السطح الحاجة الملحة لتغيير النظام السياسي العربي. جاء ذلك بعد عقود وعهود من الدكتاتورية وانتشار الفساد، واضمحلال التنمية في الهياكل الإدارية والتنموية.

المعارضة العربية للأنظمة أصبحت في حال تنشد فيه إحلال الديمقراطية، واختارت المنهجية الغربية أنموذجاً. جل الرؤوس المطالبة بالتغيير اقتدت بالمثال الغربي، إما بتلقي التعليم العالي في المعاهد الأكاديمية الغربية، أو عن بعد بالقراءة عنها أو التعرف عليها من وسائل الإعلام المختلفة.

أسس الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي غير موجودة من حيث المؤسسات والمنهجية الفكرية والتعليمية. الباب مفتوح فقط للديمقراطية المستوردة، بطريقة أو بأخرى.

واجه إحلال الديمقراطية الغربية امتحاناً عسيراً. بدأ الامتحان العسير في العراق، بمساعدة قوية ومباشرة من قوى التحالف الدولي لنقل الديمقراطية إليه. يضم التحالف الدولي ديمقراطيات من مختلف الأنماط، تتراوح بين الملكية الدستورية والجمهورية الانتخابية.

الديمقراطية في العراق فاشلة بشكل مرعب وبكل المقاييس والأبعاد. هنالك شلال من الدم بدأ منذ اللحظة الأولى لوصول الديمقراطية الموصوفة بـ"المحمولة جواً" أو على الدبابات الأمريكية. المؤسسات الناجمة عن الديمقراطية العراقية تحمل بذور فشلها في طيات ثيابها الزاهية.

بُنيت تلك المؤسسات على أساس المحاصصة الطائفية. كل طائفة تحاول نسف وجود الطائفة الأخرى من مرافق عمل المؤسسات ومفاصلها. لتطبيق أجندة كل منها، انتشرت ظاهرة السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، ترافقها الحملات الإعلامية التحريضية المحمومة ضد كل ما هو غير.

الديمقراطيات العربية الأخرى تواجه أوضاعاً مشابهةً لما يجري في العراق. في النهاية كل ديمقراطية ابتليت بمجموعة من العوامل والأوضاع المتأزمة، مما يهدد مستقبل الدولة والشعب، والسلم المحلي والإقليمي والدولي.

لم تزل الديمقراطيات القادمة مع ربيع التغيير تراوح مكانها، من حيث النجاح والتقدم إزاء كافة الموضوعات المطروحة. هنالك فوضى تعم المجتمعات التونسية والليبية والمصرية واليمنية والسورية في مواجهة التغيير.

تنتشر البطالة والفقر والدمار بشكل واسع، مما يهدد أنسجة المجتمعات ويعرضها للتشرذم والتقسيم والتمزق والحروب الأهلية. باتت الشعوب تنظر إلى عهود الدكتاتورية بالندم على ما حل بها، وتنظر إليها كمنقذ من الأوضاع الجديدة المرعبة.

لم تنضج الشعوب العربية ثقافياً وفكرياً لتصبح ديمقراطيةً بين عشية وضحاها. لم تطبّق الإدارات المحلية برامج تربويةً وتعليميةً وإعلاميةً توجيهيةً، كافيةً لجعل التغيير سهلاً وسلساً ومقبولاً لدى الأغلبية من المواطنين.

كل فئة أو طائفة أو حزب يفسر الديمقراطية على هواه. وبما أن الشعوب العربية في حالة غير ناضجة لقبول الرأي الآخر، فإن تجربة الديمقراطية ستواجه الكثير من الانتكاسات. انتكاسات انتهت بالمجتمعات إلى التقاتل والفوضى.

ذلك ما أوصل الحال إلى طلب تدخلات خارجية لكبح جماح العنف والإرهاب والفوضى المستعرة المتصاعدة. ستدفع الشعوب العربية ثمناً باهظاً إضافياً جراء أي تدخل خارجي يزعم أنه جاء لإنقاذ الثورات الشعبية، أصلاً مقطوعة الرؤوس ومسيَّرة. على جميع القيادات التي وصلت إلى السطح وعلى أنقاض الأنظمة البائدة، أو المختبئة على شكل عصابات وبلطجية، أن تعي الأمور كما هي.

عليها أن ترى الواقع كما هو، بعيداً عن الخيالات والأوهام والطموحات غير الواقعية الخاصة بها. عليها أن لا تلجأ للغوغاء والضوضاء لحل المعضلات التي تحتاج إلى إعمال العقل والحكمة، والتعقل النخبوي بشكل كبير.

لم يعد أمامها أي مجال للتسويف والمماطلة والمناورة على حساب الشعوب وتطلعاتها نحو الاستقرار والهدوء. الدكتاتوريات التي تتخفى تحت ستار الدين، بدأت تطل برؤوسها على أهل المنطقة من جديد وبثياب ديمقراطية مضلِّلة. ثمة واقع الحال مختلف كثيراً عما سبق قبل نجاح الثورات في الإطاحة بحكامها السابقين.

العون الخارجي للدكتاتوريات الحديثة المموهة، يتجسد بالدعم العسكري والمادي والمعنوي والسياسي. ربما أيقنت القوى الخارجية أن الديمقراطية على الطريقة الغربية تعد من الأمور شبه المستحيلة لإحلالها في المنطقة. صناديق الاقتراع في الديمقراطيات الغربية، جاءت نتيجةً لنضوج مفهوم الديمقراطية لدى الشعوب الغربية أولاً. لم تأت في المراحل البدائية والأولى لإحلال أو نشوء أو إرساء الديمقراطية، كما هو الحال في مجتمعات ربيع التغيير العربي حتى الآن.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

988 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع