حفلة في ساعات منع التجوال

                                          

                           د.سعد العبيدي

سيارة حمل كبيرة، تقطر ثلاجة كبيرة، بضاعتها منقولة من أربيل، سوق البضائع التركية الى بغداد، السوق الاستهلاكية التي تبتلع من جوعها الحجر.

تقترب صباح يوم بارد، بل شديد البرودة، شتاء عام 2006 من نقطة السيطرة المسماة باسم المنطقة، سيطرة الشعب التي تحتلها مليشيات أحد الجيوش غير الحكومية.

تتقدم بهدوء حتى لا يكاد القريب سماع صوت محركها الحديث.

السائق متعب، يستعجل الوصول، يحمد الله، بلهجته الجنوبية الواضحة، على بلوغه نقطة السيطرة، فطريقه المار عبر العظيم، الخالص خطير جدا، يقيم الارهابيون المتأسلمون على بعض أماكنه سيطرات وهمية بين الحين والآخر. يخطفون من يريدون.

يقتلون على الهوية من يريدون.

شريعتهم تبيح القتل، تحث على زيادة أعداد المقتولين، خطوة تقربهم من أبواب الجنة.

تبريراتهم جاهزة لاقناع المقهورين.

بسببهم وكم الخوف الراسخ في النفوس، أصبح دارجا لسائقي السيارات وركابها والمستطرقين المارين على هذا الطريق ترديد الشهادة مرات ومرات، بشفاه ترتجف، ولسان يرتجف، وعقل شُلَّ من هول التفكير.

السيارة الكبيرة تتوقف تماما، أمتثالا لإيماءة شاب لم يتجاوز العشرين من العمر. يمسك بندقية، وحزام عتاد حارق يلف خصره الضيق. تغطي عينيه نظارة سوداء رخيصة، تيمنا بالجنود الامريكان اللذين يجوبون الشوارع الرئيسية في تلك الايام التي شهدت أحترابا طائفيا قاسيا. أو تأثراً بافلام الرعب الامريكية التي تملأ أقراصها المدمجة شوارع بغداد.

يبتسم السائق لهذا الشاب القادم من جهة الشمال، معتقدا أنه واحد من أفراد الشرطة التي تقيم السيطرة.... ابتسامة مجاملة أو وربما أمتنان لما يؤديه من واجب وطني في حفظ الامن وحماية الأرواح. شاعرا بنشوة الايصال السليم لبضاعة التاجر البغدادي حدود العاصمة بغداد. يمني النفس بليلة دافئة وسط العائلة في بيتها المصنوع من التنك خلف السدة.

يصله الشاب الذي تكاد البندقية تسقط من يده اليمنى.

لا يستطيع السيطرة عليها ولا على نفسهِ المتوترة، كأنه مزهور أو أن الكبسلة فتكت بخلايا مخه مبكرا.

لا يرد السلام، وجهه العبوس ينذر بالشؤم. بندقيته التي تتأرجح في يده، والمسدس الموجود في الحزام بلا وعاء، وشريط العتاد الذي يتمنطق به علامات تؤكد ذلك.

يتوقف السائق عن الابتسام، وكأنه أدرك العاقبة بحدس الرجل الذي خبر كل دروب الحياة. يمتنع عن الكلام، كأن العزة بالنفس أخذت منه مأخذا. ينتظر رد الفعل القادم من هذا الانسان القادم، وما سيصدر منه، شاب لم يكتمل شعر لحيته بعد. يأتيه الرد بصيغة سؤال:

- ماذا تحمل من بضاعة؟

- شحنة مرسلة من شركة البنيان الى محلات النبع في الكرادة.

يعاود السؤال بصيغة القائد، الآمر، الناهي في هذه الساحة التي يحتلها وشباب المنطقة بقوة السلاح:

- سألت ماذا تحمل؟.

- الم تفهم؟.

- ماهي البضاعة؟.

- انها شحنة بيرة تركية.

لم ينتظر الشاب الذي غلف هيئته بغلاف الدين، دون معرفة بالدين إيضاحات أخرى.

لم يكلف نفسه الرجوع الى القائد الاعلى في جيشه المليشياتي الموجود في مقر قريب من نقطة السيطرة، لانه أعتاد وجماعته، تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات المصيرية التي يرون فيها مس بالشريعة الاسلامية، أو خدش لحياء المسلمين.

لم يلتفت الى دورية الشرطة الموجودة على بعد أمتار منه، لاقتناعه بعدم تدخلها إو بحيادها بينه وبين المواطنين.

صَوَبَّ فوهة بندقيته الى الرأس الاشيب، أفرغ فيه مخزنا كاملا من عتاده الحارق، لم تبقيه أثر انسان قائم في ثوان معدودات.

الرمي يجلب انظار الزملاء وذويهم الساكنين في العشوائيات والدور التي أقاموها تجاوزا على ممتلكات الدولة.

يزداد التجمهر.

يهتف الشاب بأعلى صوته، انه كافر ينقل منكرا.

يمد يده في جيب سترته العسكرية العتيقة، يخرج قداحة، يولع بها رأس المقطورة، تاركا جثة الرجل تحترق بنفس سرعة احتراق المعدات الداخلية للسيارة.

يتجه الى الباب الخلفي لها، يفتحة بعدة عيارات نارية، تعوّدَ رميها صليا لاثبات رجولته المنقوصة.

يتقاطر الجمهور القادم مؤازرة لشبابهم المنضوين تحت هذا الجيش الذي يحميهم من هجمات المتأسلمين. يرددون عبارات دينية، لنصرتهم وجيشهم على أولئك المتأسلمين.

يهجمون على الحمولة قطعان وحوش جائعة مسعورة، يستبيحونها غنائم عدو كافر خسر المعركة توا مع العدل الالهي.

تنقل غنائم المنكر الى البيوت القريبة بنقلات جاوزت الثلاثة مرات بالنسبة الى بعض النسوة النشطات واطفالهن والشباب الحالم بالارتواء من خمر الدنيا قبل أن يغادرها عطشان.

أُفرغت الحمولة تماما قبل أن تأتي النار على مقدمة السيارة. آخر صندوق منها تتشاجر على عائديته سيدتان غادرهن الوقار في هذه الواقعة الغريبة. تفلح السيدة البدينة بحركات يديها غير المتجانسة، ولسانها السليط، من الاستحواذ عليه، مؤكدة أن الرزق الذي يأتي بالتعب سيكون له طعم خاص.

يعم الهدوء ساحة المعركة.

تنتهي الفوضى.

يأتي المساء. يحل الظلام. يخيم السكون.

لا سيارات تمر، ولا أصوات تتعالى، ولا حاجة لتنفيذ الواجبات، فمنع التجوال قد بدأ، والقوم يخلدون الى النوم من تعب المعركة التي خاضوها مع أصحاب المنكر على أطراف بغداد.

شباب هذا الجيش، المنتصرون في واقعة اليوم لا يتعبون، ولا يريدون النوم في ظلام ينتظرونه سترا لجولاتهم الدنيوية الخاصة وتقاسم المحصول.

يجتع خمسة منهم في البستان المهجورة، سادسهم كان القاتل، بطل المعركة، يقيمون ليلتهم أحتفالا بالنصر الناجز على الكفار، زادهم الرئيسي بيرة تركية أغتنموها، من حرب شرعية أقاموها من جانبهم على أهل المنكر في العراق الجديد.

......................................

تنويه: ان حادثة القتل وحرق السيارة ونهب حمولتها من البيرة حصلت فعـلا

عام 2006 في ظـروف الفوضى والاحتراب المليشياتي الطائفي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

906 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع