عندما يملأ الوزير سلّة غذاء المواطن العراقي...!

                                                            

                           بقلم: صفوة فاهم كامل

              

         عندما يملأ الوزير سلّة غذاء المواطن العراقي...!
قراءة في مذكرات الوزير محمد مهدي صالح(درء المجاعة عن الشعب العراقي)

بعد عناءٍ طويل وطول انتظار ومُخاتلة الناشر للمؤلف في التزاماته التعاقدية، فقد أهداني مشكوراً الدكتور محمد مهدي صالح الراوي وزير التجارة الأسبق، كتابه المهم (درء المجاعة عن الشعب العراقي) الذي لخّص فيه عِصارة أفكاره وبصيرته للأمور وخبرة تجاربه وما بذله من حرصٍ ووفاءٍ للشعب العراقي إبّان الحصار الشامل الظالم على العراق، بين عامي 1990 و2003، وجهوده المضنية في إملاء سلّة المواطن الأساسية من الغذاء خلال تلك السنوات، والعدالة في توزيعها، يوم بدأ الفقر والقحط يدقع أبناءه، لكن الجوع والمسغبة لم يكن له مكان في بلدٍ أُعتبر من أغنى دول العالم...!

تسعة أعوام عُجاف أمضاها الدكتور الراوي في غياهب السجون وعذاباتها، ثمانية منها في زنزانة الاحتلال الأمريكي (معتقل كوبر) قرب المطار، والسنة الأخيرة تحت سطوة ذيولهم في (معتقل الحمايات القصوى) في الكاظمية، ليطلق سراحه عام 2012 بريئاً، شامخاً، دون أي رد اعتبار أو اعتذار معنوي أو تعويض مادي من طُغمة المحتل أو إنصاف من (حكومة) بلده، لا بل زادَت من الطين بلّة، وبعد كل هذه الخدمة المشرّفة البيضاء في الدولة العراقية التي ناهزت الربع قرن، بقيَّ بيته الوحيد مسلوباً وراتبه المستحق منهوباً حتى هذه اللحظة.!
وخلال سنوات الأسر والاعتقال وما بعدها من أعوام الحرية المصحوبة بآلام الجور، كتَبَ الراوي، مذكراته التي قام بإشهَارها مؤخراً في العاصمة الأردنية عمّان، خصَّها لحقبة مريرة ألمّت بالعراقيين والعراق. كتابٌ من القطع الكبير وبخمسمائة صفحة، ضمَّ بين دفّتيه ستة عشر فصلاً، زيّنتها عشرات الصور والوثائق والرسائل السرية التاريخية ذات العلاقة، وتُنشر لأول مرّة. كتابٌ غنيٌّ بالمعلومة والمحتوى وإن جاء صدوره متأخراً عن موعده، لكن يقيناً سيعتبر مرجعاً مهماً للباحثين والدارسين، ودروساً قويمة في الوطنية والمواطنة للأجيال القادمة.
في تقدمة الكتاب استعرض المؤلف نُبذاً مختصرة لحالات مختلفة من الحصار مرَّ بها العراق عبر تاريخه القديم منذ أيام السومريين وحتى بداية القرن العشرين مستعيناً بمصادر وشهادات أساتذة عراقيين مختصّين وأجانب مستشرقين. فيما تضمّن الفصل الأول منه، موجزاً عن الحياة السياسية في العراق، خاصة بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وقبل غزو الكويت عام 1990. إذ استعرض المؤلف التطورات الاقتصادية والوفرة المالية المتحققة من ارتفاع سعر برميل النفط التي ذهبت أغلبها إلى الصناعات الحربية وتسديد ديون العراق أولاً ثم الغذاء ثانياً...! كما ضمَّ هذا الفصل الفرص التي مُنحت للعراق لتجنّب عقوبات أمريكية وبداية لعداء طويل ولئيم وتغيير لسياستهم ضده، خاصةً بعد انتصار العراق في الحرب على إيران وظهوره كقوة حقيقية مُخيفة لا يستهان بها في المنطقة.
أما الفصل الثاني فقد حوى تفاصيل العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن بعد إدانته لهذا الغزو من لحظة دخوله الكويت وصدور سلسلة من قرارات أمّمية لم تحدث في تاريخه، بفرض حصار اقتصادي شامل ضده، وتجميد أرصدة العراق في الخارج، غايتها إجبار العراق على الانسحاب من الكويت. وتوالت بعدها قرارات قاسية أخرى خلال الأربعة أيام الأولى من الغزو. هذه الأيام اعتبرها المؤلف (بأنها غيرت وجهة المنطقة كلّياً)، بل غيرت وإلى الأبد وجه العراق أيضاً، والله أعلم بما سيخفيه له في قادم الأيام...!
في الفصل الرابع والخامس والسادس دخَلَ المؤلف إلى صلب الموضوع ومنه استمدَّ عنوان كتابه، فمع بداية الأزمة عام 1990، كان الراوي وزيراً للتجارة ووزير مالية وكالةً، وهما موقعان كانا الأساس في درء الوضع الجديد، والاستعدادات اللازمة لتهيئة البطاقة التموينية وأولويات العمل وتخزين الغذاء لمواجهة مجاعة محتملة لغاية بدأ حرب الخليج الأولى في 17/1/1991، وترقب احتمالات أسوأ قد تصدر من أمريكا والدول المتحالفة معها، خاصة وأن الانهيار الاقتصادي بات وشيكاً بعد وقف الحرب في 2/3/1991، والخزين الاستراتيجي من المواد الغذائية في طريقه إلى النفاد، بعد تعرّض الكثير من المخازن للسلب والنهب أثناء صفحة الخيانة والغدر في المحافظات الجنوبية والشمالية، ألحقت دماراً شبه كامل في البنية التحتية للبلد، ليُجبَر الجيش على التدخل وإخماد هذا التمرد بالقوة اللازمة وخلال ثلاثة أسابيع. ومن أبرز الحالات والمواقف التي اتُخذت لمواجه خطر المجاعة وشلل الاقتصاد هو طبع عملة محلية تُمكّن الحكومة من شراء المحاصيل الزراعية المهمّة من الفلاحين ودفع رواتب الموظفين والتداول اليومي للمواطن في السوق.
ثمَّ تطرّق المؤلف بالتفصيل إلى تسع مصادر تمويل داخلية وخارجية، عراقية وعربية وأجنبية، أحكمت البطاقة التموينية خلال السنوات السبع الأولى من الحصار، والتي سمّاها بأنها الأشد خطورة والأقسى على الشعب العراقي في تاريخيه الحديث، والخطر المحتمل للمجاعة في أي لحظة عند نفاد الأموال من البنك المركزي والمواد الغذائية من المخازن، والضغوط التي مارستها أمريكا ضد الدول المتعاونة مع العراق وكل ما بذله الوزير والوزارة لتجاوزها.
الفصل السابع والثامن من الكتاب خصصه الكاتب حول الفريق حسين كامل وطموحاته السياسية وآرائه الغريبة في قرارات الدولة وسلوكه في التعامل مع الجميع والتي أدت في نهاية المطاف إلى هروبه للأردن وما تبعها من نتائج كارثية لحقت بالعراق ومستقبله، أبرزها رفع الحصار الاقتصادي الذي بات وشيكاً وقتئذ، فأصبح مستحيلاً بسبب تصريحاته غير المسؤولة، إذ عاد الوضع مع الأمم المتحدة إلى المربع الأول، مما دعت القيادة إلى قبول العراق بقرار مجلس الأمن 968، الذي سميَّ بـ (برنامج النفط مقابل الغذاء)، وإن كان مُجحفاً في تنفيذه إلا أن التفاوض مع المجلس لتطبيقه وآلية العمل به بشكل مفصّل قد بدأ، وكان لا بد منها...! كما أشار الراوي مرة أخرى إلى حسين كامل في الفصل الأخير من الكتاب ومحاولاته الحثيثة لإلغاء البطاقة التموينية والالتفاف عليها والتدخل في مسارها.
شُكلت لجان عديدة لتنفيذ البرنامج المنقذ، وعلى ضوء ذلك فأن مفردات البطاقة التموينية ازدادت بشكل ملحوظ وزناً وعدداً، وأثّرت إيجاباً على سلّة غذاء المواطن وعلى نفسيته وحياته وصحته. ومن إيرادات هذا البرنامج بدأت الوزارة ببناء خزين استراتيجي كاحتياط طوارئ والاستمرار بتعزيزها تحسّباً لما قد يحدث من تلكّؤ في تنفيذه أو ما هو أسوأ من ذلك، خاصة أن كل عقود المذكّرة لا تمر إلا بعد موافقة جميع أعضاء مجلس الأمن، وترفض أذا رفضها من أي عضو...!
أما الفصل التاسع فهو فصل إحصائي شامل، شمل واردات النفط بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء، وحصّة البطاقة التموينية من الأموال المستحصلة منه وزيادتها مع الزيادة السنوية التقديرية لسكان العراق، والموازنة العامة للدولة ونسب العجز فيها، وأسعار صرف الدولار مقابل الدينار، وصعوده السريع والمخيف والإجراءات السرّية التي اتخذت لخفضه من قبل البنك المركزي ومصرف الرافدين.
من الفصول المهمّة في الكتاب هو الفصل العاشر إذ تطرّق إلى الأضرار الناجمة عن فرض ذلك الحصار، ومنها تفكّك النسيج الاجتماعي العراقي وتدني مستواه الثقافي وانعزاله عن العالم وسبب أيضاً هجرة العقول وحملة الشهادات العليا. واستند المؤلف بذلك إلى مختصر لتقرير منصف من بروفيسورة أمريكية، وتقرير للأمم المتحدة. ومن جهة ثانية أشار إلى إيجابيات برنامج النفط مقابل الغذاء إذ بدأ العراق ومنذ عام 1997 بالانفتاح نحو العالم الخارجي والاستيراد المباشر من 55 دولة بضمنها دول كبرى في أعضاء في مجلس الأمن منها دول الجوار، وأهمها سورية والسعودية ومصر التي تطورت العلاقات الاقتصادية معها بشكل مطّرد، وكان للوزير دور مهم في إنضاج وتطبيع العلاقات مع هذه الدول، إضافة إلى دول عربية وأوربية وأسيوية أعربت عن رغبتها بتزويد العراق بما يلزمه من غذاء ودواء ومواد أساسية بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية مع أغلبها.
وفي جانب آخر من الفصل ذكر السيد الراوي تفاصيل دقيقة وحرجة جرت خلال مؤتمر القمة في الأردن عام 200 والآخر في لبنان عام 2001، والتطورات التي أفضت إلى اختراق تاريخي في العلاقات بين العراق والكويت لأول مرة منذ عام 1990، وعلى إثرها توقفت الحملات الإعلامية المضادّة بين البلدين لإشاعة أجواء أخوية بينهما، وكان لوزير التجارة دورٌ إيجابيٌ في قمة بيروت للوصول إلى هذه النتائج بالتعاون مع أعضاء الوفد العراقي من جهة والزعماء العرب من جهة ثانية.
الفصل الحادي عشر يبرز الكاتب إلى تحقيق العراق خرقاً استراتيجياً للحصار عبر توقيعه اتفاقيات حرّة مع أغلب الدول العربية لتصبح جميع هذه البلدان سوقاً واحدة تنتقل البضائع منها إلى العراق بدون إجازة استيراد أو فرض رسوم كمركية عليها. كما تضمّن هذا الفصل الفشل الذريع لنظام (العقوبات الذكية) الجديد الذي أرادت أمريكا وبريطانية اعتماده نتيجة انهيار الأجماع في مجلس الأمن وتزايد الإدانة الدولية على مستوى رسمي وشعبي جرّاء الأضرار الإنسانية والثمن الباهظ الذي يدفعه العراق كل يوم جرّاء استمرار هذا الحصار.
الفصل الثاني عشر والثالث عشر، يبدأ فيه الكاتب باستعراض السياسة الجديدة للحكومتين الأمريكية والبريطانية ودورهما في مجلس الأمن من أجل الضغط على العراق لقبول تسوية جديدة وتنازلات مذلّة لتغيير موقفه تجاه القضية الفلسطينية لكن القيادة العراقية رفضت ذلك بشكل قاطع، ومنها بدأت هاتان الحكومتان بوضع خطة لأسقاط نظامه الوطني بعد أن تم تدمير جزء كبير من أسلحته وشل قدرات العراق العسكرية عام 1991 وما بعده، فبدأت بالتهديد بإيقاف العمل بمذكرة التفاهم وصولاً إلى حالة الحرب. لذلك سعت وزارة التجارة إلى إبرام المزيد من عقود المواد الغذائية تحسباً لاحتمالات توقفه. وبدأ الاستعدادات لملاقاة الحرب بعد وضوح مؤشرات سياسية وعسكرية لذلك.
الفصل الرابع عشر تضمن مواقف العراق في القمم العربية والإسلامية التي سبقت الحرب وكان وزير التجارة عضواً في الوفد العراقي وفاعلاً في هذه القمم.
الفصل الخامس عشر تطرّق فيه الوزير إلى الحرب التي بدأت في 19 آذار 2003، وما تلاها من أيام وساعات عصيبة واجهته شخصياً، واجتماعاته مع القيادة لتأمين الحصص التموينية والاستمرار بتوزيعها رغم تعرّض بعض مخازن المحافظات للنهب والسلب.
الفصل السادس عشر والأخير، خصّصه الدكتور الراوي لدور الرئيس صدام بدعم البطاقة التموينية من خلال تواصله المباشر معه وأيضاً المخاطبات السرية المباشرة بينه وبين الرئيس. وفي نفس الفصل أيضاً وضّح الوزير تجاوزات بعض كبار المسؤولين من أقارب الرئيس، على توزيع الحصص لغايات محدودة، لكنه وقف ضدّها وضد أي مخالفة تُسيء للعدالة الاجتماعية في التوزيع وبأسلوب دبلوماسي بعيداً عن الاحتكاك والاصطدام معهم...!
مقابل كل ما قدّمه وزير التجارة من خدمات جليلة لبلده وخدمة جهادية لشعبه طوال فترة الحصار القاسية وتقديراً لعمله المتميّز، ودقته، ونزاهته، فقد مُنح نوط الاستحقاق العالي عام 1997.

              

الدكتور محمد مهدي صالح، من السادة الرفاعية الأشراف، حاصل على شهادة الدكتوراه في جامعة مانشستر في بريطانيا وأخر وزير تجارة في عهد حكم الرئيس صدام حسين وأطول من حمل حقيبتها خلال تاريخ الدولة العراقية الحديث (1987-2003)، كان في تلك الأيام العاصفة من زمن الحصار، ومن منطلق ديني ومفهوم وطني، على درجة عالية من الحرص الإنساني والبشري على العائلة العراقية، وبمستوى سامي من المسؤولية وما تطْلبه منه الأمانة الوظيفية والعبء الثقيل الذي حمله، وشهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، حتى أن الخبير الأقدم في برنامج الغذاء العالمي (WFP) وصفَ البطاقة التموينية والبرنامج الذي أعتمد لتأمين الغذاء لسكان العراق خلال فترة الحصار والحرب بأنه (الأكفأ في العالم، مما جعل الوزير الراوي، بطلاً وطنياً...)، وهذا ما لمسته العائلة العراقية أيضاً خلال تلك الفترة، والحق يُقال هنا إن أجيالاً كاملةً من العراقيين وأنا منهم، سيتذكرون ويتناقلون المرحلة الجسيمة التي مرّوا بها وهم بلا شك مدينون للدكتور محمد مهدي صالح من خلال منصبه هذا، وما قدمه على مدى ثلاثة عشر عاماً وبالأخص عام 1995، الذي يُشبه إلى حدٍّ ما عام الرَمَادة الذي أصاب المدينة المنورة بالقحط في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، عام 18 للهجرة، مع اختلاف الزمن والوقائع، وحالة الجذب والجوع بين الناس، وبالفعل فقد دَرَءَ الوزير مجاعة محتملة عن شعبه عندما كان يملأ سلّته بالغذاء والدواء.
نسأل الله أن يوفق الدكتور الراوي في عمله الحالي مثلما توفّق في عمله قَبْلا، وأن يمدّه بالصحة الوافرة والعمر المديد... وقوله تعالى: ﷽﴿ فمنْ يعمل مِثقالَ ذرّةٍ خيرًا يرهُ ومن يعملْ مِثقالَ ذرّةٍ شرًّا يرهُ ﴾صدق الله العظيم

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1982 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع