الدين والسلطة: الملك الإله في بلاد الرافدين

                                                       

                            بقلم/الأستاذ الدكتور
                          صلاح رشيد الصالحي

الدين والسلطة:الملك الإله في بلاد الرافدين

                                     

لوحة النصر لنرام-سين الملك الاكدي، القرن الثالث والعشرين ق.م

لقد أذهلت الملكية المقدسة لـ(منصب الملك) العلماء ولفترة طويلة في مجموعة متنوعة من المجالات مثل التاريخ، أو الدراسات الدينية، وتبدو الملكية أو أي نوع من السلطة المطلقة بان لها علاقة وثيقة بالدين لغرض إضفاء الشرعية على السلطة، وبذلك اصبحت مفهوما عالميا تقريبا في تاريخ البشرية، فقد اشار الباحث (Frazer) (بان للدين تأثير كبير على موضوع الملكية المقدسة أو الإلهية ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا)، ويضيف كانت هناك طقوس معينة وهي (قتل الملك) حيث يتم التضحية بالملك الإله لضمان استمرار الخصوبة والازدهار للمجتمع، ونقل صفات الملك إلى الناس وبمرور الزمن يتحول الملك القتيل إلى إله، واعتبرت عملية التضحية بالملك عنصر مركزي في الملكية الإلهية، ومع ذلك، لا يبدو أن هذا الشكل من أشكال (قتل الملك) يلعب دورا مهما في جميع المجتمعات التي ظهر فيها تأليه الملك، خاصة وان أوائل الحضارات التي عرفت ظاهرة الملوك الآلهة كانت في بلاد الرافدين، ومصر القديمة، ولم تصلنا منهم نص قديم ذكر فيه قتل الملك.
بلاد ما بين النهرين
ان أول حاكم أعلن نفسه (إله) في بلاد الرافدين كان نرام-سين (Naram-Sin) الملك الأكدي (معنى اسمه محبوب الإله سين)، فقد حكم في وقت ما خلال القرن الثالث والعشرين ق.م، ولكن التواريخ الدقيقة لمدة حكمه لا تزال خاضعة للبحث، وبحسب نقوشه الخاصة تمنى سكان (أكد) أن يكون نرام-سين (إله أكادة)، وأعتقد أن التغير الذي أوجده نرام-سين بوصفه (إله أكد) هي محاولة منه لجمع العناصر القومية المختلفه في الأمبراطورية في سلطة مركزية واحدة يكون هو محورها، بدلا من ولاء الشخص للمدينة القوية، أو للعنصريه، أو للآلهة المحلية، ويعتبرهذا المثال الأول في تأليه الذات مع أول إمبراطورية عالمية لحكام أكد، وهي المرة الأولى التي أسست فيها سلالة حاكمة إقليمية على أجزاء كبيرة من بلاد الرافدين، كما رافق تأليه الملك الأكدي بعض التغييرات في الدين، فقد انتشرت عبادة الإلهة عشتار(Ishtar)، إلهة الحرب والحب، يبدو أن نرام-سين قد شدد على عبادة عشتار في جانبها الشبيه بالحرب (عشتار أنونيتوم) (ashtar annunitum) وبدأ يشار لها بأنها (المحاربة عشتار).
وبعد مرور (200) عام تقريبا من اعلان الملك نرام-سين نفسه إله، اتخذ ايضا الملك شولكي (Šulgi) (2095-2049) ق.م، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة عادة تقديس الذات مرة أخرى، واصبح شولكي مؤله في حلول منتصف فترة حكمه، وقد استخدم العلامة الدالة على الإله أمام اسمه أي العلامة المسمارية (دنكر) (dingir) (بالسومرية) و (ايلو) بالأكدية، وهي على شكل (نجمه) وتعني (إله) كتبت في بعض النصوص تقديسا له، فقد قدمت النذور إلى تماثيله عند ظهور الهلال أو اكتمال البدر، وتسمى الناس باسمه مثل (شولكي-إيل) أي (شولكي ربي)، و (شولكي باني) أي (شولكي خالقي) و (شولكي آبي) ..الخ، وليس هناك إشارة إلى أي شخص يتجرأ ويجادل حاكمه أو خططه لخلافة العرش وهو ما زال على قيد الحياة، ربما تم النظر إلى تأليه نفسه في محاولات لتوطيد الإمبراطورية التي ورثها عن والده اور-نمو (Ur-Nammu)، ويبدو أن عبادة الحاكم الإلهي قد بلغت ذروتها في عهد شو-سين (Šu-Sin) (2037-2029) ق.م ملك سلالة اور الثالثة، الذي ربما كان ابن شولكي أو حفيده وبدأ برنامجا واسعا لعبادة الذات، وبعد الملك شو-سين تم التخلي عن تقديس الملوك في نصوص العرافة مرة أخرى.
يمكن اعتبار ملوك الفترة البابلية القديمة (2000-1595) ق.م إلهيين ولكن لا يزال هذا الامر محل نقاش، فيعتبر بعض الباحثين أن الملوك ريم-سين (Rim-Sin) ملك لارسا (1822-1763) ق.م، وحمورابي ملك بابل (1792-1750) ق.م كانوا إلهيين، فقد كافح الملكان لتوسيع منطقة نفوذهما، وبالتالي ربما كان تأليههما الذاتي جزءا من استراتيجية لتوطيد وإضفاء الشرعية على سلطاتهما.
عموما تمت دراسة الملكية المصرية مرارا وتكرار ، بينما آخر دراسة شاملة للجوانب الدينية للسلطة في بلاد الرافدين عمرها ستون عاما تقريبا عندما اصدر الباحث (Frankfort) كتابه (Kingship and the Gods) عام (1948) والان ظهرت نصوص جديدة تجعل من الضروري إعادة النظر في الموضوع ليس فقط لعلماء الشرق الأدنى القديم ولكن أيضا للباحثين في التخصصات الأخرى.
اما الباحثان (Heimpel)، و(Selz) فلديهما دراسة حول (الملك الإله)، ففي أوائل الألفية الثالثة ق.م كان هناك نوعان من أشكال الملكية، الأول: كان له أساس من البيروقراطية المقدسة، وهو نظام حكم يتم فيه اتخاذ معظم القرارات المهمة من قبل مسؤولي الدولة وليس من قبل الممثلين المنتخبين، والثاني: يقوم على مبدأ الأسرة، وهو مبدأ (الأسرة الحاكمة) الذي كان سائدا مع حكام دولة الأكدية، ويفترض الباحث (Steinkeller) أن ملوك بلاد الرافدين استمدوا قوتهم من كونهم كهنة لآلهة الإناث، وبعد أن أصبح أحد الآلهة الذكور أكثر بروزا في البانثيون (مجمع الآلهة) حدث انقسام بين السلطة العلمانية والسلطة الدينية، فأدى هذا إلى اختراع (القائد العسكري) الذي تولى السلطة العلمانية ومن بعد أصبح ملكا، بينما السلطة الدينية اصبحت حكرا على الكهنة، ومع ذلك فان العلاقة بين السلطة السياسية والدينية لم تنقطع انما في كل العصور هناك تعاون بين الطرفين.
على العموم كان النظام السياسي في بلاد الرافدين القديمة يتكون من عدة دويلات اطلق عليها (دولة-المدينة) (City-States) فكل مدينة وما حولها تمارس السلطة مطلقة، وبالتالي فإن تاريخ بلاد الرافدين تشكل إلى حد كبير من الصراعات بين هذه الكيانات السياسية المختلفة، ومن ثم فإن ملوك بلاد الرافدين قبل العصر السرجوني ليسوا أقوياء تماما لأن نفوذهم يتم كبحه بشدة من قبل القوى المحلية والمؤسسات الأخرى التي نشأت عندما كانت القوة المركزية ضعيفة.
هناك عامل آخر مهم وهو رموز الملك الإله، وأشهر مثال على ذلك لوحة النصر للملك نرام- سين فقد صور في اللوح بان الملك إنسان خارق، فهو يرتدي صفات الملوك بالإضافة إلى رموز الألوهية، مثل التاج المقرن، ، ويعتبر كل من التاج ذو القرون والرداء المفتوح من الأمام من سمات الألوهية، ومع هذا هناك اختلافات دقيقة في طريقة تمثيل الملوك من جهة والآلهة من جهة اخرى خاصة بالنسبة لفنون الاختام والنحت في بلاد الرافدين.
واخيرا يجب النظر إلى موضوع الملكية الإلهية في سياق أوسع خاصة استخدام الدين لإضفاء الشرعية على السلطة المطلقة، ليس فقط في العراق القديم انما حتى في الإمبراطورية الأخمينية (Achaemenid) نظرا لوجود وثائق تاريخية واقتباسها الكثير من ثقافة العراق القديم.
بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2022

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1980 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع