طارق احمد السلطاني
لعنة أرواح شهداء العراق - قصة قصيرة
شربت قدحا من الشاي . كانت شهيتها لا تقبل الطعام . خرجت السيدة مديحة بين زحام الناس المسرعين إلى ملجأ العامرية ، وهم يتسابقون مع الزمن ، طلباً للنجاة من نار الحرب المشتعلة . تحمل على صدرها طفلها الرضيع البكر ، الوحيد باسم . كما حملت معها فراشاً بسيطاً وقليلاً من الطعام ، وهي تحاول قطع مسافة الطريق إلى الملجأ قبل حلول الظلام . انخرط الطفل الرضيع بالبكاء ، ويعكس ضوء الشمس على وجهه أياما حزينة مقبلة ، ومستقبلا مجهولا قاتما ؟ !
حال دخولها الملجأ فرشت البطانية فوق أرضية الملجأ . تنهدت ، وكأن ثقلاً قد رفع عن صدرها . فهي تشعر بالراحة والأمان لسلامة طفلها الرضيع وسلامتها وسط الناس الطيبون اللطيفون خاصّة النساء منهم .
* * *
واصل الليل هبوطه ، وهبّت رياح قارسة ، استسلم نزلاء الملجأ للنوم المتعبين ، نوم عميقا بلا أحلام .
إلا أن السيدة مديحة انتابتها نوبة أرق شديد حتى جاوز الليل انتصافه . سيطرت عليها جيوش النعاس ، ولعلها استسلمت للنوم مدة ساعة أو أكثر . لكنها استيقظت مذعورة !! صوت بكاء الطفل الرضيع باسم أيقظها من النوم . أخذت تهدهده وترضعه وهي تنظر إليه ، فهو ما يزال يرقد إلى جانبها داخل الملجأ . كان باسم طفلا ورديا ناضجا بالصحة إلى حد فاتن . طفلا جميلا يغري المرء بأن يعض تفاح خديه .
وبينما هي تدثره بغطاء أخر استيقظ وانخرط بالبكاء من جديد . أخذ تهدهده وترضعه من ثدييها مرة ثانية .
* * *
وفي هذه الليلة قرر المجرمون اختيار ملجأ العامرية كهدف أولي من قائمة طويلة من الأهداف المدنية .
لقد قّصف ملجأ العامرية فعلا بما يسمى بـ (( القنابل الذكية الخاصة بابادة الجنس البشري )) من خلال فتحه التهوية الخاصة بالملجأ في الطابق العلوي .
وعصف هذه القنابل الشديدة القوة والحرارة أدى إلى إغلاق باب الملجأ ، وتحول الداخل إلى محرقة !!
ركضت السيدة مديحة نحو باب الملجأ ، فوجئت بالباب مغلقاً ! عصرت طفلها على صدرها الذي لا تزال شفتاه تلتصق بحلمة ثديها الأيسر ، مصدومة ، حائرة ، وقد غاب رشدها ، وتحجر فكرها ، وسط النيران المشتعلة حولها وكأنها في حلم .
* * *
وبعد إصابة الملجأ وصلت الحرارة فيه إلى ألاف من الدرجات المئوية !! وانصهرت فيه الأجساد البشرية اللينة الطرية ، أجساد الأطفال الرضع والنساء ، بل إن كثيرا من الجثث في الطابق السفلي تفحمت واختلطت بنثار الأسمنت والحديد المنصهر فتحول هذا الطابق إلى مدفن جماعي للشهداء . أنتهى كل شيء ... لم يتعذب شهيد كما تعذبت السيدة مديحة ؟ !
وفي هذا المدفن الجماعي دفنت الشهيدة مديحة ورضيعها طير الجنة الشهيد باسم . أمُّ ووليدها ، إنسانان دفنا بجسد واحد !
* * *
اشتدت عواصف الرياح الثائرة الحزينة ودخلت الى الملجأ عبر فتحة التهوية وكأنها تشهد أول مرة في الحياة : أن جريمة بشعة قد ارتكبت ضد الإنسانية في قصف ملجأ العامرية .
وبقوة خارقة استطاعت أرواح الشهداء الطيران والخروج من فتحة التهوية الخاصة بالملجأ رغم تصاعد النيران الحامية !!
حلّقت أرواحهم الطاهرة الزكية نحو عنان السماء تحمل معها العصف الذري من لهب تلك الأجساد التي ظلت تحترق حتى الموت !!
العناية الإلهية حولت لهيب أجسادهم المحترقة إلى سلاح خفي فتاك ؟ ! غير مرئي ؟ ! تسلحت به أرواحهم الطاهرة فوق أجنحة الرياح الغضبة الحزينة! انطلقت نحو جيوش الأعداء ، تناثرت فوق رؤوسهم ، نثرت بينهم الذعر
والخوف ؟ ! سقط كثير من الجنود والضباط فوق أرض المعركة ، جرّاء شعورهم بالدوار والضعف والإعياء ؟ !
كما ان لعنة ارواح كافة الشهداء العراقيين الذين استشهدوا في السنوات التي تلت قصف ملجأ العامرية حتى اليوم.
هذه ليست لعنة إلهية فحسب ! بل أنها لعنة أرواح شهداء العراق !!
لعنة ستظل تلاحقهم طول فترة حياتهم . لعنة لن تفارقهم حتى يوم يُقبرون تحت التراب .
911 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع