الحزين النبيل

                                           

كنت أحاول دائما وبقدر الإمكان أن أكون مبتهجا، وأن أسيطر بشكل أو بآخر على الحزن الدفين الكامن في أعماقي، وقد أنتصر كثيرا، ولكنني في لحظة ما غير متوقعة قد يطفح بي الكيل وتنهار مقاوماتي، وتطفو على السطح غلالات من الدموع والحسرات التي لا أقوى على صدها والتحكم بها.

أعترف بأن الحياة على الرغم من مآسيها جميلة، وأن الحب والصحبة والقرابة هي (المشدات) العظيمة التي تربطنا برحم الوجود، وأقسى من القسوة، هو الموت الفجائي، وكذلك الموت (القسري) الذي يحرمك للأبد من (الحب والصحبة والقرابة).

وهذه هي اللحظة الجائرة التي تلقيتها قبل يومين بوفاة أخي الحبيب أحمد، الذي سوف أطوي ذكرياته الرائعة بصدري، وأتجرعها مثلما أتجرع العلقم.

ولكي أبعدكم عن همي الخاص، فشاركوني على الأقل بشيء من الحزن النبيل، لهذا اخترت لكم رسالتين؛ الأولى: من أم لابنتها، والثانية: من بنت لأمها، وكلتاهما أعدمتا في عام 1943 على يد (الجستابو) في زمن هتلر، وقد جاء في رسالة (روز شلوستغر) لابنتها الطفلة قبل يوم من إعدامها:

«لا أدري متى ستقرأين هذه الرسالة، فسوف أتركها مع جدتك لتعطيك إياها عندما تصبحين في سن مناسبة، أما الآن فإنني أريد أن أقول لك وداعا لأنني قد لا أراك ثانية أبدا.

إني آمل أن تختبري أجمل الأشياء التي تقدمها الحياة.

لا تسرفي بعواطفك، لكن الرجل الذي يحبك إلى حد الاستعداد لمشاركتك في عذاباتك ومعاناتك، هو رجل جدير بحبك.

وعندئذ يجب أن تنجبي أطفالا، وعندما تضمين طفلك الأول بين ذراعيك، قد تفكرين فيّ، وتدركين كم كانت لحظة رائعة في حياتي أنا أيضا عندما حضنتك للمرة الأولى في لفافة حمراء صغيرة بين ذراعي.

فكري في أمسياتنا، وأحاديثنا في الفراش، فكري في الأسابيع الثلاثة الحلوة التي قضيناها على الشاطئ، تذكري شروق الشمس وكيف مشينا حفاة على الرمل وقرأنا القصص معا.

وهناك أمر آخر أريد أن أبوح به: عندما نقترب من الموت نحس بالأسف لكل كلمة تخلو من اللطف قلناها لشخص عزيز ولو قدر لنا أن نمدد حياتنا لضبطنا أنفسنا على نحو أفضل.

افرحي ما استطعت، فكل يوم ثمين لن يعود إذا ذهب، ويا أسفاه على كل دقيقة صرفناها حزانى». انتهى.

وهذه هي الرسالة الثانية من الفتاة الشابة (ليبرتاس شولتز)، كتبتها لأمها قبل ساعة واحدة من جرها إلى حبل المشنقة:

«أمي الحبيبة، إنني أعيش في هذا الوقت حلما لن أفيق منه أبدا على أي حقيقة رهيبة، أنت معي في وجداني، ولكن آه لو أقدر أن آخذك معي كليا فأوفر عليك المعاناة التي قهرتها أنا.

إنني أقترب من العلاء أكثر كل لحظة، لم أعد أتعذب أبدا يا أمي، وقد اختفى الرعب من كل شيء، إنني أحب العالم، ولا أضمر أي كراهية لأحد.

كانت رغبتي الأخيرة أن يسلم جثماني إليك. ادفنيه، إذا أمكن، في بقعة جميلة، وسط الريف الذي تضيئه أشعة الشمس». انتهى.

أقدم أسفي واعتذاري لكل من يقرأ موضوعي هذا، وهو يمني نفسه أن يبدأ يومه بصباح مشرق، فلم يجد بين السطور غير كلمات الوداع.

ولكن ماذا أصنع، إذا كانت هذه هي الحياة؟!

رحمك الله يا أعز الناس، يا أحمد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

771 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع