المـتوكـل عـلى الله هيبة الخلافــة وقـوة السلطان

                                                   

                   مجيد ملوك السامرائي [*]

المـتوكـل عـلى الله هيـبة الـخلافــة وقــوة السلطان

   

بعـد ما يزيد عن خمسون سنة (836-892 م) من اتخاذ سرمن راى عاصمة للدولة العباسية عـاد مقر الخلافة مجدداً إلى العاصمة بغـداد ولم تعد سرمن راى بعدها العاصمة رغم محاولات عــــــــدد من الخلفاء العودة إلـــــيها، حدث ذلك في ظل السيطرة التامة لقادة الجيش مع صراع محتدم فيما بينهم حول التسلط السياسي والعسكري, وقد استمر هذا الصراع أكثر من مئة سنة لاحقه أفضت إلى إضعاف الدولة العباسية وأدى ذلك بالمحصلة إلى نشوء دويلات عديدة شبه مستقلة داخل الدولة ومنها دويلات الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والحمدانيون، في خضم ما تقدم من أشكال الصراع والتدهور وسيطرة الجيوش الغازية على معظم أجزاء الدولة بقي للخليفة الاسم المعنوي من دون صلاحيات حيث سيطر على مقاليد الحكم البويهيون ثم السلاجقة وتــــبع ذلك غـزوات المغول التي توجت بإحتلال العاصمة بغداد بقيادة هولاكو الذي قتل أخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله 1258م وهو الخليفه الذي أساء بعض المؤرخين الى سيرته الطيبة, وبذلك انتهت الدولة العباسية التي امــتد حكمها قوةً وضعفاً لأكثر من أربعة قرون وقادها سبعة وثلاثون خليفة من العباسـيـين.
مثلت سرمن رأى العاصمة الإمبراطورية (العالمـية) للدولة العربية الإسلامية واستمرت مقرا للخلافة بثمانية خلفاء هـم؛ الخليفة محمد (المعتصم بالله) أبن هارون الرشيد, ثامن خلفاء بني العباس باني سرمن رأى توفي سنة 841م ودفـن فيها, الخليفة هارون (الواثق بالله) أبن المعتصم تولى الخلافة سنة 842م لمدة خمس سنوات, الخليفة جعفر (المتوكل على الله) أبن المعتصم تولى الخلافة سنة 847م وقتله قادته الترك سنة 861م ودفن في سرمن رأى عـن عـمر ناهـز الأربعين, الخليفة محمد الاول (المنتصر بالله) أبن المتوكل وتولى الخلافة سنة 861م بعد مقتل أبيه لمدة نصف سنة, الخليفة احمد (المستعين بالله) أبن المعتصم وبويع بالخلافة سنة 862م في ظل تفشي سيطرة القادة الترك, الخليفة محمد الثاني (المعتز بالله) أبن المتوكل وسجنه قادة الجيش ثم أطلقوا سراحه وبايعوه سنة 866م للخلافة واستمر ثلاث سنوات ونصف, الخليفة محمد (المهتدي بالله) أبن الواثق أبن المعتصم وبايعوه سنة 869م للخلافة وتوفي بعد ما يقرب من مرور سنة على ولايته، الخليفة أحمد (المعتمد على الله) أبن المتوكل تولى الخلافة سنة870م واستعان بأخيه الأمير طلحة (الموفق بالله) أبن المتوكل الذي إنفرد بإدارة الدولة وقد واجهت خلافته الكثير من ثورات وتمردات الزنج والصفاريين وسيطرة القادة الترك الموالي وإستمرت ولايته اثنان وعشرون سنة, وبعد مرور ستة عشر سنة من ولايته انتقل إلى مدينة بغداد سنة 886م وبذلك يعـد أول خليفة (بــــدأ بنقل مقر عاصمة الدولة أو إعادتها من سر من رأى إلى بغداد).
أستمرت ولاية الخليفة المتوكل خمسة عشرة سنة تعــــد العصر الذهبي لمدينة سـرمن رأى، فــــقد أهتم المتوكل برجالاته من العرب ومنهم الوزير أحمد أبن الخطيب، وكان قــــراره بإستقدام الإمـــــام عــــــلي الــــهادي () من المدينة المنورة الى مدينة سرمن رأى أثـــر وشاية والي المدينة المنورة آنذاك قـــراراً أستمر فعله منذ أكـثر من ألف سنة حيث كان السبب الرئيس لنشوء مدينة سامراء الحالية وتطورها.
سلطان الخليفة: تمـــيز المتوكل؛ بحبه للسلطان ولأولاده حيث قسم إدارة أقاليم الدولة العباسية بينهم وقسم ولاية العهد بين ثلاثة منهم على التوالي المنتصر والمعتز والمؤيد وتولى الخلافة بعده ثلاثة منهم المنتصر والمعتز والمعـتمد كما تولاها فيما بعد أحفاده الى نهايــــة الدولة العباسية. واهتم المتوكل بالعمارة الراقية ذات النمط الإمبراطوري أو الملكي، وشيد مسجدي الملوية وأبي دلف، اما إهتماماته الإقتصادية فمن أبرزها حفر قناة المتوكل (كهريز سامراء) وتطوير مأخذ نهر القاطول بحفر نهر المتوكلية / نهـر المتوكل وهو نهر متعرج حفر في أراضي صلبة كثيرة الحصى والوديان والأخاديد ويرتبط بمجرى النهروان القديم شمالي سرمن رأى ويصل طوله إلى 28 كم ولطبوغرافية هـذا النهر تم تركه لاحقاً، وفتح الشارع الأعظم بطول 17 كم وبعرض 100م وبمسار يمتد من قصر الجعفري شمالاً الى ســور/ دار شناس جنوباً وتم ربطه بشــــــارع السريجة بسرمن رأى الذي يصل بدوره الى قرية المطيرة جنوباً، وشمل إهتمامه بالجانب الترفيهي إنشاء حدائق الحيوانات وساحات سباق الخيل والفروسية وبرك السباحة, وأهتم بإختيار الملابس ذات الذوق الراقي ومنها لباس (المتوكلية) النسائي ولباس (المبطن) الرجالي الملحم بالحرير الأبيض، كما إحتضن الأدباء والشعراء والفنانين.
الــــــتوسع العـمراني: بعــد إتخاذ موضع مدينة سرمن رأى تم الشروع ببناء مركزها (المؤسسات العاصمية) وبوشر بالتوسع والنمو العمراني خلال مرحلتين الأولى شملت إنجاز العديد من الأبنية العمرانية في عهد خلافة المعتصم وابنه الواثق والتي إمتدت لعشرة سنوات، والثانية شملت الأعمال التي أنجزت في عهد المتوكل وابرزها الاتــــي:
شـق شارع العسكر، وبناء حائط ( حائر الحير/ وهو جدار بني لتحوير إتجاه مياه الأمطار والسيول المنحدرة من الأراضي الشرقية / الجلام على طول حدود البناء الخارجي لمدينة سـرمن رأى).
قـــــــــام بتشيـيد المسجد الجامع الكـبير بمأذنته المــــلـــوية سنة 849م (المنسوب خطأ في كتابات العديد من الباحثين إلى المعتصم)، وانجز بعد مرور سبعة سنوات من العمل وبتكلفة بلغت خمسة ملايين درهـم، وجاء بناء هـذا المعلم الحضاري (بعد أن ضاق المسجد الجامع القديم/ قرب شارع السريجة الواقع شرقي موضع المجمع المركزي للخلافة عـن استيعاب المصلين أيام الجمع من سكان المدينة والجند) وموضع جامع الملوية إلى الجنوب الشرقي من مجمع دار الخلافة مسافة ثلاثة كيلومترات وكانت أرضه خالية من البناء ومدت اليه قنوات الماء عـبر نظام الكهاريز كما أقيمت حوله المباني والأسواق.
قـام بتطوير حـــير المتوكل للوحوش/ حديقة الحيوانات، الواقع في الاقسام الجنوبية الشرقية من سرمن رأى في منطقة القادسية مسافة 16 كم وهي مساحة من الارض تصل الى كيلومتر مربع سبق وأن أمـر ببنائها المعتصم وقـام المتوكل بتوسيعها وبتطويرها، وتم تسويرها بجدار من الطين لمسافات أبعـد من موضع الحديقة وشيد قصراً جميلاً (قصر الحير الجديد) عند حدها الجنوبي لنزهة الخليفة و وزرائه وقادته وأمرائه وأسرته, وضمت أعـداد كبيرة من الحيوانات كالضباء والأيائل والأسود والطيور والنعام وتم زراعتها بالأشجار والمغروسات، وحفر في وسطها بركة الماء الصناعية المربعة الشكل والتي تغنى بها الشاعـر البحتري.
قــــصور المتوكل: للمتوكل قصور عــديدة منها ما بناه ومنها ما أعـاد اعماره من قصور الخلفاء السابقين له او ما هدمه وازاله، وأستحداث طـرازاً معمارياً سمي (الحيرى المؤلف من مقدمه وثلاثة أبواب عملاقة عند مدخلها يتوسطها الباب الأكبر والى جانبيه البابان الأصغـر ويسمى (الحيري/ الكمنين)، وقـد اقــتدى السكان بنمط هذه العمارة، وهناك عشرة قصور ذكرها المؤرخون وتغنى بها الشعراء إلا أن مواضعها مجهولة لحد الآن وهي (التل, البهو, الفردوس, البستان, الشاه, العروس/المطل, السندان, الغريب, الوحيد, القلائد), أما بقية قصوره المعروفة فقد تميزت بالفخامة الملكية وتضمنت مداخل عـديدة والرئيسة منها لها ثلاثة أبواب عالية يدخلها الفارس برمحه وبناها في مدينتي سرمن رأى والمتوكلية وهـــــي:
قصر الجعفري المـحدث (بضم الميم وفتح الحاء) بكلفة عشــرة ملايين درهم والواقع الى الشرق قليلا من دار الخلافة / دار العامة وأطلق عليه (قصر الجوسق للمتوكل، قصر البركة، قصر الجعفري المـحدث) وهو ليس قصر(الجوسق الخاقاني للمعتصم / جنوبي دار الخلافة) كما انه ليس (قـصر الجعفري في شمالي مدينته المتوكلية).
قصر بــركوار (القصر الهانئ) بناه المتوكل لابنه المعتز ويسمى بــركوارا, وبــركوان, وبلــكوار, وبلغت كلفته عشرين مليون درهم, ويتـكون من البناء المحاط بسور مستطيل طوله الف ومئتان وخمسن متراً, ويرتكز من جهته الجنوبية على ارض صخرية تطل على شاطئ دجلة بارتفاع خمسة وعشرون متراً, وجدران القصر من الداخل مكسوة بالزخارف الجصية, ولكل ضلع منه باب عـدا ذلك المطل على شاطئ دجلة, ويمر بالقصر شارعـان يتقاطعان مع بعضه، وتقع أثاره جنوبي سامراء الحالية مسافة 6 كم في الموضع المعروف بالمنكور(المنقور).
قصر الحًـــير (نسبة إلى احد ملوك الحيرة), وبلغت كلفته اربعة ملايين درهم, وقـد أهـداه الخليفة المستعين ابن المتوكل فيما بعـد الى وزيره احمد ابن الخطيب, وأثاره في منطقة قادسية دجلة جنوبي سامراء الحالية مسافة 11 كم, وموضعه كان الحد الجنوبي لحديقة حيوانات المتوكل وخلفه ساحة مسورة وكانت أمامه دكــة تشرف على بركـة الماء المربعة الشكل التي تغـنى بها الشاعـر البحتري.
قصر الصبيح وقصر المليح وأثارهما عــند تـل المشرحات, جنوبي سامراء الحالية مسافة 12 كم.
قصر البديع وقصر المختار وموضعهما جنوبي ( تــل العليق / المخالي الواقع شمالي مسجد الملوية مسافة 2 كم تقريبا), وقـد هـدمهما المتوكل فيما بعد ونقل موادها البنائية إلى قصر جعفري المتوكلية.
قصر البــرج شيد سنة (852م) وهدمه المتوكل كذلك فيما بعـد. وقصر المغرد الذي نقضه المتوكل بعد بنائه.
المــــــتوكــــــلــــية: أطلقت على مدينة المتوكل الجديدة أسماء (المتوكلية والماحوزة والماخورة والجعفرية) وشـرع المتوكل ببنائها سنة 245هـ/859م شمالي مجمع العاصمة/ سرمن رأى 17 كم، واتخذها عاصمة بديلة لسرمن رأى على خلفية محاولته التخلص من نفوذ قادة الجيش الترك، وابرز الأعمال العمرانية في المتوكلية الآتي:
المسجد الجامع الكبير/ جامع المتوكلية / أبــــي دلـــــــــف وتمت المباشرة ببنائه سنة 859م، وموضعه يبعد عن دار الخلافة مسافة14 كم شمالاً, وهو مماثل لمسجد الملوية.
قصر جعفري المتوكلية /الجعغري بني شمالي المتوكلية, وموضعه مماساً لمأخذ النهروان من دجلة (نهر المتوكل), وبني هـذا القصر في موضع الماحوزة سنة 860م وبلغت تكاليفه مليوني دينار، ويتسم القصر بالمساحة الواسعة وشموخ البناء والحدائق الواسعة, وكان المتوكل شديد الحماسة والاهتمام به.
قصر اللؤلؤ بني على مشـــارف نهر دجلة خارج ســــــــــور مدينــــــة المتوكلية, مقابل ( مركز ناحــية دجــلة/ مــكـيشـيفـة غرب دجلة) .
قصر الايتاخية (في القـرية المنسوبة إلى احـد قادة الجيش إيـتاخ من الترك في عهد المعتصم) وموضعه على ضفة نهر النهروان الغربية مقابل قصر جعفري المتوكلية.
فـــخامة قــــصور المتوكل:
تميزت قصور المتوكل بالفن الراقي والذوق الرفيع والفخامة, وتم توظيف كافة الخبرات والمهارات والفنون المتاحة آنذاك بالاستقادة من تـراكم الخبرات المتوارثة عبر مئات السنين من القصور البابلية والأشورية و(العربية الإسلامية في بغـداد)، وشيد أغلبها وسط الحدائق والبساتين, وبغرف متعـددة وصلت إلى أكثر من خمسون غرفة في احدها مع الأقبية / السراديب التي تستخدم للقيلولة وبمنظومة تهوية جيدة ومنظومة متكاملة من المجاري المائية عبر مواسير مصنوعة من الفخار لتجهيز القصور بماء الشرب ومواسير اخرى لتسريب المياه الثقيلة, وتميزت كافة القصور بإقامة البرك المائية المكشوفه او المسقوفه والمعدة للزينة او للسباحة وزًينت بالرسوم والتماثيل، وتم إكساء جدران القصور المتعددة الابواب بالزخارف الجصية، واستخدمت الاصباغ والنقوش الذهبية, كما استخدمت الالواح الزجاجية الملونة والمنقوشة إضافة الى الستائر الحريرية وأثاث الصالات وافرشة السجاد والتماثيل الذهبية والفضية، وشهدت مجالس الخليفة الحوارات والمناظرات بين الفقهاء والمتكلمين في العلوم العقلية والنقلية واصولها وفروعها.
طبـقا لأســـس التحليل التأريخي وبناء على تقدم فأن الـــحداثــــــــــة التي طبعت خلافة المتوكل بعكس أسلافة في قيادة الامة وإمامتها أضفت علية الهيبة السلطانية إعمارا وإقتصادا وتمسكـا بالخلافة، إلا ان ما يؤاخـذ على حكم المتوكل هـــــــــــــو؛ تثبيت الخلافة ضمن أبنائه حصراً، وقسوه تصدية لكل المعارضين والمتمردين على خلافـته, وبالرغم من قيادتة المركزية وكرهه الشديد لقادة الجيش الترك والتصدي لهم فــأن سيطرتهم على مقاليد الأمور في العاصمة سرمن رأى أدت الى تـــــدهـــور هيـــبة الــــــخلافــة الــعباســية بشكل متصاعـد، لذلك سعى المتوكل مِـــــراراً التخلص من نفوذ قادته الترك وعليه حاول نقل العاصمة إلى دمشــق, ثم قام بـبناء مدينته المتوكلية، إلا أن إجراءاته للحـد من سطوتهم كانت بمثابة الهروب إلى الأمام ولم يتخذ القرار الحاسم بالتخلص منهم تدريجياً أو دفعة واحدة، وإنما عمل العكس فـقد أستعان احيانا بالعديد منهم وأطلق صلاحياتهم إلى أن وصل الأمر إلى مقتله سنة 247هـ/861م بقصر جعفري المتوكلية بتأمر مفضوح من قبل القادة الترك بعـد التغـرير بولده و ولي عهده المنتصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للـمزيد: مجـيد مـلـوك السـامـرائي، سامراء وتطورها الحضاري، المطبعة المركزية / جامعة ديالى،2013 . دار الكتب والوثائق العراقية، بغداد / العـراق (https;//www.iraqnal.gov.iq) نسخه محفوظة، 2020،على موقـــع / كوكب المنى للنشر، (https://www.merefa2000.com)
[*] مجيد ملوك السامرائي، جغـرافـي/ كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي# ويكيبيديا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1204 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع