رزاق عبود
عائدا من دجلة الخير، خائبا، متعبا، مذهولا، حيث اعترضه القراصنة، وارغم على ترك سفينته هناك.
خيروه بين سفينته المكدسة بالكنوز، والاسرار، واخبار الزمان، وزورق صغير يغادر به بسلامة، فاختار بلم عشاري. سافر بين ركام الطين، وضحالة المياه، واكوام الغرقى، مترصدا، مكتشفا من جديد ضفتي شط العرب الممتدة ما بين النهر المستلب، والبحر المنهوب. مسيرة موجعة، ومسافات من الردى.استذكر قصصه، ومغامراته، وتواريخ سفراته، وحكاياته التي ينتظرها الناس اكثر مما ينتظرون بضاعته. يراقب المفرق، والتقاء النهرين. يرفع يده ليمسح دمعه نزلت على خده، بعد ان التفت فرأى النهرين يفترقان من خلفه. يواسي نفسه انهما يجتمعان، يحتضنان، يواصلان السير معه في مجرى شط العرب. ينظر الى المرافئ القديمة المبنية من جذوع النخيل، وانواع الخشب الهندي، وصخور منزوعة من بقايا المدن التاريخية، وميناء الابله المندثر. اول ميناء في العالم. تمر به السفن العملاقة، والبواخر الحديثة، والزوارق السريعة. بعضهم يتعرف عليه، يعرضون عليه سفنهم، او مرافقتهم، او ان يقود ابحارهم، لكنه يصر على البقاء في بلمه. يريدون ان يدخلوا التاريخ بوضع اقدامه في سفنهم. لكنه يرسم تاريخه وحده. الاغلبية تهزء به، تسخر منه، ويرمون فضلاتهم عن قصد امام زورقه الصغير. يناور ليتجنب مضايقاتهم. يعصره وجع دا خلي، وتتعكر ملامحه، وهو يفتقد بعض الملامح، والشواهد، والاثار، التي رافقت سفراته القديمة، وسجلتها ذاكرته. تلك الشواهد، والحواضر المليئة بالحكايات، والالغاز، والاحجيات، والعبر. احجيات، والغاز، كان الناس ينتظروه ليحمل لهم مفاتيح حلها، وبسط مضامينها، وكشف اسرارها. لكنه، لم يجد غير النوارس الجائعة تزعجه بصوتها، وتفزعه بهجماتها العفوية. غاضبة، ربما، من فقر حمولته، او انعدام اشرعة تحط عليها لترتاح قليلا من مشقة الطيران، والبحث. ظل يفكر ترى هل مر السومريون من هنا؟ هل عبرت سفنهم شط العرب؟ هل ازعجتهم نوارس النهر، وطناطل الساحل، وسعالي الغابات؟ اين اثارهم، مآثرهم، وسفنهم القديمة؟ هل يعرفون يا ترى ان الضفة الاخرى لم تعد سومرية، لم تعد مندائية، لم تعد عراقية؟ سنين طويلة وهو يمحر عباب البحار، والمحيطات، ويزور الامصار، ويغالب الاخطار. يعرف طريق الهند، والسند، وسواحل عمان، وجزر الواق واق. شاهد تقافز الحوريات، وسمع ضحكات الدلافين، وراقب تلاعب الرياح باشرعته البيضاء البينة في عتمة الليل، وكانها ملاك اسطوري تقوده الى المرافئ الامنه، والمراسي التي يقصدها، والموانئ التي يعرفها، والوجوه التي يطمأن لها. شواهق السواري، التي تتحدى السماء، وتخيف الجن، وكانها تقول ان طريق السمو يمر عبر المشاق، والمخاطر، والتحدي. لم يبدو بلمه صغيرا، كما في غابر الازمان. ضاق المجرى، ولم يعد الضياء يغطي مياه النهر. كان كل ما حوله مظلما. لا شراع ابيض يميزه، ولا بوصله تهديه. يحفظ مجرى النهر عن ظهر قلب. لم يخف، ولم يفزع، لكن انتابه الالم، وسيطرت عليه الحسرة، وافتقد الالفة القديمة. افتقد ترانيم الشيوخ المندائية، وملابسهم الناصعة البياض.افتقد طقوسهم، وتحسر على غيابهم. تركوا له ورقة على سطح النهر تقول: لم يعد الماء نقيا، كما كان. لم يعد المجرى، صافيا كما نريد. لم تعد النجوم لامعة مثل السماء الاولى. انتظرناك طوىلا. انتظرنا سفينتك انت، ونوح. ولما سمعنا ان القراصنه اختطفوك ارتحلنا قبلك. نبحث عن سماوات تصطع فيها النجوم، ومياه تجري دون تلوث، وملابس بيضاء نقية، بعد ان جمعنا كل ملابس شيوخنا وصنعنا منها شراعا لسفينتنا المغادرة بلا عودة. نحن نعرف انك ستبكينا فنحن نبكيك، لكن من يغتصب سفينة السندباد، ويتركه في بلم صغير، وينهب مدينته لا نأمل ان يحمينا. سنرحل، ونامل لك، ولنا ان تحمينا نقاوتنا من هجمات الهمج، وقوارب صيد البشر. نتبخر بعبق الماضي، وسفينة بابلية، وربان نوح، وروح جلجامش معنا.
ظل السندباد يجذف لوحده، بوحشة فريدة، لا احد يلوح له، ولا نجم يهديه، ولا زوادة طعام يسكن بها جوعه. ظلمة الليل قد تخفي قراصنة جدد، وقطاع طرق يحتلون السواحل، ووحوش سحرية تقتنص ركاب السفن. قد تطمع حتى بزورقه الصغير. في هدئة الليل، وسكونه الثقيل تسائل مع نفسه: اين الصيادين؟ اين شباكهم، التي كانت تعيق طريق البحاره؟ ممن سيطلب الماء، والغذاء؟ لم يصادف، حتى الان، غير الظلام الدامس. لا يميز الضفة من النهر، ولا اضوية تشير الى مدن كانت زاهية. لم يصادف سفرات ليلية لعشاق يستغلون غياب القمر. في النهار كان الناس يصطفون ملوحين، محيين، مرحبين، مودعين، او مستقبلين متمنين طيب الاقامة، او سلامة الطريق. يصطفون بين مناظر خلابة تبهر النظر، وتسعد الخاطر، كانهم جزء من لوحة جميلة خارقة رسمتها الطبيعة. بساتين عامرة، منعشة، وظلال وارفة وديعة. حدائق غناء على طول الساحل، وامتداد صفوف النخيل تقف ناثرة شعرها متسامقة تمنح الجموع ظلالا وارفة بمظلة سعفها. ثمرها الفردوسي، وهيبتها تمنح الامان. انواع الطيور الجميلة تتقافز بين الاغصان، والسعف، والمسلات، تلاعب الاطفال، وتغرد في كورال غنائي ساحر، كحرس شرف منتظم يؤدي التحية لاشهر بحار، واشجع مغامر، وابرع محدث. صحى من غفوه حلمه فلم يجد غير الظلام يحيط به، والخوف يعتريه، وتتسلل الريبة الى تلافيف روحه، وشغاف افكاره رغم انه عصي على الخوف. رغم مهاراته الربانية، ومواهبه الفذة في خوض البحار، واكتشاف الامصار، وتحدي الاخطار، لكنه يجد نفسه محتارا، مهموما، مضطربا، فهذه ارض، ومياه يعرفها جيدا، لكن يشعر بغربته فيها، يحس انه يراها لاول مرة. ظن انه يدخل العوالم السفلية كجني عاقبه سيده فارسله الى غابة الظلمات.استنجد بابن ماجد، ونواخذة الخليج، ومرشدي الميناء. لم يسعفه احد منهم. لم يسمعوا صوته المختنق. ولا تعرفوا على شكله البائس. اين فروع الشط العامرة بالمد، والجزر، والمزدحمة بانواع السفن، والابلام، والحركة؟ ايعقل ان يكون هذا هو الخورة مقصد "الابوام" و"المهيلات" و"الدوب" التجارية؟ اين حمدان الذي تغنى به العشاق، والشعراء، وصدح باسمه المغنون؟ اين اخوته يوسفان، وكتيبان، و... و... ومئات الانهر، والاشرعة، والترع، والسواقي، والمسنايات، و"الشرايع"؟ اين الچراديغ، والمسافن، ومكابس التمر، والعلب المعطرة بماء الورد، والمحشاة بالجوز؟ اين شارع الكورنيش، ومحتفليه، وعشاقه، ورواده، ومريديه، ونواديه، وفرقه، وموسيقيه، ومقاهيه، وسهراته، ولياليه؟اين الجزر الخمسة التي توجت راس النهر، وكانت عامرة بالزرع، والماء، والناس، والطيبة، والتجارة؟ الجزر التي تسوق منها البحارة، واهتدى بها الملاحون، ولجأ اليها التائهون. اين اشجار الحنة، اين عبق السدر، والنبگ، ورائحة الحناء، والبمبر؟ اين عثوق الرطب، واكداس التمر، وانهر الدبس، والمعسل، و"خصافات" البرحي؟ ارهف السمع طويلا، لا مطبگ، ولا ناي، ولا فيفرة تومان. لاصوت طبلة، ولا تصفيق، ولا جلسات، ولا غناء خشابة، ولا مقامات بصرية! لم يلمح علي بن محمد يرقص الهيوة في عاصمته المختارة.
ايعقل ان يكون هذا طريق مواكب، واعراس، واعياد السومريين، ومملكة ميسان، وزوارق المحتفلين من الابله، الى المعقل، الى الرباط، الى المسفن، الى العشار، مرورا بالخورة، والبراضعية، وقصور الشيخ خزعل، وحمدان، متعديا كل ابي الخصيب الى الفاو، الى الخور، الى الخليج... تحول الى مقبرة للسفن الغارقة، والقوارب الخربة، واجسادا ظلت بلا دفن، وضفاف مزدحمة بالطين، والنفايات، والطمى، وفطائس السمك، والطيور، والقطط، والكلاب السائبة، وفضلات السفن الغريبة. بكى حتى النحيب. تمنى لو انه القى رواسيه عند شجرة ادم، بدل ان يسوقه التيار الى مجاهل الزمن، واشباح الموتى، وصرخات الغرقى، واسماء جديدة للشط، وفروعه، وروافده لم يسمع بها من قبل. ترى هل غيروا اسم الشط ايضا بعدما ازالوا شواخصه؟ هل سرقوا كل المحار، ونهبوا اللؤلؤ من جوفه، وقضوا على كل الاسماء؟ هل تسد الرواسب مجراه، وتقطع عنه الطريق الى حضان الخليج؟!
رزاق عبود
14 تموز 2013
926 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع