د.عدنان هاشم
صور من العنف الديني الحلقة الثانية: مصرع هایباتیا
يخطئ من يظن أن التطرف تميز به المسلمون دون غيرهم ، فالتطرف والغلو يمكن أن يصيب العقول من مختلف الطوائف والنحل وحتى عند أصحاب التيارات السياسية ، وقد ضربت مثلا بمحنة الحلاج في مقال سابق ، وسوف أضرب اليوم مثلا على التطرف المسيحي .
لقيت هايباتيا مصرعها على أيدي الغوغاء المسيحيين في الأسكندرية سنة 415 للميلاد . ولكن من هي هايباتيا Hypatia وكيف كان مصرعها ؟ و لنفهم سيرتها علينا أن نفهم كيف كانت الإسكندرية في ذلك العصر.
أسس الإسكندر المقدوني هذه المدينة فسميت باسمه، وبعد وفاته أسس بطليموس أحد قواده سلالة البطالمة التي كانت كليوباتره آخر ملوكها. إزدهرت الإسكندرية بعد أفول الحضارة اليونانية في بلدها الأصلي اليونان ، حيث انتقل تراث اليونان إلى مصر فازدهرت الإسكندرية بعلمائها وفلاسفتها حتى صارت زهرة المدائن وشعلة الحضارة الإنسانية في ذلك العصر. فقد ازدهر علم الفلك والرياضيات فألف فيها عالم الرياضيات بطليموس Ptolemy كتاب المجسطي Majestic في الرياضيات ، واكتظت المدينة بعلماء وأحبار اليهود الذين ترجموا الكتاب المقدس إلى اللغة اليونانية، وقد عرفت الترجمة باسم Septuagent أي ترجمة السبعين حيث اشترك سبعون حبرا يهوديا في ترجمته وأصبحت الترجمة المعتمدة في روما حتى ظهور الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس.
ظهر في الإسكندرية كثير من الفلاسفة ، كان أشهرهم أفلوطين Platonus واضع أسس الفلسفة الأفلاطونية الجديدة Neoplatonis والتي أثرت تأثيرا بالغا في فكر الفلاسفة الإسلاميين. وأنشئت في ذلك العصر مكتبة الأسكنرية الشهيرة التي كانت من عجائب الدنيا بما حوت من نفائس مخطوطات الأقدمين.
دخلت المسيحية إلى مصر وانتشرت فيها، ولكن ابتليت هذه الديانة بالجدل العقيم حول طبيعة المسيح ،هل هو ذو طبيعة واحدة أم طبيعتين إنسانية وإلهية، وهل تجسد الإله فيه وهل كانت أمه العذراء إلها أم إنسانا لا غير ، ووصل الجدال إلى حد تكفير كل فرقة الأخرى وأريقت دماء كثيرة فيها وعم الإضطهاد لكل من يخالف الرأي السائد في هذه الحاضرة أو تلك . وقد انتشر مذهب الطبيعة الواحدة Monophysites في مصر وأثيوبيا وظل سائدا إلى يومنا هذا.
في مثل هذه الأجواء الفكرية نشأت الفتاة اليونانية هايباتيا في أسرة علمية فتشربت منذ صباها على حب العلم والفلسفة ونبغت فيهما فكانت نسيج وحدها في هذا الميدان ، إذ قلما نبغت في تلك الأزمان إية إمرأة في الفلسفة والعلوم في زمانها وما بعده لقرون طويلة .
كان لهايباتيا ولع خاص في الرياضيات، فدرست كتاب المجسطي وعلقت عليه ، ودرست الفلك كما هو معروف في ذلك الزمان ، وطورت الأسطرلاب والهايدروميتر ،وعزفت على الموسيقى .وأقبلت على الفلسفة فدرست آثار أفلاطون وأرسطو وأكبت على دراسة الفلسفة الأفلاطونية الجديدة ونبغت فيها ، ثم صارت تدرس الفلك والرياضيات والعلوم والفلسفة اليونانية لطلابها من اليونانيين والمسيحيين. وعرفت بدماثة أخلاقها فأحبها تلاميذها.
كان من سوء حظ هايباتيا أنه اعتلى كرسي البابوية للكنيسة الشرقية في مصر رئيس أساقفة اسمه سيرل وقد أعطي لقب القديس سيرل فيما بعد. عرف هذا الأسقف بخصوماته الكثيرة مع تعصب شديد ونظرة ضيقة يرى معها أن كل من خالفه صار متهرطقا أي ملحدا يستحق الطرد أو القتل أو التهجير . وقد كان مسموع الكلمة ، فيمكنه أن يهيج غوغاء المسيحيين بإشارة من يده . فدخل هذا الأسقف في صراع مع أسقف القسطنطينية انتهت بطرد ذلك الأسقف ونفيه . ثم دخل في صراع مع يهود الإسكندرية فاستباح دماءهم بحجة صلبهم للمسيح ، فبدأت حملة تطهير واسعة أدت إلى قتل عدد كيبر منهم .ثم دخل في خصومة مع حاكم الإسكندرية الروماني. كانت هايباتبا تتمتع بمنزلة عالية لدى هذا الحاكم حتى صارت مستشارته في إدارة شؤون البلاد المدنية مما إدى إلى إغاظة الأسقف سيرل ، الذي أوعز سرا بنشر شائعات حول هايباتيا حيث اتهمموها أنها كانت تتعاطى السحر وأنها ما زالت على وثنيتها وتتعامل مع الأرواح الشريرة وأنها عدو المسيح إلى غير ذلك من التهم الجاهزة والتي ما نزال نسمع أمثالها إلى يومنا هذا.
خرجت هايباتيا في عربتها ذات يوم متجهة إلى درسها وإذا بالغوغاء يهجمون على عربتها وينتزعونها منها وينهالون عليها بالضرب ويجرونها كالبهيمة إلى معبد يوناني قريب، وهناك جردوها من ثيابها ثم قطعوها عضوا عضوا ولم يكتفوا بذلك بل أحرقوا ما تبقى من جثتها وذروا رمادها ، كل ذلك في حساب عقولهم المريضة أنهم يخدمون السيد المسيح بفعلتهم الشنعاء الهوجاء. فخسرت الإنسانية بتلك القتلة الشنيعة واحدة من ألمع النساء والتي نادرا ما يجود بها الزمان.
لم تمحَ مأساة هايباتيا من ذاكرة الإنسانية خاصة في الغرب ونساها الشرق رغم أنها تربت في أحضانه. فقد ارتفعت مكانتها في الغرب المسيحي في القرون الوسطى إلى مرتبة القديسة ، وجعلها البروتستانت شعارا لهم في صراعهم مع البابوية الكاثوليكية ، وقد الفت حول مأساتها رواية في القرن التاسع عشر تحمل اسمها، واعتبرتها الحركة النسوية في القرن التاسع عشر في الغرب أيقونة لامعة للمرأة الشهيدة المتنورة ، وكل ما قيل فيها لا يكون في حقها كثيرا ولا مبالغا فيه.
كنت ومنذ زمن بعيد أتوجس خيفة من الغوغاء لما رأيت في صغري من أفعالهم الشنيعة في العراق من قتل وسحل وبتر أيد وأرجل. وإذا اجتمع فيهم تعصب ديني أو عقائدي وإذا ضم إليهم من يحركهم بصب النفط على النار، فهنا تحدث الكارثة الكبرى.
كان علي عليه السلام أول من أشار إلى خطر الغوغاء فوصفهم بأوصاف تنطبق عليهم في كل زمان ومكان فقال فيهم:
هَمجٌ رِعاع ينعِقون مع كلِّ ناعقٍ.
هُم إذا اجتَمعوا ضَّروا وإذا تَفَرَّقوا َنَفعوا
وقال لغوغاء أحاطت بأحد الجناة " لا مرحبا بوجوه لا ترى إلا عند كل سوءة "
جُفَاةٌ طَغَامٌ وَ عَبِيدٌ أَقْزَامٌ .... مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَ يُؤَدَّبَ وَ يُعَلَّمَ وَ يُدَرَّبَ وَ يُوَلَّى عَلَيْهِ وَ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ .
وفي الكلام الأخير بيت القصيد وبغية المربي ، فهذا الصنف من الناس لا يخلو منهم مجتمع في العالم ، وواجب الحكومة الصالحة المتنورة أن تسعى لتعليمهم وتثقيفهم وتأديبهم منذ الصغر حسب أسس التربية الحديثة وتوفر فرص العمل لهم لتشغلهم وتستنفد أوقاتهم وتضرب على أيديهم إذا امتدت أيديهم إلى العبث والفساد ، وإلى أن يأتي ذلك اليوم نبقى على أمل أن نرى ذلك الإصلاح.
عدنان هاشم
18 حزيران 2022
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
https://algardenia.com/maqalat/54389-2022-06-20-06-23-42.html
1190 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع