د.عدنان هاشم
من صور العنف الديني الحلقة الأولى:محنة الحلاج وأزمة الفكر الديني
في أحد أيام سنة تسع وأربعمئة للهجرة، استيقظ أهالي بغداد على مناد من دار الخلافة أن أغدوا إلى موضع كذا لتشهدوا محاكمة الزنديق الملحد الساحر الكذاب الحسين بن منصور الحلاج ! تدافع الناس إلى الموضع المذكور بين مصدق ومكذب ، ومحب ومبغض ليحضروا ذلك اليوم المشهود. رأى الناس عن بعد شبحا هزيلا شاحب اللون يحيط به عدد من الجنود الأشداء، يرسف بالقيود وقد أثقلت القيود خطاه فهو يمشي بضعف وبطأ واضحين والجند يدفعونه أمامهم بعنف . وكلما اقترب الجند من المكان، لمح الناس في ذلك الشخص البؤس والشقاء أكثر فأكثر الذي عاناه في السجن لثمان سنين تباعا.
جلس في ذلك الموضع وزير الخليفة المقتدر حامد بن العباس ، والفقهاء بملابسهم الفضفاضة وعمائمهم الكبيرة التي علت وجوها صارمة تصنعت الوقار بإطلاق لحىً خالطها الشيب وسرحت بعناية. خيم على المكان صمت طويل وعلا الوجوه وجوم ثقيل، وكأن القلوب أدركت أن حدثا جللا سيحدث في هذا المكان.
بدأت محاكمة الحلاج بتوجيه التهم الجاهزة له بأنه مبتدع وكذاب وزنديق وساحر؛ كافر بالله ورسوله ، تعلم السحر في رحلته إلى الهند فخدع به جهال الناس، وأنه ادعى الحلول والألوهية بقوله " أنا الحق " . كان رده عليهم أنهم لا يحل لهم قتله فهو مسلم ينطق بالشهادتين ويؤمن بالله ورسوله وما نزل به القرآن. وكان هذا يكفي أن يدرأ عنه العذاب والقتل لو أنهم سارواعلى هدي القرأن والنبوة كما في قوله تعالى " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا " ولكن قلوبهم انطوت على الفتك به وقتله ولو استشهد بالقرآن كله.
دامت المحاكمة ثلاثة أيام ، وكان الحكم فيها محسوما من اليوم الأول، فكان صاعقا لكل من سمعه ، مروعا لمن شهده ، وهو أن يضرب الحلاج بالسياط ألف جلدة ، ثم يصلب فيعلق على خشبة ، وتقطع يداه ورجلاه ثم يحتز رأسه ، إلا أن الحلاج ما زاد إلا أن طلب سجادة فصلى ركعتين ودعا الله وقال " اللهم إنك المتجلي عن كل جهة بحق قِدَمِك على حدَثي أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت بها عليَّ... هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا إليك فاغفر لهم ، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا " ثم ضرب بالسياط حتى صار في غيبوبة وعندما صحا منها شيئا قليلا سُمع يقول:
نديمي غيرُ منسوبِ إلى شيء من الحَيْفِ
دعاني ثم حياني فعلَ الضيفِ بالضيفِ
وعندما قطعت يداه رفعهما إلى وجهه فسال الدم على وجهه ولحيته فقال "ركعتان في العشق لا يصحُّ وضؤوهما إلا بالدم " . فروع ذلك المشهد من حضر من الناس. وقد سمعه بعضهم وهو على خشبة الصلب يقول " معبودكم تحت قدمي " فتهللت وجوه فقهاء السلطان لهذا القول وظنوا أنها حجة أخرى لتكفيره ، ولم يدر في خلدهم أنه يذمهم بأن معبودهم المال ولو تشدقوا بكلمات الإيمان ، فقد خطف بريق الذهب أبصارهم فصاروا عبيد الدينار والدرهم. واستمر عشاق التعذيب بالتعذيب تحت سمع وبصر رجال البلاط وفقهائهم ومباركتهم فأنشد يقول:
اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي
فاقتلوني واحرقوني بعظامي الفانياتِ
ثم مرّوا برفاتي في القبور الدارساتِ
تجدوا سرحبيبي في طوايا الباقياتِ
وبعد أن اشتد به النزف" وأيقن بالموت تحامل على نفسي وبه رمق من حياة فقال " حسب الواجد إفراد الواحد له " أي حسبه ابتلاء الله له بهذا االعذاب ، فرقت قلوب بعض من سمعه وقست قلوب آخرين فكانت كالحجارة الصلبة أو أشد قسوة. وبعد موته لم يكتفي هؤلاء القساة بما فعلوا بل قطعوا رأسه ونصبوه في بغداد ثم أرسلوا الرأس يطاف به في البلدان إلى خراسان حيث كان هناك أتباع له لإرهابهم، وأما جثته التي ذهب أكثرها فصبوا عليها النفط وأحرقوها حتى صارت رمادا ثم ذروا الرماد في مياه دجلة فغاض أثره في مياهها. وحسبوا أنهم بذلك قد عفَّوْا على أثاره ، ولكن خاب ظنهم ، فقد خلد التاريخ وحشيتهم وبقيت شهادة الحلاج خالدة على مر الأيام.
آهٍ يا دجلة الخير والجمال، كم سكن ضفافكِ الجميلة من عتاة سفاحين، وكم وارت صفحات ماءكٍ العذب من شهداء مظلومين !
نشأ الحسين بن منصور الحلاج في مدينة واسط ودرس علوم ذلك العصر فيها ولكن استهواه التصوف فهاجر إلى تستر تلك المدينة الفارسية ، وبها التقى بالصوفي الشهير سهل التستري وتلقى على يده مبادئ التصوف وأسراره ، ثم رحل إلى بغداد وتتلمذ على أيدي الصوفي الكبير الجنيد وصديقه الشبلي وتشبع هناك بروح التصوف التي لازمته طيلة حياته ، ثم رأى بعد ذلك أن يحج البيت فهاجر إلى مكة ورابط فيها قرابة عامين، والتقى بمتصوفيها ونهل من علومهم واتخذ من الزهد وهو بمكة شعارا ودثارا حتى أنه كان يقضي أياما طويلة في خلوة بجبل أبي قبيس لا يكلم أحدا ولا يكلمه أحد . ثم بدا له أن يطوف في الأرض فركب البحر إلى الهند وطاف في أرجائها واطلع على حياة الهنود ثم رحل إلى تركستان ثم بلاد فارس ثم عاد إلى بغداد. وفي خلال ذلك كان يعلن عن تصوفه ويبوح بكلام غريب يفهمه القلة وترفضه الكثرة، وكان لأسلوبه الساحر وأشعاره الصوفية أثر كبير في تزايد أتباعه في كل مكان يحل فيه ، وكان يميل إلى الفقراء والمساكين أكثر من ميله إلى الأغنياء والمترفين ، لذا فقد تعاطف مع ثورة الزنج وأبدى تفهما لبعض أفكار القرامطة رغم أنه كان حنبلي المذهب. وكان لآرائه السياسية والدينية غير المألوفة أثر في تأليب الخليفة المقتدر ووزيره حامد بن العباس وفقهاء البلاط عليه فاضطروا إلى سجنه ، ولكن أتباعه كانوا في ازدياد حتى أن أثره وصل إلى دار الخليفة فكانت أم الخليفة واسمها " شغب " من المتأثرين به وبأسلوبه الساحر ، فحاولت عبثا الدفاع عنه وتخليصه من محنته ؛ وهذا يذكرنا بزوجة الحاكم الروماني التي حاولت تخليص المسيح فلم تفلح أن تثني زوجها أن يصدر أمرا بصلبه. والحق أن هناك تشابها كبيرا بين حياة المسيح وحياة الحلاج حتى أن أتباعه ادعوا أنهم شاهدوا الحلاج يتجول بينهم بعد موته ويبشرهم بخروجه تماما كقصة قيامة المسيح بعد صلبه كما يقول أتباعه.
تأثر المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون بالحلاج تأثرا كبيرا حتى أنه قضى سنوات عديدة يدرس حياته وانكب على دراسة كتابه الوحيد الذي أسماه الحلاج " الطواسين " الذي بقي بعد موته، إذ أحرقت كل كتبه ولم ينج منها إلا هذا الكتاب وبعض مقالات متفرقة جمعها أتباعه بعد موته. وقد توج ماسينيون بحوثه بنشر كتابه الشهير " The Passion of Hallaj, Mystic and Martyr " وقد ترجم الكتاب إلى اللغة الأنكليزية والعربية بأربعة أجزاء، وألف صلاح عبد الصبور مسرحيته الشهيرة "الحلاج " ، وكتب طه عبد الباقي سرور كتابه " الحلاج شهيد التصوف الإسلامي" ، ولعل كاتب هذه السطور يسهم بقدر متواضع في فهم هذه الشخصية المحيرة التي طالها النسيان في عالمنا العربي والإسلامي.
أوضحت محنة الحلاج بجلاء أزمة الفكر الديني الذي عانت منه الأجيال لقرون طويلة والذي يتمثل في ميل كثير من الفقهاء إلى الحاكم فأصبحوا أداة طيعة بيده، وصارت كثير من فتاويهم تبعا لهوى ذلك الحاكم ، وما يزيد الطين بلة نظرتهم الضيقة في فهم النصوص الدينية والجمود على تلك النصوص، ومعظمها لم تثبت بصورة قطعية عن النبي ، ولو صدرت فعلا عنه فأغلبها يحتمل تأويلات مختلفة ، ثم يعرض الفقهاء نظرتهم وكأنها هي الدين، فاختفت الحدود بين الدين وفتاواهم ، فصار كل من يخالف تلك الآراء يرمى بالكفر والزندقة؛ ويتدخل الفقهاء عند السلطان لقتله أو سجنه صونا للدين في رأيهم . وعامل آخر في أزمة الفكر الديني وهو النظر إلى كل فكر لا يمت بالدين بصلة مباشرة بعين الشك والريبة ، وبهذا كان كثير من الفقهاء حربا على الفلسفة والتراث اليوناني في القديم، وحتى في عصرنا رفضوا كثيرا من نتاج المفكرين في الغرب أو الشرق بحجة أن نتاجهم الفكري غير إسلامي ، وقد غاب عنهم أن التراث الفكري الإنساني تراث مشترك للإنسانية أجمع ، وما علينا إلا أن ننظر فيه فنأخذ ما نراه يصلح لنا ونترك منه ما نشاء.
والمعضلة الأخرى التي وقع فيها الفقهاء وهي العداوة المتأصلة مع المتصوفة ، فلغة المتصوفة لغة وجدانية تطفح بالرمزية والخيال كلغة الشعراء، فلهذا يتكلمون بلغة يستنكرها الفقهاء ولا يفهمونها مثل الفناء في الله واتحاد اللاهوت بالناسوت ووحدة الوجود والعشق الإلهي ولذة الخمر التي يعنون بها اللذة الكبرى التي يستشعرونها في الحضور الروحي بين يدي الله... الخ من التعابير الغريبة التي يستنكرها الفقهاء والناس أعداء ما جهلوا. وليتهم وقفوا عند هذا بل كفروا كثيرا منهم كالحلاج الذي عبر عن آرائه الصوفية بصورة صريحة ، بينما التزم كثير من المتصوفة جانب الصمت خوفا وإن التقوا في كثير من أرائهم مع الحلاج . ولذا قال الشبلي وهو واحد من كبار المتصوفة في بغدا د " أنا والحلاج كنا واحدا ففرقنا أنه أباح الأسراو كتمتها " فقتل الحلاج ونجا الشبلي.
في الحلقة التالية سوف أبحث صورة من صور العنف الديني في العالم المسيحي.
عدنان هاشم
10 حزيران 2022
1067 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع