د.قاسم حسين صالح
إن حجم الأخطاء وسوء إدارة الحكم التي ارتكبها النظام الديمقراطي في العراق هي أكبر كمّا ونوعا وأفدح أضرارا من التي ارتكبها نظام حكم الإخوان في مصر .ومع ذلك لم يستطع العراقيون إسقاط الحكومة فيما استطاع المصريون إسقاطها قبل أن تبدأ عامها الثاني.
فما هي أسباب هذه المفارقة غير المنطقية قياسا بتاريخ الثورات وسيكولوجيا التمرد على السلطة في الشخصيتين المصرية والعراقية؟ نوجز أهم الأسباب في الآتي:
1.إن المصريين هم الذين أسقطوا نظام حكم مبارك في تظاهرات واعتصامات يومية وليلية في ساحات التحرير ومواجهات عنيفة مع قوى النظام قدموا فيها التضحيات من أجل تحقيق شعارهم (إسقاط النظام) ومطالبة الحاكم قسرا بالرحيل، فيما القوى الأجنبية هي التي أسقطت نظام الحكم في العراق كان فيه العراقيون متفرجين يراقبون مشهد الإطاحة بنظامهم دون أن يكون لهم أي فعل ثوري في إسقاطه ولا حتى الإطاحة بتمثال رئيسهم في ساحة الفردوس.
ويعني هذا سيكولوجياً أن الجماهير التي تنجح في إسقاط نظام حكم فاسد يتعزز لديها فعل التمرد وروح التحدي وتنجح في إسقاط نظام حكم يليه يفشل في تحقيق المطالب التي ثارت من أجلها..وهذا الذي افتقده العراقيون أنهم ما كانوا هم الذين أسقطوا نظام حكمهم.
2.إن نظام حكم الإخوان في مصر يمثل جماعة معروفة ومحددة هي التي تتحمل بمفردها الفشل في إدارة الحكم ،فيما نظام الحكم في العراق يمثل حكومة شراكة تجمع قوى سياسية متضادة في حال يشبه تماما جريمة يكون فيها القاتل شخصا محددا بعينه وجريمة ارتكبها ممثلو جماعات مختلفة ضاع فيها دم القتيل.
ويعني هذا أن فشل الحكومة العراقية في إدارة أمور الدولة يتوزع على كل الكتل السياسية المشاركة في الحكم .وبما أن الكل مشاركون في " الجريمة" فإن الناس المحسوبين على هذه الكتل يرون أنفسهم شركاء أيضا في هذا الفشل وأنهم إن ثاروا فإنهم كمن يثور ضد نفسه. وإنه لو كانت هنالك حكومة أغلبية في العراق محسوبة على كتلة سياسية محددة فإن المسؤول عن الفشل سيكون معروفا للناس وأنهم سيتوحدون للإطاحة به.
ونزيد في القول إن هوية السلطة في حكم الإخوان بمصر كانت واضحة ومحددة ، وحين هتفت الجموع في ثورتها الثانية 30 حزيران /يونيو "يسقط ..يسقط حكم المرشد" فإنها كانت تحدد شخصا بعينه وجدته هو المسؤول عن الفشل.والواقع إن هذا كان السبب الرئيس الذي أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطيا لأنه كان ينفذ تعليمات المرشد في "أخونة " السلطة،ولم يكن يمارس سلطاته بوصفه رئيس دولة عليه أن يحقق مطالب الشعب بمن فيه معارضوه الذين بلغوا النصف بقليل في الانتخابات التي جاءت به،لاسيما بعد 22 تشرين الثاني 2012 حين منح نفسه صلاحيات تنفيذية مطلقة من خلال إعلان دستوري وقيامه بعد أسابيع بتمرير دستور إسلامي والتصديق عليه.
أما في العراق فلا توجد هوية محددة للسلطة يمكن أن يعزى لها الفشل ،وإن رئيس الوزراء–الرجل الأول في الحكومة - يتخذ قراراته باسم مجلس الوزراء الذي يضم ممثلين عن خصومه السياسيين،يغطي في بعضها قرارات ينفذ فيها تعليمات حزبه.
3.يوحّد الغالبية المطلقة في الشعب المصري مذهب إسلامي،فيما يتوزع العراقيون المسلمون بين مذهبين إسلاميين(طائفتين) ،مارست الحكومات العراقية المتعاقبة انحيازا أو اضطهادا طائفيا نجم عنه كراهية وعدوان أدى إلى عنف شرس راح ضحيته آلاف الأبرياء من الطائفتين بين 2006 و2008 . ويعني هذا ان الحاكم الفاشل الذي يثور عليه نفس أفراد طائفته لا يجد لفشله تبريرا طائفيا ، فيما الحاكم في العراق يغذي الشعور الطائفي في أفراد طائفته ويشيع الخوف فيهم بأنه اذا أزيح عن الحكم فإنهم سينتهون ،ولهذا فإنهم يبررون أخطاءه ويغطّون على فشله ويقفون ضد من يطالب بإسقاط حكومته.
4.إن التنوع الإثني في المجتمع المصري محدود ومساحة أرضه واسعة، فيما تنوع القوميات في المجتمع العراقي واسع،تحكمها صراعات سياسية حادة وقلق كينونة ووجود على أرض بمساحة محدودة.وهذا يعني أن الشعب الذي يكون فيه التنوع الإثني والديني والقومي محدودا يكون أكثر توحّدا في إسقاط حكم أو تغيير حكومة من شعب تكثر فيه هذه التنوعات.
5.إن حكومة الإخوان في مصر ليس لديها قوة خارجية تسندها أوتحميها،ولهذا سهل على الجماهير المصرية التي اكتسبت الخبرة والشجاعة في ثورتها الأولى ان تطيح بحكومة الإخوان في ثورتها الثانية ،فيما يعتقد العراقيون أن حكومتهم محمية من اكبر قوة عالمية هي أمريكا، وأكبر قوة إقليمية هي إيران. ولهذا فإنهم حين تظاهروا في شباط 2011 وحاولوا التوجه إلى مقر الحكومة في المنطقة الخضراء فان الدبابات العسكرية أغلقت الجسر المؤدي إليها في دلالة فهموا معناها ان جيران مقر الحكومة في المنطقة الخضراء هي اكبر سفارة لأمريكا في المنطقة وسفارة إيران..فتولد لديهم اليقين بأن إسقاط الحكومة أمر مستحيل فانكفأوا عاجزين بحالة سيكولوجية جديدة هي اليأس من إصلاح الحال.
6. قدّم الجيش المصري تجربة رائدة بوقوف المؤسسة العسكرية إلى جانب الجماهير المطالبة بتحقيق مطالب مشروعة لم تستطع حكومة الرئيس مرسي تأمينها،لأن هذه المؤسسة بقيت محافظة على كيانها وتقاليدها بعد سقوط نظام حكم مبارك،فيما حلّت المؤسسة العسكرية بعد إسقاط النظام في العراق، والجيش العراقي الحالي ما هو إلا صورة مطابقة لانقسامات الشعب العراقي وهيمنة القوى السياسية الحاكمة عليه. ومع أن الجيش العراقي السابق جرى "تبعيثه"فإنه لو لم تقم أمريكا بحلّه لكان بالإمكان ان يظهر فيه (سيسي) عراقي من طراز (سيسي)مصر..يقف إلى جانب المتظاهرين في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد.
7.ان حكومة الإخوان في مصر لا يوجد لديها مبرر أمني وخطر داخلي يشغلها عن تلبية مطالب المصريين المشروعة، فصار تقصيرها مكشوفا أمام الجماهير المحرومة،فيما توافر هذا المبرر للحكومة العراقية ومنحها العذر في ان تعطي الأولوية لدرء قوى الإرهاب على حساب تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين.ومع أن الحكومة نجحت في الحد من خطر الإرهاب إلا أنها واصلت أسلوبها في تضخيم الملف الأمني على حساب تأمين الخدمات الأساسية وتحقيق العدالة الاجتماعية بعد أن وجدت الناس قد استكانت لها.
8.إن دور الفنانين والمثقفين في مصر وموقفهم من إسقاط حكومة الإخوان أقوى من دور وموقف نظرائهم في العراق.فلقد عملت حكومة مرسي على "أخونة" الثقافة ،ما يعني القضاء على الدور الريادي لمصر في السينما والتلفزيون والمسرح والغناء،كونها هي التي تغذي العالم العربي بهذه الألوان من الفنون. ولهذا شارك الفنانون والمثقفون في التظاهرات سواء بدافع حبهم للفن ورسالته الإنسانية أو لأن الفن يشكل مصدر رزقهم أو لقضايا إنسانية ووطنية، فيماغاب دور الفنانين العراقيين أو كان ضعيفا،في تظاهرات العراقيين المطالبة بتحسين أوضاعهم،فضلا عن أن الحكومة العراقية لم يكن لها نفس الموقف "الإخواني"من الفن.
استنتاجات لها دلالات
*إن المصريين تعلموا من خبرة إطاحتهم بنظامهم السابق ما جعلهم قادرين على إحياء الأمل في نهاية جديدة،فيما تعلم العراقيون عجزا من خبرة فشلهم في تظاهرات 2011أوصلهم إلى يقين اليأس من إصلاح الحال.
*إن عقل الحاكم المنتمي لحزب إسلامي سياسي مصاب بحَوَل إدراكي..فهو لا يرى الصواب إلا في حزبه فقط. ودليل ذلك أن مرسي بوصفه رجل دين سياسياً، لم يفهم معنى المعارضة ووصف المتظاهرين بأنهم "فلول النظام السابق"،كذلك وصف "المالكي" المتظاهرين بأنهم "فقاعات"... وهو وصف أكثر استهزاءً وحطاً للكرامة.وهذا الحَوَل الإدراكي ينطبق على كل حاكم منتم لحزب إسلامي سياسي، وأنه سينكشف حتى لو كان ديمقراطيا كما حصل مؤخرا لأردوغان في تركيا..ما يوصلنا إلى استنتاج أهم..هو فشل الحكم الديني.
*إن الخوف من السلطة تراجع في الشخصية المصرية،فيما الشخصية العراقية ما تزال تخشى السلطة،حيث تجري التصفية بكواتم الصوت لخصوم وناشطين سياسيين ومثقفين وأكاديميين .
ان مصر وضعت أقدامها على الطريق الصحيح المؤدي إلى الديمقراطية بأن بدأتها بتشكيل حكومة تكنوقراط وكفاءات لا تمثل حزبا أو جهة سياسية محددة وأنها ستحقق ما عجز عنه العراقيون ما دامت حكومتهم قائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية.
820 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع