إنقلاب 14 تموز الدموي في العراق

                               

                                                 داود البصري

يمثل يوم 14 تموز/ يوليو عام 1958 الأسود في التاريخ العراقي المعاصر ، إنعطافة دموية حادة ، وحالة سوداوية و همجية مغرقة في التخلف و العدمية و إستحضار كل أدوات و روايات التاريخ المقرفة وصور الغدر التاريخية المتوحشة التي تناسلت و تكررت صيغها عبر تاريخ العراق الطويل و الحافل بالمصائب و الرزايا و الكوارث ،

ففي ذلك اليوم الصيفي اللاهب و المشؤوم إنطلقت كل نوازع الشر و العدوانية ، و تجسدت ميدانيا كل صور الغدر و الخديعة و تجاوز كل المحرمات السماوية و الإنسانية بعد أن تحول ذلك اليوم ليكون يوما للرعاع و الهمج بإمتياز و تفردت أحداثه الدموية المؤسفة لتكون عنوانا لجميع العراقيين طيلة المراحل التاريخية التي أعقبت ذلك الحدث الجلل.   
ففي فجر ذلك اليوم اللاهب قامت زمرة جبانة من المغامرين و الموتورين و القتلة من ضباط الجيش العراقي بعملية إنقلاب عسكري دموية ضد النظام الملكي الهاشمي و الشرعية الدستورية و الأسرة الهاشمية التي كان لها شرف تكوين و قيادة العراق بعد مرحلة الحرب الكونية الأولى ، وقيام الشرق الأوسط بالشكل القائم حاليا ، ولم تجر عملية الإنقلاب وفقا للنموذج المصري ( 23 يوليو ) حيث تمت محاصرة القصر الملكي و إجبار الملك الراحل فاروق على التخلي عن العرش ثم نفيه خارج مصر بكل إحترام و تقدير! ، بل كانت عملية إبادة جماعية شاملة ، بعد أن أطلق العسكر رصاصات الغدر الأولى التي لم تجهز على مجمل أفراد الأسرة المالكة بما فيهم الشهداء الملك فيصل الثاني أو الوصي الأمير عبد الإله بن علي أو جمعا من نسوة الأسرة وحتى الخدم الأبرياء! بل أجهزت على العراق بأسره وحيث دق مسامير الموت في نعشه منذ ذلك الحين ، لقد رافقت عملية الغدر الخسيسة تلك مظاهر متوحشة تعبر عن إنفلات الشارع العراقي و تمكن الوحشية و الهمجية منه وهي الصفة التي لازمت كل تحولات الأوضاع العراقية منذ ذلك الإنقلاب المشؤوم ، لقد خسر العراق بذلك الإنقلاب جمهرة من خيرة رجاله وقادته من صنف قادة التأسيس ورعاة النهضة و التقدم كان في طليعتهم الشهيد رئيس الوزراء ورمز من رموز العراق في العصر الحديث وهو السيد نوري السعيد باشا السياسة العراقية الذي إختلفت الآراء في شخصه و سياسته و منهجه ولكن التاريخ يظل ينصفه و ينصفه ضمن خانة القادة العظام رغم أن لاقبر له في أرض العراق التي خدمها وقدم لها الغالي و النفيس ، والجميع يعلم إن للعراق و الإنقلابات العسكرية تاريخ حافل و موثق بسبب طبيعة بناء الدولة العراقية الذي ركز على دور المؤسسة العسكرية في المجتمع العراقي ، فالقليل يعلم بأن الجيش العراقي قد تأسس قبل تأسيس المملكة والدولة العراقية الحديثة ، فالجيش قد تأسس يوم 6 يناير/ كانون ثاني 1921 ، بينما تأسس العراق الحديث ( المملكة الهاشمية العراقية ) بقيادة الملك فيصل الأول بن الحسين يوم 23 أغسطس/ آب 1921؟ كما لعب الضباط العراقيون السابقون في الجيش العثماني و الذين تحولوا لقيادة الطبقة الحاكمة في العراق دور مركزي في إقامة هياكل الدولة العراقية الجديدة وقتذاك و التي نفضت غبار قرون التخلف و الإحتلال الطويل منذ سقوط بغداد على يد المغول عام 1258 وحتى قيام المملكة العراقية عام 1921! وفي واحدة من أشق عمليات بناء الدول ، لقد تعرض العراق خلال العهد الملكي الذي إستمر 37 عاما لعدة إنقلابات عسكرية لم تكن تتسم بالدموية المفرطة كما كان حال إنقلاب 1958 ، فأول إنقلاب في العالم العربي كان مسرحه العراق وهو إنقلاب الفريق بكر صدقي في أكتوبر 1936 ضد حكومة ياسين الهاشمي وفي عز صعود التيارات الفاشية و النازية في أوروبا وقد إستمر لأقل من عام و أنتهى بعد إغتيال قائده في صيف 1937 ، ثم كان إنقلاب ماعرف بالمربع الذهبي وهم جمهرة الضباط المتأثرين بالدعاية النازية في صيف 1941 و الذي إنتهى بكارثة الإحتلال البريطاني الثاني للعراق في حزيران/ يونيو 1941 ، و أستمر الحال بين مد وجزر حتى دخول الشرق مرحلة الإنقلابات العسكرية بعد سلسلة الإنقلابات السورية إعتبارا من إنقلاب السوري حسني الزعيم و سلسلة الإنقلابات التي أتبعته وصولا لإنقلاب  البكباشية في مصر عام 1952 ، ولكن إنقلاب العراق لعام 1958 قد بز الجميع في وحشيته ودمويته المفرطة كونه إنقلاب إستئصالي و فاشي و معبر عن أشد لحظات التاريخ العراقي وحشية وعدوانية و تطرف ، وكان قادة الإنقلاب وهم كل من اللواء عبد الكريم قاسم و العقيد عبد السلام عارف قد رسما طريق النهاية للعراق بخيانتهم وغدرهم لقسم الولاء للعرش ، فعبد الكريم قاسم مثلا الذي مازالت  جماعات موجودة في العراق حتى اليوم تنظر له بقدسية و مهابة و تعتبره بطلا وطنيا كان مسؤولا مسؤولية مباشرة عن كل الجرائم الشنيعة التي حدثت وعن تدمير العراق منهجيا رغم أن شعبيته المفترضة قد جاءت أصلا من تنفيذه لمشاريع شعبية كان النظام الملكي نفسه قد برمجها و هندسها و أعدها من خلال برنامج الإعمار و التنمية و الذي لو إستمر وترك العراق في طريق التطور الطبيعي لأصبح حاله اليوم مختلفا بالمرة عما نشاهده من صور فظيعة للتخلف و العدمية و الهمجية و العودة لعصور الفتنة الكبرى و أفكارها المتخلفة و الظلامية ، لقد أبيدت العائلة المالكة بدم بارد ولم يحاسب أحد أبدا ، بل إنتقل العنف الأسود للشارع العراقي الذي شهد مهرجانات الجثث المسحولة و تنفيذ سيناريو الحرب الأهلية تحت غطاء الصراع السياسي ، ثم أستنزفت طاقات العراق و ثرواته بسلسلة طويلة ولا تنتهي من محاولات الإنقلاب المتكررة وحيث ذهب عبد الكريم قاسم بعد أربع سنوات و نصف من إنقلابه الدموي صريعا على يد منافسيه من البعثيين و القوميين الذين أعدموه في الإذاعة ولم يتركوا له حتى قبرا بل أطمرت جثته في نهر ديالى!!! كما تسبب ذلك الإنقلاب بإنفلات الأوضاع الشعبية و بالثارات العشائرية و بإراقة الدماء في عمليات إنتقام مستمرة لم تزل للأسف مستمرة ولو تحت شعارات و صيغ مختلفة... لقد كان الإنقلاب الغادر و الأشد سوداوية و دموية و إساءة لكل القيم و الأعراف.. فرحمة الله على شهداء ذلك اليوم الأسود... وهاهم الإنقلابيون يحصدون ثمن ما زرعوه في أرض العذاب و السواد بعد أن تمكنت جماعات التخلف و العمالة المتخلفة من مصادرة العراق وشعبه.. ولا حول ولاقوة إلا بالله...
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

478 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع