هيفاء زنگنة
نزيف العقل العراقي… رحيل العلماء في الشتات
كم من العلماء والأكاديميين وعموم المثقفين أجبروا على الرحيل من العراق، على مدى العقود؟ يُجبر على الرحيل إما قمعا أو إهانة وإهمالا أو لتلقيه طلقة في مظروف تستهدف حياته. في كل حقبة، يُنتزع من جسد الوطن عقل ومحظوظ من بقي حيا تحت سياط القمع والغزو وتصفيات الاحتلال.
في المنفى، الذي غالبا ما يمتد ليشمل سنوات العمر كله، إما أن تتاح للمنفي فرصة أن يترعرع ويزدهر في البلد الثاني، أو يذوي بعيدا عن منبعه، يُدفن في أرض غريبة ملتفا بوجع القلب، حنينا إلى بلده. كم من العقول العراقية ترجلت من قطار الحياة في محطات الشتات؟ قائمة الأسماء طويلة لخسارة كبيرة كأشخاص وثروة وطنية. أليس الأنسان هو أغلى رأسمال، فكيف به إذا كان عقلا منتجا للمعرفة؟
آخر الراحلين العراقيين في الشتات هو الأكاديمي منذر نعمان الأعظمي، المتخصص في حقل تعليم الرياضيات إستنادا إلى علم النفس المعرفي والابستيمولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. رحل وهو يعمل، آخر أيامه، مع أساتذة من جنوب أفريقيا لتطوير فهم وتعليم الرياضيات هناك، استمرارا لما قام به طوال حياته في مجال الرياضيات وتطوير الذكاء.
في رثائه، كتبت بروفسورة مارغريت براون، رئيسة جامعة « كينغز كوليدج للتعليم» – بجامعة لندن، لصحيفة « الغارديان» البريطانية « كان زميلي وصديقي منذر الأعظمي، رائدا في مجال تعليم الرياضيات وناشطا سياسيا، ركز على دعم المدرسين وحثهم على تنمية قدرة التلاميذ على التفكير، وإعداد الدروس التي تشجع على المشاركة النشطة في التفكير الرياضي لجميع الأطفال وتطوير الذكاء… كان منذر ناشطًا فكريًا، يحاول بلا كلل فهم العالم وينخرط في نشاطات لتحسينه، سواء في التعليم أو السياسة. لقد كان سخيا بوقته وتعاونه مع الآخرين، وكانت شراكته في العمل محفزة دائما، وإن كانت مرهقة في بعض الأحيان».
وكان منذر قد عمل مع بروفسورة براون في الثمانينيات وحتى 1993، في برنامج « التقييم المتدرج في الرياضيات» الذي أصدر 11 مجلدا يجمع بين النظرية والتطبيق. وكان الباحث الرئيسي لبرنامج « التسريع الفكري عبر الرياضيات» الذي أصدر مجلدات تعليمية، اعتُمِدَت رسميا من قبل وزارة التربية البريطانية.
وحتى رحيله، كان منذر مديرا لـ« هيئة التنمية الفكرية» وهي مؤسسة خيرية بريطانية مقرها لندن، تهدف إلى الاستثمار الكامل للإمكانات المعرفية لدى التلاميذ من خلال إغناء المناهج الدراسية، وطرق التدريس والتطوير المهني للمدرسين في المواد الدراسية الأساسية في المدارس الابتدائية والثانوية.
كم من العلماء والأكاديميين وعموم المثقفين أجبروا على الرحيل من العراق، على مدى العقود؟ يُجبر على الرحيل إما قمعا أو إهانة وإهمالا أو لتلقيه طلقة في مظروف تستهدف حياته
من التعليم إلى السياسة، عمل منذر على صياغة برنامج « التدرج في المساهمة الديمقراطية» مركزا على مجالات الخدمات غير السياسية التي يمكن لمؤسسات المجتمع المدني تقديمها فيما أطلق عليه مصطلح « الاستثمار الاجتماعي». وعن دور التعليم في البناء الديمقراطي في بلداننا، كان سؤاله الأبرز: « من يُعلم المعلمين؟». هل بإمكانهم نقل قيم لم يتربوا هم أنفسهم عليها، إلى طلابهم؟ وكيف يمكن حل هذه المعضلة في غياب النشاط الصفي المحفز لصياغة أسئلة من قبل الطلاب أنفسهم، حيث تجري غربلتها وبلورتها؟ هل يمكن الاعتماد على معلمين من بلدان وثقافات ولغات أخرى أم علينا ابتداع طريق تجريبي يساهم فيه المعلمون والطلاب سوية يجمع بين التفكير النقدي والتحليلي والتفكير الإبداعي التركيبي، مما يقود ضمنيا إلى تقبل الاختلاف وبالتالي المواطنة والديمقراطية؟
من هذا المنطلق، ولأنه أراد نقل خبرته الى العالم العربي، حاول تقديم دروسا نموذجية لتطبيق برنامج التسريع الذهني، مع أمثلة للرياضيات الاستكشافية والتدرجية، بمدارس في تونس العاصمة، كما تمكن من إقناع زملاء بريطانيين بالمجيء إلى تونس لإدارة ورشات تعليم دورية، الا أن اهتمام المعلمين وأهالي التلاميذ بالنتائج السريعة لم يساعد على استمرار المشروع أو الحلم الذي أراد من خلاله التعويض عما كان بالإمكان إنجازه في العراق، كمبادرة فردية ـ تطوعية تحث وتحفز بمواجهة غياب الإرادة السياسية للإصلاح التربوي،الذي يكاد يكون في إهماله « عاديا» ومقبولا في معظم البلدان العربية. حاول منذر طوال مسيرته المهنية إيجاد السبل لعلاج ظاهرة الخوف والنفور من الرياضيات الشائعة بين التلاميذ وحتى المهنيين. استنادا الى قناعته « بأن سبب القلق والنفور هو أسلوب التعليم نفسه، بحيث يتم إعادة إنتاج أو بث هذا القلق بين الأجيال الجديدة من المعلمين أنفسهم دون قصد منهم».
وقد جعله شغفه وفضوله الفكري بالتساؤل في كل المجالات، وعمله على إيجاد السبل لكي يسترد العراق عافيته، أقرب ما يكون الى رجل عصر النهضة في اهتماماته الممتدة من ترجمة الشعر والكتابة الصحافية إلى الموسيقى وكتابة مسرحية عن عائلة لا تلتقي، والرسم بمهارة وروح تليق بفنان.
أراه حاضرا، كما لو كان واقفا أمام مرآة، في ملاحظات سريعة كتبها عن معرض حضره، بلندن، للوحة واحدة من لوحات ليوناردو دافنشي «اهتمامات هذا الرجل متعددة بدءاً بالجيولوجي وانتهاء بالفن والمعاني الرمزية وتجاوز زمانه. أعتقد أن دافنشي أقرب الفنانين للعلم كما هو للفن. لقد نجح فعلا في تصوير البعد الثالث عبر الظلال وتقنيات اخرى يصعب فهمها».
في تونس، أغمض منذر عينيه للمرة الأخيرة. « في أرض الله الواسعة بعد تشتت العراقيين. لا ضير في ذلك غير أن أجسادنا لن تزيد من خصوبة أرض العراق». هو الذي غادر العراق ولم يغادره أبدا، حاملا فلسطين في قلبه، مرددا أنها قضية ألعالم أجمع إذا أراد العالم أن يحافظ على إنسانيته. على ضريحه، حُفرت ترنيمة تجمع بينه وبين رفيقه مظفر النواب والشاعر التشيلي بابلو نيرودا وبدر شاكر السياب. « عراق… عراق… قلنا: يا هذا الضالعُ بالهجرات / هل يوصلك البحر إلى العراق؟ / قال: أحمل كلَ البحر وأوصِلُ نفسي».
1480 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع