في ذكرى ام الجرائم الدولية ضد الانسانية.. ما هو النجاح الاكبر الذي حققه الاحتلال الامريكي للعراق؟

                                                   

                        ا. د. سعد ناجي جواد

في ذكرى ام الجرائم الدولية ضد الانسانية.. ما هو النجاح الاكبر الذي حققه الاحتلال الامريكي للعراق؟

تابى مشاعر الحزن التي تتراكم على النفس في مثل هذا اليوم من كل عام الا ان تستثير القلم، حتى وان كتب بعض الكلام المعاد عن ذكرى احتلال بغداد.

في هذا اليوم والايام التي تلته تغير كل شيء. وظهرت حالات لم يكن احد يتوقعها، او بصورة ادق لم يكن شخصي المتواضع البسيط يتوقعها. فمثلا لم اكن اتوقع ان يمتد بي العمر لكي ارى بلدي محتلا من جديد، وبعد ان اعلنت الامم المتحدة في عام 1964 نهاية الحقبة الاستعمارية المباشرة. او ان تمتليء شوارع ومدن العراق، وخاصة بغداد بمصفحات عسكرية اجنبية وجنود احتلال امريكان وبريطانيين وصهاينة وجنسيات اخرى، ولم اكن اتوقع اني اخضع للتفتيش اثناء ذهابي الى مقر عملي الجامعي من قبل قوات امريكية محتلة، والاكثر مرارة اني لم اكن اتصور ولو للحظة ان اشخاصا كنت اتعايش معهم واعرفهم ونتبادل الزيارات، كانوا ادلاء لقوات الاحتلال، ووصل استهتار احدهم ان بدا يتجول في بغداد وهو يرتدي بزة عسكرية امريكية وبصحبة جنود اميركان. ولم اكن اتخيل اني ساشاهد في قلب بغداد مسلحين يتحدثون معي بلهجة لبنانية، وهم يتجولون في منطقة سكني، وعندما سالت عنهم الجار الذي قصدوه، قال لي هولاء (ولد عمنا) اي ابناء عمنا، ثم فهمت منه بعد ذلك انهم اسرائيليون. كما اني لم اكن استوعب ان كره البعض لنظام البعث ولرئيسه يمكن ان يدفعهم الى العمالة والى تدمير بلدهم، مهما كانت ممارسات واخطاء ذلك النظام وهي كثيرة. لاني كنت ولا ازال افهم ان الخلاف السياسي ينتج عنه مقاومة وعمل سري للاطاحة بالنظام الذي يكون هناك اختلاف حوله او معه، اما ان يقود الخلاف الى العمالة.فهذه الحقيقة كانت بعيدة جدا عن تفكيري البسيط، (وفي الحقيقة ان هذه الظاهرة تعاظمت اثناء الحرب العراقية-الايرانية وبعدها. وبالمناسبة فان تلك الحرب اظهرت لنا عملاء من الطرفين عراقيين وايرانيين دفعتهم الخلافات السياسية مع حكوماتهم الى العمل ضد بلدهم بالتعاون مع الطرف الاخر). واخيرا وليس اخر فاني ورغم شعوري الداخلي بان الاحتلال ومحنته سيطولان، وان العراق قد دخل نفقا مظلما لن يكون من السهل الخروج منه، ولاسباب كثيرة، الا انني لم اكن اعتقد باني ساضطر الى ترك بغدادي الحبيبة، مدينة ابائي واجدادي، ومسقط راسي، والتي عشت فيها احلى ايامي عمري، وان افقد الامل في ان اراها كما كنت اراها دائما تزهو بدجلة الخير وبنخيلها وبمجتمعها الراقي وجمال مناطقها العريقة وحواريها وتآلف وطيبة ابنائها، بل ابناء العراق جميعا ومن كل مكوناتهم.
وربما كان الامر سيهون قليلا لو ان الاحتلال او من اتى معه استطاع، كما ادعى، ان يبني عراقا ديمقراطيا ومرفها اقتصاديا، والذين قالوا لنا انه سيكون (موضع حسد كل دول الشرق الاوسط بل ودول العالم الثالث قاطبة).
بمجرد ما ذهبت صدمة الاحتلال، وبعد الطريقة التي تعاملت فيها قوات الاحتلال مع العراق (تدمير دوائر الدولة والقوات المسلحة والجامعات والمكتبات والمتاحف التي تضم تراث البلد وغير ذلك من معالم الحضارة، وامورا ماساوية اخرى كثيرة)، ترسخ شعور عندي ان هذه الكارتة ستطول، واختلفت مع كثيرين ظنوا ان هذه الغمامة ستزول قريبا وان العراق سيستعيد عافيته في وقت قصير، وكنت اردد ان ما حصل سيمتد الى عقد من الزمن او اكثر بقليل، لكني لم اكن اتصور ان هذا الاحتلال ونتائجه ستستمر لعقدين من الزمن، والاكثر ايلاما انه لا يوجد في الافق ما يدلل ان هذه السنين العجاف تقترب من نهايتها.
بعض الاخوة، وخاصة اولئك الذين يعيشون في الغرب، يكتبون لي او يخبرونني شخصيا ان اغلب ما اكتبه يعبر عن ما يدور في داخلهم، ولكنهم يطلبون مني ان لا اهاجم (التجربة الديمقراطية) التي حدثت في العراق، وهذا البعض مع الاسف، ومعهم الاعلام الغربي والامريكي اختصر الديمقراطية بالانتخابات، اما كيف تتم الانتخابات وكيف تُستَغل وكيف تُزور وكيف ينتج عنها مجالس للنواب لا تمثل ارادة الشعب وتكون هي والحكومات التي تصادق عليها مراكز للاثراء غير المشروع والفساد الكبير، فهذا ما لا يثير لديهم اي تساؤل.
باعتقادي المتواضع ان النجاح الاكبر الذي حققته المؤامرة الامريكية- البريطانية-الصهيونية هو ليس احتلال العراق وتدميره، لان هاتين المسالتين يمكن لأية حكومة وطنية ان تعالجهما ببرامج اصلاحية وفي وقت قصير نسبيا، ولكن النجاح الاكبر، والذي يحتاج لعقود لكي يتم اصلاحه، هو اولا إثارة وتجذير الافكار الطائفية والعرقية الشوفينية والدينية المتطرفة والمحاصصة المقيتة، وانتشارها بين نخب وكفاءات وحملة شهادات عليا. وثانيا جعل العراق ساحة مفتوحة لكل من هب ودب كي يتدخل في شؤونه. اما حكومات ما بعد الاحتلال فان مسؤوليتها تتمثل في انها عمّقت هذه المظاهر السلبية بصورة كبيرة واعتمدتها من اجل البقاء في السلطة، وخاصة باعتمادها اشخاصا غير مؤهلين لتحمل المسؤولية ولا يؤمن غالبيتهم بشيء اسمه العراق، وبإهمالها للتعليم والقضاء وغض الطرف عن الفساد الكبير المستشري وعدم تفكيرها باية مشاريع تنموية مستقبلية. ان التدهور المستمر والمؤسف في كل هذه المجالات هو الذي يفقد الغالبية العظمى من العراقيين اي امل في الاصلاح او الخلاص من هذا الوضع الماساوي. ومن يجادل او يحاجج في ذلك فعليه ان ينظر الى نتيجة الانتخابات الاخيرة، واين ذهب النواب (المستقلون) الذين اعتبرهم البعض (نواة التغيير والاصلاح)، وان يراجعوا عملية تشكيل اللجان البرلمانية الجديدة، ويتذكروا فشل هذه الموسسة، التي يفترض بها ان تكون ممثلة للشرائح المختلفة في المجتمع، في اختيار حكومة او عقد جلسة واحدة كاملة النصاب لحسم الامور التي تعطل مسيرة الدولة. ومن يفرح بالزيادة الكبيرة في الموارد النفطية وفي انتهاء مسالة التعويضات الكويتية المجحفة، فعليه ان لا يفرح كثيرا. لان الفساد المستشري وغير المراقب والبعيد عن كل محاسبة سيلتهم كل هذه الموارد، وسيبقى غالبية العراقيون يعيشون في حرمان وفقر، وعلى الرغم من انهم يعيشون فوق بقعة تكتنز خزينا نفطيا هائلا.
هذا هو النجاح الاكبر الذي حققه الاحتلال الامريكي البغيض الذي بدا في يوم الاربعاء 9نيسان/ابريل 2003 ولم ينته لحد الان، ولن ينتهي الا اذا تنبه العراقيون لحالهم ولفظوا وداسوا باقدامهم كل ما نجح الاحتلال في زرعه داخل مجتمعهم من ظواهر سلبية ومتخلفة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

801 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع