ميسون نعيم الرومي
من هنا بدأت مأساة العراق
أيام وتحل علينا الذكرى (59)لانقلاب شباط الأسود ، ذلك اليوم المشؤوم ، يوم اغتيلت الفرحة الوحيدة لشعب عانى البؤس والشقاء والإضطهاد قاسى الحرمان لعقود طويلة ، ذكرى انتكاسة وطن شهد له التاريخ أولى الحضارات وأقدم الثقافات ، أول من خط الحرف وسن القوانين .
بدأت الإنتكاسة في 8/شباط/1963 واستمرت الى يومنا هذا وبمختلف أشكال التعسف والظلم والتخلف والتهميش .
في ذلك اليوم اللعين اغتيلت ثورة الشعب ثورة 14 تموز على ايدي شرذمة دموية ظالة منفلتة بمساعدة (جمال عبد الناصر ومباركة امريكا) ، لتسرق أمل ومستقبل شعب تطلع أن يعيش حياة حرة كريمة كباقي شعوب المعمورة ، في وطن ملىء بالثروات والخيرات .
حثالة أوغاد حاقدين انتزعت من قلوبهم الرحمة والإنسانية خطفوا الشبيبة الواعية ، الآف من الشباب بنات واولاد رجال ونساء لم يبق في البيوت الا الأطفال والعجائز ، وكادت الدوائر والكليات والمعامل ان تخلوا من روادها ، ليزجونهم في دهاليز الموت ويمارسون عليهم انواع التعذب الجسدي والإذلال النفسي ، ربما ليشبعوا ارواحهم الشريرة بارتكاب ابشع (حمام دم) عرفه التاريخ الحديث ، لا لسبب سوى انهم ارادوا ان يجثتوا الفكر الحر، ناسين ان (الأفكار لا تباد ولن تموت) .
علما أن الكثير من المعتقلين أتوا بهم من السجون إذ كان (عبد الكريم قاسم) قد اعتقلهم بعد أن انقلب على أصدقائه وبدأ التودد والتزلف الى اعدائه .
ارتأيت ان اختار لقطات مما حصل في تلك الأيام العصيبة من ممارسات التعذيب على شعبنا المنكود في دياجير الظلام ، والذي قرأته في كتاب (طوارق الظلام) ، فية نقلت الكاتبة جزءا من الممارسات التي شاهدتها والتي مورست معها شخصيا ، حيث انها كانت احدى نزلاء (قصر النهاية) و(ملعب الإدارة المحلية) ثم (سجن النساء) ، بالرغم من انها لم تكن قد بلغت سن الرشد القانونية في تلك الفترة المرعبة .
حاولت ان اقرأ كتاب طوارق الظلام (والذي اعتبر كمرجع في المكتبة الوطنية) وكنت قد قرأته سنة 2005وركنته بين الكتب الأخرى اتحاشى حتى النظر اليه ، لأني اصاب برعشة في جسدي كلما فكرت الرجوع لتصفحه مرة اخرى ، واليوم قلبت بأوراقه لأنقل لكم مقتطفات اخترتها من ما ورد في ال 180 صفحة مما روته الأديبة (ابتسام الرومي) ومن ابشع ما يتصوره العقل البشري من ممارسات التعذيب والتفنن بهذه الممارسات الآإنسانية وكما أدناه:-
قصر النهاية
كانوا يلقون في السرداب المعتقلين الذين يعانون من تمزق وتقرح في أجسامهم لغرض الإمعان في إيذائهم في ذلك المكان المملوء بالماء القذر والحشرات المختلفة . إن أغلب من ألقوا في ذلك القبو لاقوا مصرعهم خلال فترة قصيرة من تـواجـدهـم في ذلك المكان وذلك لإصابتهم بمرض الكزاز أوالگنگرین .
ربما لم يشارك جميع من ذكرت أسماؤهم في عملية التعذيب لكن من المؤكد أنهم جميعا كانوا يشرفون على عملية تصفية الحزب الشيوعي بما فيها تعذيب وقتل الشيوعيين، وقد استخدموا مختلف وسائل التعذيب وأكثرها بشاعة مثل : سلخ الجلد، التعليق بالمراوح السقفية بعد ربط اليدين إلى الخلف أو التعليق من الأرجل، قلع العيون، قلع الأسنان بواسطة البلايس، قلع الأظافر، إدخال الدبابيس والإبر في مختلف أجزاء الجسم، الضرب بواسطة الكيبل من قبل عدة أشخاص وفي وقت واحد، الكي بواسطة السكائر لمناطق الجسم الحساسة، إجبار الضحية بالجلوس على القناني أو الخوازيق تقطيع أجزاء الجسد بواسطة الكتر(مقص كبير يستعمل لقطع أسلاك الحديد )، إجبار الضحية بالوقوف ساعات طويلة على ساق واحدة. الضرب بواسطة الكيبل على المناطق الحساسة خصوصا النساء، تكسير عظام الجسم بواسطة المطارق ، رش الملح على الجروح من أثر التعذيب ، تعرية النساء، الوقوف على رجل واحدة طيلة الليل مع الضرب بواسطة الكيبل من عدة أفراد ، تعليق الضحية ثم ضربها بالكيبلات ، قطع الماء والطعام عن المعتقلين وغيرها من الأساليب التي يتوصل إليها عتاة المجرمين إضافة إلى الاغتصاب الجنسي. ومن أبشع أساليب التعذيب أن يتجمع عشرة أشخاص أو أكثر من أفراد الهيئة التحقيقية وكل واحد بيده كيبل ويدخلون على المعتقلين الجدد وهم مكبلـو الأيدي والأرجل لا يستر أجسادهم سوى ملابسهم الداخلية ويأخذون بضربهم بالكيبلات والخيزرانات ، كانوا يواصلون ضرب المعتقلين لعدة ساعات بدون توقف والمعتقلون يتلوون تحت سياطهم ، بل أن قسما منهم فقد حياته جراء ذلك .
عندما ألقوا القبض على (سلام عادل) ومن معه في الدار اقتيدوا مباشرة إلى قصر النهاية .....
تكالب الجميع على تعذيبه والتحقيق معه وتولى مسؤولية تلك العملية الوحشية البعثي السادي (محسن الشيخ راضي) وكذلك كان يأتي كل مساء لمراجعة ما تقدم في ذلك التحقيق كل من (حازم جواد) و(طالب شبيب) اللذين كانا يقومان بالتحقيق معه بنفسيهما .
ومع كل معاناة سلام عادل وقساوة تعذيبه استطاع ان يدخل معهم في مناقشة جادة محاولا إقناعهم أن ما يقومون به لا ينسجم مع ادعائهم بأنهم قوة وطنية بل هو خدمة للاستعمار والصهيونية.
قبل دخوله في تلك المحاورة مع جلادية كانت الكلبجات قد غاصت في لحم يديه فطلب منهم أن يفتح اقفالهـا ، فتطوع أحد أفراد الحرس لذلك العمل وسحب الكلبجات من يدي سلام عادل دون أن يفتح اقفالها مدعيا أن مفاتيح الكلبجات مفقودة . تكونت بركة كبيرة من الدماء تحت أقدام سلام عادل لكنه ظل محتفظا بهدوئه الذي كان يثير جنونهم .
ساد السكون في القاعة العليا لقصرالنهاية وتجلى الإهتمام في عيونهم وهم يستمعون لحديث سلام عادل وانشده الجميع بمقدرته على الإقناع وتأثروا بحديثه وربما حاولوا التفكير في ما يقوله لولا أن ضابط الأمن (عبد الله السامرائي) راح يصرخ بهم : "لك لا يقشمركم . . انتبهوا !" وكأنهم عادوا إلى رشدهم فانهالوا على الرجل ضربا وركلا ثم أعادوه إلى السرداب وواصلوا تعذيبه .....
كان قصر النهاية يتكون من طابقين تحتهما سرداب ينز بالماء الآسن شتاء ثم السطح الذي يضم ثلاث غرف صغيرة أو متوسطة الحجم. في البداية استعملت كافة غرف الطابق العلوي وغرف الطابق الأرضي للتعذيب أما الطابق الأرضي فقد كان غير مهيأ للاستعمال حتى منتصف آذار.....
...بعد أن صار الموت هو الطريق الوحيد للخلاص ، وكأن المتنبي قد جرب مثل تلك المعاناة النفسية عندما قال :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا – وحسب المنايا أن تكون أمانيا
صار الموت أمنية لكل منكودي الحظ اللذين اوقعتهم الظروف في أيدي أولائك الجلاوزة ....
في إحدى غرف السطح عدد من المعتقلين الذين يرفضون التعاون وكان من بينهم رجل بملابسه الداخلية التي تشريت بالدماء وتعفرت بالتراب ، كان جسده متقرحا وقد تشوهت ملامح وجهه المتورم، لم يكتفوا بذلك بل حرموه من الطعام، فقد رأته إكرام يتحسس الأرض زاحفا حتى اصطدمت يده ببقايا كسرة خبز متعفنة التهمها دون أن ينظر إليها .
إنه الدكتور محمد الجلبي ابن العائلة الأرستقراطية المعروفة . كان بطلا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لم يخضع أو يضعف أمام أساليب التعذيب والإرهاب، ولم ينطق بكلمة واحدة أو يبوح بأي سر من الأسرار التي يحتويها صدره رغم إصابته مرتين بمرض الكزاز بسبب جروحه المتعفنة، كانوا يشفونه ليعيدوا تعذيبه من جديد وكان يغيظهم يقوله :-
"اضربوا فكتفاي لا زالتا قويتين تحتملان الضرب . "
في ظهيرة أحد الأيام جمعوا كل المعتقلين، الذين لم تكن إفاداتهم مقنعة لأفراد الهيئة التحقيقية ، في قاعة الاستقبال ثم سحلوا جسد أحد المعتقلين ورموا به بينهم، كان قصدهم واضحا وهو بث الرعب في قلوب تلك المجموعة كي يدلوا بكل ما يحاولون إخفاءه . في بداية الأمر لم يتعرفوا على صاحب ذلك الجسد، بل لم يكونوا متأكدين ما إذا كان حيا أم ميتا لكنهم بعد عدة دقائق سمعوا شخيره كانت عيناه معصوبتين ويداه مقيدتين خلف ظهره ومعالم وجهه قد اختفت تحت جروح وأورام عديدة
كان وجهه وجسده العاري ينزفان من كل مكان بعد أن انتشرت التقرحات الكبيرة على جسده التي راح الصـديد ينز منها ويملأ الجو برائحته التي تثيرالرغبة في القيء. تقدم أحد أفراد الهيئة التحقيقية ونزع العصابة عن عينيه فعرف الجميع انه الدكتور محمد الجلبي مرالزمن وسجل عقرب الساعة ساعة ونصف على الأقل والرجل يبدو غافلا عما حوله .
بعد فترة أنتبه وإنتفض فجأة فاضطرب لإنتفاضته كل الجلوس وأفراد الحرس القومي .... وراح يطلب الماء بإلحاح متواصل وهو يتعثر بالكلمات "لم أشرب الم . . . اء منذ أرب . . . عة أيام . .
فتح عينيه ونظر إلى الحضور، كانت عيناه قد تحولتا إلى قطعتين من الدم .
والمعتقلون يـراقبـون محمـد ولم يتجرأ أي واحـد منهـم على نجدته، ..... اليـوم الثاني تمكنت (أم ماجدة) من إقناع أحد أفراد الحرس بجلب الماء له خلسة فهوعلى حافة الموت . نفذ ذلك الحارس الطلب وهو في حالة خوف ورعب شديدين ....... استمرهكذا يصارع الموت وأخيرا غرق في عالم اللاوعي ......
كانت إكرام في حالة بين الوعي واللاوعي عندما رنت في أذنيها نغمات موسيقى مالوفة لديها وكاني تضيف بعدا جديدا بمنطق ذلك التشوش الهائل الذي غرقت فيه وهي في ذروة الخوف الممزوج بالغضب.. إنها معزوفة (القدر الخالده لبتهوفن) ، تلك الثورة الهائجه المنتفضة على الظلم. وكان حوارا خفيا قام بينها وبين ذلك الموسيقار العبقري الذي انهال عليه القدر بمطرقته الهائلة فسلب ... حاسة السمع وهو في أوج عطائه وبينها هي الفتاة الصغيرة المليئة بالأحلام الكبيرة وحب الناس والخير والتي تستدرج اليوم لتسليم من تحبهم للموت الزؤام وتدفع بجبروت الألم للتخلي عن كرامتها واعتدادها بنفسها وإيمانها بالخير. حوار ترجمه ذهنها المتوقد على شكل صور من ذاكرة الطفولة البعيدة .
أنا أخاف هذه الموسيقى" قالت ذلك لخالها الذي التصقت به وهي ماتزال طفلة صغيرة. ابتسم الرجل الذي يعشق الموسيقى وأجابهـا مفسرا "هذا المقطع يحكي فيه الموسيقار قسوة القدر على الإنسان فهو ينهال عليه بضرباته المدمرة لينسف إرادته ويحطم روحه . . إنه يضعف وينكسر انه ينهار تحت تلك المطرقة الجبارة . . ولكن الإنسان بعظمته وسموه لا يستسلم . . إسمعي هنا . . إنه يلملم جراحه . ، شيئا فشيئا لينهض فوق آلامه نافضا عن كتفيه الذل والانكسار.. وها هو يحاول النهوض ثانية بعد أن تغلب على خوفه وانسحاقه ليعود ويقف على قدميه مرة أخرى قـويا منتصرا.....
-----------------------------
هذا ما استطعت جاهدة ان أنقله للقراء الكرام بعض من بعض ما حدث في تلك الفترة المشؤومة المرعبة .
احس بمعاناة ووجع في روحي امر فضيع ان يقرأ المرء كل هذا العذاب وتلك الإنتهاكات لخيرة شابات وشباب العراق في تلك الفترة .
وربما سائل يسأل : كيف استطاعت هذه الطغمة ان تعيش حياتها ، هل شاب نفوسهم بعض الندم أم عاشوا بهناء وسعادة واين حل بهم الزمن؟؟
اعرف اني أثرت الشجون ولكأت الجراح في نفوس بعض القراء ولكن هؤلاء (الشبيبة) الذين احبوا وطنهم وناظلوا من أجل الحياة الحرة الكريمة لشعبهم يستحقون منا ان نستذكرهم في ذكرى ذلك اليوم الأسود يوم 8/شباط/1963
-------------------------------
*اسماء بعض وحوش التعذيب (وكما ذكرت في كتاب طوارق الظلام ):-
هاشم قدوري،خليل العاني،مدحت ابراهيم،عدنان هايس،خليل العاني،بهاء شبيب،مدحت ابراهيم جمعة،
عدنان خيراللّه،أسامة صبري،صباح المدني،طاهرالعاني،عبد الكريم الشيخلي،أبو طالب عبد لمطلب،صباح المدني،محسن الشيخ راضي،منعم عبد القدوس،خالد علي الصالح،اياد سعيد ثابت،كريم شنتاف،حميد خلخال،صباح المدني،نجاد الصافي،خالد علي الصالح،هادي الفكيكي،عبد الكريم الشيخلي،ايوب وهبي،أسامة وهبي،جعفر قاسم حمودي،سعد قاسم حمودي وغيرهم
والضباط الذين كانوا يزورون قصر النهاية مساء لتهديد المعتقلين وبث الحماس في في نفوس مسؤولي عملية القتل والتعذيب هم : صالح مهدي عماش،محمد المهداوي،عبد الكريم مصطفى،نصرت ومنذر الونداوي،سعيد صليبي وغيرهم.
وكان يعاين المتضررين من التعذيب (عصام الراوي) وهو طالب في الصف السادس في كلية الطب،
و(الطبيب السادي تحسين معلة) الذي كان قاسيا متحجر القلب اذ انه عندما يفحص من يفقد الوعي من أثر التعذيب
دون ان يموت يقول
-(تعالوا اخذوا هذا بعده يتحمل تعذيب)
-----------------
4 / شباط / 2022
سـتوكهولم
3155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع