د. سعد ناجي جواد
منح توني بلير اعلى وسام في بريطانيا يثير الغضب الشعبي.. ماذا كان رد امهات الجنود الذين قتلوا في حروبه؟ وكيف يجب ان نفهم هذا القرار؟
اثار التكريم المتاخر جدا لمن كان يُفترض ان يُعامل كمجرم حرب (توني بلير) باعلى وسام في المملكة، ضمن قائمة الشرف التي اصدرتها ملكة بريطانيا في عيد راس السنة، ضجة كبيرة وردود افعال غاضبة من البريطانيين انفسهم قبل غيرهم من الشعوب التي تضررت من سياسات رئيس الوزراء الاسبق. لقد اعتبر الكثيرون ان مسالة عدم تكريم بلير ما يقرب من 15 عاما (تاريخ تركه المنصب 2007 ولحد الان) كانت اشارة واضحة على عدم الرضا عن اداءه، ومرحبا بها شعبيا بسبب زجه بريطانيا في حربي العراق وافغانستان. بل هناك من قال ان هذا (الاهمال) هو نوع من العقوبة له بعد صدور تقرير لجنة تشيلكوت (2009-2016) الذي ادانه بصورة واضحة وان كانت في بعض الاحيان غير مباشرة. في حين ان كتاب وسياسيين بريطانيين طالبوا بتكريم من اتى من بعده (غوردن براون وديفيد كاميرون وتريزا ماي)، والذين كان عدم تكريم بلير سببا في حرمانهم من الحصول على هذا الوسام، الذي اصبح تقليدا يحصل عليه رؤوساء الوزراء بعد تركهم المنصب. كما قيل ان الحكومة البريطانية كانت تشعر بالحرج من تكريمهم وتجاوز بلير الذي كانت هناك اعتراضات على منحه هذا الوسام. لكن الملكة اختارت ان تستخدم حقها الخاص في ترشيح اسمه ويبدو انها اعتمدت على توصية مكتبها الخاص.. بكلمة اخرى ان الترشيح لم يات من قبل الحكومة البريطانية كما جرت العادة.
بالنسبة للمعترضين والموقعين على الطلب، والذين
سيصل عددهم الى ثمنمائة الف مُوَّقِع، خلال اربعة ايام من بدا الحملة، وربما يصل الى المليون، فانهم ناشدوا رئيس الوزراء الحالي للتقدم بطلب الى الملكة لابطال مرسوم التكريم الخاص هذا. وذكر المعترضون في عريضتهم عدة حقائق تبرر وتدعم موقفهم هذا، اولها ان “توني بلير تسبب في ضرر لا يمكن إصلاحه لكل من دستور المملكة المتحدة ونسيج مجتمع البلاد” على اساس انه اتخذ قرارا فرديا واخفى حقائق وزور غيرها لتبرير عمله . ثانيا “ان سياسة بلير، وخاصة في مغامرتي العراق وافغانستان، قد تسببت في مقتل عدد لا يحصَ من البشر الابرياء ناهيك عن ارواح الجنود البريطانيين”، وهناك من كتب في الصحف البريطانية ان سقوط الضحايا ما زال مستمرا لهذا اليوم. وثالثا “ان بلير اخر شخص يستحق مثل هذا التكريم العالي، وخاصة عندما ياتي من الملكة نفسها”، على اعتبار ان هذا التكريم سيعفيه من مساءلات كثيرة. الاعتراض الاهم جاء من امهات الجنود الضحايا الذين قتلوا في حربي العراق وافغانستان، حيث انهم قرروا اعادة الاوسمة التي منحت لهم اعتراضا على تكريم بلير لانه كان السبب في مقتل ابنائهم. وهذه الاراء والمواقف جميعها لم تأتِ اعتباطا وانما اعتمدت على ما ظهر من حقائق خلال العقدين السابقين. كما اكتسبت الحملة زخما اكبر بعد تصريح وزير الدفاع الاسبق (جيف هون) الذي خدم مع بلير، الذي قال فيه ان الاخير (امره بحرق وثيقة سرية مهمة تقول ان غزو العراق عام 2003 قد يكون غير قانوني)، مع حقائق اخرى جرى التلاعب بها او تغييرها من اجل تبرير الحرب، وانه (اي بلير) عمد الى اقالته من منصبه لمعارضته لخيار الحرب ليتفادى الاحراج. كما اتهم رئيس رئيس الوزراء الاسبق بانه (ضلل الوزراء والبرلمان والجمهور لدعم حرب اعتبرها الكثيرون غير قانونية وجريمة). وكل هذه الحقائق كانت قد وردت في كتاب الوزير Hoon والذي عنونه (See How They Run).
ليس من المتوقع ان تنجح هذه الحملة في سحب او الغاء هذا التكريم، لكن حقيقة قيامها تؤكد مدى الغضب الشعبي على سياسات رئيس الوزراء الاسبق. وهي بالتأكيد تظهر البون الشاسع بين المزاج الشعبي والسياسات الرسمية.
لقد كان الراي العام العالمي بصورة عامة والبريطاني والعراقي بصورة خاصة يطمح في ان تتم محاكمة بلير، وقبله جورج بوش الابن كمجرمي حرب، خاصة بعد ان تكشفت كل الحقائق عن دورهما السيء وعن كمية التضليل التي اعتمداها والكمية الهائلة من الاسلحة المحرمة التي استخدمت في حروبهما وما تلا ذلك من قتل وتدمير وتعذيب في السجون، ناهيك عن العدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا جراء شن حرب مخالفة لكل قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الانساني. ولكن يبدو ان اصل السياسة الاوروبية والامريكية، المبني على الفكر الاستعماري وتمجيد الوجوه التي تتبنى هذا الفكر وتمارسه، لم ولن يتغير، رغم كل حملات الاحتجاج التي اجتاحت العالم منذ عام 2015، والتي نتج عنها اسقاط وتحطيم تماثيل عديدة لاشخاص كانوا قد بدأوا فترة الاستعمار وتجارة الرقيق. وكدليل على هذا التفكير هو اصرار الدول الاستعمارية السابقة، وخاصة بريطانيا، على نصب تماثيل لمثل هكذا اشخاص، وبشكل استفزازي في الدول التي استعمروها وفي اماكن متميزة، حتى قامت شعوب تلك الدول بتدمير هذه التماثيل. وبالمناسبة فان العراقين كانوا اول من فعل ذلك عام 1958 عندما حطموا تمثل جنرال مود الذي كان على راس القوات التي احتلت بغداد عام 1917. وياتي تكريم بلير كدليل جديد على ان هذا النهج الرسمي او نمط التفكير مازال راسخا.
كما ان هذا الحدث يثبت ان النهج الحكومي والرسمي البريطاني راض عن السياسة الاستعمارية، او لنقل ان ساسة بريطانيا لازالوا مشبعين بالفكر الاستعماري على الرغم من كل الكوارث التي تسبب بها، بدليل دعمهم وموافقتهم ومشاركتهم في سياسة حصار الدول التي تتبناها الولايات المتحدة وخاصة في منطقة الشرق الاوسط، والاستعداد للمشاركة في كل عمل عسكري في المنطقة. (افغانستان، العراق، سوريا، ليبيا)، وقبل كل هذا وذاك دورها السيء في تمكين الحركة الصهيونية من احتلال فلسطين وتشريد شعب بكامله، ودعم كل ما قامت وتقوم به اسرائيل من احتلال وقتل يومي للفلسطينين، والاحتفال الكبير بوعد بلفور المشئوم، واخيرا وليس اخرا تصنيف كل حركة مقاومة للاحتلال كحركات ارهابية.
بالتاكيد ان هذا التكريم، (والذي اكرر انه جاء بالضد من المزاج الشعبي العام الذي يطالب بمحاكمة بلير وبوش)، سيشجع الساسة الذين يمتلكون نفس التفكير والنزعات الاستعمارية، على الاستمرار في نهجهم، وبالمقابل فانه من المؤكد ان مثل هذه الاجراءات ستزيد من التطرف المقيت ومن عدد الحركات المتشددة ومؤيديها. والاهم فانها لن تساهم في تخفيف التوترات التي تجتاح العالم ولن تصلح الاخطاء التاريخية او تعيد الاعتبار للشعوب التي سلبت حريتها ولا للارواح التي ازهقت نتيجة للمغامرات الاستعمارية. هذه الامور التي تستوجب الاعتذار وتعويض المتضررين بدلا من تكريم من ارتكبوا هذه الجرائم. ويبدو ان على العالم الثالث ان ينتظر عقودا قادمة اخرى حتى يتم تصحيح المسار وحتى تصل الولايات المتحدة واوربا الى قناعة بان ما ارتكبوه من افعال طوال الحقبة الاستعمارية وما تلاها هي جرائم تستوجب الادانة والاعتذار والتعويض.
2120 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع