علي عبدالأمير فاضل
أرواح عـائمة
عندما أزهرت الشمس، وحاكت أول خيوطها على قطعة السواد، بدت السماء حينها كـجديلة رمادية لعجوز شمطاء، كانت ساعة الفجر تشير إلى الرابعة.
رجع الصياد " باترا " توه من سفره وهو يحمل على متن مركبه الخشبي سمكة تونة ضخمة، كان متعباً يبدو إنه خاض صراعاً كبيراً معها،
أرسى هذا العجوز ذو الأربعة والستين سنة مركبه عند المرفأ، قُبيل أن ينزل من من المركب، لاحظ أن هناك فتاة تقف على أرضية الساحل الرملية، فتاة بضّة الجسد تغطس في ثوب أبيض، وتتلاعب بها نسمات الفجر الباردة والنقية، لم يقترب الصياد منها بل تركها وحيدة، والأمواج تزحف تحت قدميها، الفضول،
الفضول الذي تناوشه كخروف بين مجموعة ذُؤبان، جعله يتسآل في نفسه
-ماذا تفعل هنا هذه الفتاة؟!
اقترب منها وهو يجفف شعره الرمادي بـمنشفة رطبة، وقال:
_ هل تحتاج الفتاة الجميلة لـمساعدة ؟
بـالكاد التفتت إلى مصدر الصوت
وقالت بصوت غريب، وكأنه آتي من العالم الآخر،
_ كلا . . .
ثم رجعت تتأمل البحر والأفق الشاسعان،
لمعت عيناها وكأنهما مرآتان سطعت عليهما أشعة الشمس الباكرة، وأطبق صمت مريب على المكان.....
كانت السفينة ذات الشراع الأبيض العتيق، والخشب الأحمر، تطفو وسط البحر، في يوم صيدٍ عادي، عندما كانت الفتاة وأبواها، يبحرون لكسب قوتهم، حيث كان الصيد مصدر رزقهم والسفينة كل مايملكون بـإستثناء الكوخ المشيد على الشاطئ،
كان كل شيء على ما يرام، فالبحر هادئ والشباك لاتزال في الماء، ساعتها لاحَ من بعيد سرب من طيور الكركي -طويل المنقار والأرجل- كان السرب مضطرباً حيث تنبعث منه أصواتاً بين الفينة والآخرى، كان يشكل في أفق السماء هيئة مثلث فقد أحد أضلاعه، ويتقدمه طير أبيض مزركش بالأسود، عرف الأب أن هناك خطباً ما، لأنه بحار قديم، ويعرف أن البحر لا يكون هادئاً إلا لمكيدة يحيكها، وإن مزاجه ينقلب في غضون ثوانِ،
رفع المرساة الحديدية للسفينة بسرعة وأدار الخشبة باتجاة سرب طيور الكركي، وسرعان ما بانت غيمة سوداء مكفهرة، وملأ المكان صوت البرق المفزع،
وأسفر البحر عن غضبه وكشف عن أنيابه الفتاكة، ولم تكن هناك إلا هذه السفينة وسط هيجان البحر، تصارع الرياح والموج الغاضبان، إنكسر أحد الأشرعة، وسقطت الأوتاد، وأحدثت ثقباً هائلاً في السفينة،
رقصة السفينة بعنف على مسرح المياه كثور غاضب، كانت الأم تتشبث بحافة السفينة، لكنها لم تصمد طويلاً،
فقد قذفتها في المياه المليئة بعصابات القروش الجائعة ..
ركضت الفتاة مرتبكة إلى غرفة ما في السفينة لتجلب معدات الإنقاذ لتنجو وأباها مـن الهلاك،
لكن المركبة بدت تستسلم لغضب الطبيعة الأم وراحت تغطس بهدوء قاتل،
إستطاع الأب أن يقفز في الماء، وظل يسبح على لوحٍ خشبي مثلوم، وهو ينظر إلى السفينة التي تحمل إبنته وهي تغرق في الهدوء بعد العاصفة،
أحسّت الفتاة إنها النهاية، عندما وجدت نفسها في غرفة مظلمة، كان صوت الماء لا يدل على الحياة بل على الموت،
عندما بدأ بالدخول بوحشية عبر الثقوب،
وفرت الأوكسجين الباقي في رئتيها،
لكي تكسر الباب وتخرج، لكن لا فائدة إنه محكم بسبب ضغط الماء ،
أصابتها رعشة عندما فاجأها الماء وهو يزحف إلى جيدها، كانت رعشة خوف، او ربما رعشة الموت،
طمع الماء المالح لم يتوقف بغرق جسدها حتى الرأس، بل احتشد للـولوج إلى داخل الجسد،
إنه طعم الموت، كان مالحاً جداً
نفضت آخر ماتبقى من الهواء على شكل فقاعة عارية من الأمل،
وسرعان ما حملها الماء كنعش،
وراح يطوف بها في أرجاء الغرفة،
الأرواح لا تسلم الجسد بسهولة، وإن فعلت فإنها لا تتركه وترحل...
وضع العجوز منشفته على كتفيه، وأدار ضهره للفتاة ،
وتمشى بضع خطوات، لكن استوقفة الشك،
الشك يجعلك تعرف الأشياء على ماهيتها، لكنه
استدار، ثم اقترب منها مرة أخرى بعد أن شاهد هالة مضيئة تحيط بيها ..
مد يده ولامس وجهها، ليتأكد أنها من البشر حقاً،
لكنها بدت تختفي كـالدخان ،
على الشاطئ كانت هناك مجموعة من طيور الكركي، تقف فوق جثة فتاة طافية على مياه البحر المالحة.
1078 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع