بوادر نهاية مفتوحة / للتاريخ والعبرة ح/ 17

                                       

                              مثنى عبيدة


تتسم البداية لكل أمر بأنها تحمل في طياتها الفرح والسعادة المفرطة على الفرد أو المجتمع أذا كانت تلك المناسبة سعيدة جداً مثل ولادة طفل للعائلة أو تحقيق نجاح يصبو إليه المرء ُ في مشوار حياتها أو تحقيق انتصار ٍ وطني ٍ وإنساني ٍ للوطن ِ أو الأمة ،

كما تتسم البداية بالحزن والتعاسة أذا كان الأمر خلافاً لما تقدم وكلا الطرفين يتوقعان نهاية كل ذلك لذا تبقى النهاية هاجس يترقبه الجميع علها تــُسهم في نقلهم من حالة إلى أخر حسب ما يتوقعونه أو يأملون من حياتهم هذه وكلاً حسب ما يؤمن به من عقيدة أو فكرٍ أو هوية شخصية تبلورت على مر السنين والأعوام .
على إتعاب نهاية القرن العشرين وبعدما حطم العراقيون الرقم القياسي لأعوام يوسف السبعة العجاف بالعدد .. لا..  بتغير الحال الذي سار نحو ما لا يطاق وأستنفذ الصبر سهامهم النافذات ورأينا الترهل قد زحف بدل الشباب والضعف حل بديلاً عن القوة والاعتداد ومرت الأيام ثقيلة أثقل من حمل الجبال كل ذلك وغيره الكثير الكثير مما لا يحتويه سطرٌ أو كتاب ومما يعجز عن وصفه القلم واللسان والذي لا زال عالقاً في ذاكرة كل عراقي إنسان.
 كنت ُأسوة بكل من عاش في ذاك الزمان والمكان أكتوي باللظى والحرمان ونقص في كل شيء وأهمها الدواء والعلاج حيث التردد على الأطباء ومراكز الشفاء علها تنقذني من الداء ، وقتها عرض علي الدكتور عماد أحمد جمال ألنعيمي وهو من ضمن الفريق الطبي الذي يعالجني من أكثر من عشر سنوات عرض علي أن أجري عملية جديدة تحت أشراف الدكتور ناجح الاسدي الجراح المعروف بإمراض القلب والأوعية الدموية وهو يعرف حالتي الصحية من خلال مراجعاتي المستمرة لمستشفى الرشيد العسكري والتي كان يشغل فيها مدير وحدة القلب والأوعية الدموية والرجل برتبة عميد طبيب وفعلاً باشرت بالتحضير لهذه العملية الخطيرة والمهمة جداً وكانت العقبة الأولى هي توفير مبلغ العملية الجراحية والتي سيتم أجراءها في مستشفى أهلي غير تابع للدولة وكان المبلغ المطلوب هو قرابة مليون دينار عراقي .
 في تلك الفترة الحرجة كان هذا المبلغ كبير على من هم من أمثالي كما أنني لم أستطع أن أكلف أمي أو أخوتي أن يقدمون فوق ما قدموه من جهد وأموال طيلة الفترة الماضية إضافة إلى صعوبات تكاليف المعيشة والتي كان يتحمل جزء منها أخي العزيز أحسان والذي عمل بالأجرة اليومية في إعمال البناء وأفنى زهرة عمره فيها متحملاً فوق طاقته وكنت أسمع شخيره وهو نائم من التعب حيث يقضي اليوم من الفجر إلى العشاء في العمل ثم يعود للنوم وهكذا مضت أيامه أسوة بكل شباب ورجال العراق الشرفاء ، أخبرت أخي وصديقي عبد الستار سليمان بهذا الأمر فقال لا عليك سوف ندبر المبلغ بإذن الله وفعلاً قام بجولات مكوكية على مجموعة كبيرة من الأصدقاء والمعارف لتوفير جزء من المبلغ المطلوب وأرجو الله أن يتقبل عمله هذا ويرحمه بواسع رحمته ( حيث قــُتل إبان أعوام الفتنة ) وهو من كتبت ُ له قصيدة ( فقيد المواقف ) والى اليوم أفتقد هذا الأخ والصديق الإنسان .
طبعاً أمي لم تعلم بهذه التحركات حيث قام أخي أحسان بمفاتحة شيخ المسجد لكي يطلب من المصلين مساعدتي في هذه المحنة وفعلاً جاء الرجل حاملاً مبلغ من المال وحين علمت أمي بالأمر رفضت رفضاً قاطعاً أن تأخذه وقالت أبني أنا مستعدة أبيع البيت وكل ما نملك من أجل سلامتك وأعادت المبلغ للمسجد وقالت لهم هناك من يحتاجه أكثر منا وجزاكم الله ألف خير .
 
تم جمع جزء كبير من المبلغ وذهبنا إلى العملية حيث لم يتقاضى  الدكتور عماد ألنعيمي أجوره وحضر أخي وصديقي الدكتور نازك الفتلاوي ومجموعة كبيرة جداً من الأهل والأصدقاء للوقوف بجانبي وبجانب أمي وأخوتي وذلك لعلمهم بخطورة العملية على حياتي ، دخلت صالة العمليات الكبرى وتم المباشرة بالعملية الجراحية وبعد فترة ليست بالطويلة خرجت إلى غرفتي وكان بجانبي صديقي زاريه نيكو غوص  سيمون وهو من الأرمن الأعزاء وكنت أساله زاريه هل ساقي موجودة هل تم قطعها وكان يرد علي نعم موجودة وسوف المسها بيدي لتشعر بها وكنت أرى الدموع تترقرق في عيون الجميع وبعد أن أخذت قسط من النوم جاء الطبيب لكي يعلمني بأن العملية لم تنجح بسبب تقادم المشكلة وبأن الأوردة تالفة ومغلقة تماماً ، خرجت إلى البيت وهناك أخبروني بان الدكتور ناجح الاسدي أثناء العملية خرج على أخوتي لكي يأخذ موافقتهم على بتر ساقي اليمنى كلها لكون الأوردة تالفة وليس من الممكن عمل أي شيء وانه قد مسك الباب الخشبي للغرف وقال أوردة مثنى مثل هذا الخشب . لكن أخوتي قدموا شكرهم له وقالوا دعه يخرج بهذه المشاكل أفضل له ولنا والله كريم .
قضيت فترة النقاهة بالبيت حيث يزورني الأصدقاء والأحبة ومنهم زاريه نيكو غوص وأذكر انه طلب أن يأكل عندنا باقلاء بالدهن والبيض ( تشريب باقلاء ) وكان أحبتي وأخوتي أصدقاء العمر والجيرة والمحلة يرتادون علي باستمرار جزاهم الله كل خير .
 
في هذه الفترة كان لي جار وأحبَ أن يعرض قضيتي على قيادة الحزب الحاكم في المنطقة وفعلاً زارني رجل يحمل صفة عضو فرع وبعد كلمات الترحيب سألته ( قلت له أستاذ لو أنا وأخي المعاق وإخوتي الذين خدموا العراق ودافعوا عنه لو كنا لم نلتزم بخدمة الجيش والوطن هل سوف يتركنا الجهاز الحزبي والانضباط العسكري ؟ ثم هل تعتقد بأن ترك أمي تكافح من أجلنا وحيدة هل هذا عدل ؟ أني يا سيدي الفاضل أخشى عليكم من أنكم تخسرون شعبكم وناسكم شيئاً فشيئاً ؟ لان من يراني على هذه الحالة هل تعتقد سوف يذهب للقتال مرة أخرى ) طبعاً الرجل بدأ يتحدث بأحاديث يعتقد بأنها سوف تـُسهم في تهدئة خواطري وروحي ، وما يعلم بان ما تعرض له البسطاء والفقراء العراقيون وكل من خدم العراق بإخلاص وحب ولم يجدوا الرعاية والحنان والدعم كل ذلك وغيره كان بوادر النهاية المفتوحة .
 
في عام 2000 ونحن نستعد لمغادرة الألفية الثانية وندلف على بداية الألفية الثالثة خرجتُ وبعد طول بقاء بالغرفة إلى الشارع وكنت أرتدي ثوباُ  جديداً وحين تحركت باتجاه أخي سعد وكان في محله جالساً وإذا بي أقع ُ على الأرض وأصرخ ُ من شدة الألم وأنا أسمع عظام ساقي اليمنى قد تكسرت وبدأ صراخ أخواتي وتجمع الناس من كل صوب وهم لا يعرفون ماذا جرى وأقترب أخي ناصر مني وقلت له لقد كُسرت رجلي من وسطها ، تم رفعي والذهاب إلى عيادة صديقي د نازك الفتلاوي الذي نزل للسيارة وراني ممدد ٌ فيها قال أذهبوا به إلى الأشعة وهناك وجدواً أنه كسر كبير في العظم ويحتاج إلى إصلاح أرسلني نازك إلى الدكتور مدحت الخفاجي في منطقة الحارثية والرجل طلب إدخالي في مستشفى ألجيبه جي الذين طلبوا مبلغ 300 ألف دينار عراقي قام سعد بإحضارها فوراً حتى يتم إدخالي في غرفة العمليات وفعلاً هناك وجدت ُ د نازك واقفاً فوق رأسي وقلت له نازك تكلم مع د مدحت وأشرح له حالتي كلها بسرعة وكان د مدحت في الصالة فقال أنا مدحت ماذا تريد قوله قلت له د ( هذه الساق حافظت ُ عليها أكثر من عشر سنوات بهذه الحالة وبهذا الألم واليوم قد كسرت والأمر لله أرجوك أن تنقذها ) قال
نعم هي حالة صعبة جداً لأن أذا وضعتُ الجبس عليها سوف تتسمم بمرور الوقت لذا سوف أرى ما أستطيع عمله وأترك الأمر بيد الله قلت توكلت عليه.
 
بعد ساعات خرجت إلى غرفتي وكان الليل قد انتصف وعرفت بان د مدحت الخفاجي جزاه الله خير الجزاء قام بوضع جسر من البلاتين في ساقي المكسورة لكي لا يوثر على الدورة الدموية فيها .
 
مضت الأشهر طويلة كأنها الدهر كله وأنا حبيس البيت مرة أخرى لكي تكتمل الرواية الطويلة
بعدها بدأت بوادر انفراج حيث تم رفع هذا الجسر وألتئم العظم وبدأتُ أسير على قدمي والعكاز يحملني .
 
في هذه الإثناء تم تشكيل رابطة للمعاقين العراقيين وقد طلبوا مني أن أكون معهم في تنظيم الشؤون الإدارية لكي اقضي وقتي بشكل طيب وفعلاً باشرت العمل معهم وكان الأخ حامد
القرغولي رئيس الرابطة وأخي سعد نائبه ومجموعة طيبة من الأصدقاء الجدد في حياتي وهم الفنان التشكيلي عاصف عامر آل بطي ومحمد بنوان اللامي وحامد الجبوري وغيرهم
 
طبعاً كانت هذه المرحلة بوادر لبداية جميلة مشرقة في حياتي المستقبلية حيث تبلورت أفكاري ورأيت الواقع عن قرب واتسعت دائرة علاقاتي وعرفت حجم مشكلتنا وسوف يكون لهذه الأيام أثرها الكبير بعد بضع سنين وهذا ما سوف أواصل سرده بإذن الله تعالى في الحلقات القادمة .
 
المهم أني لاحظت أثناء مراجعة المعاقين لمقر الرابطة والذي هو عبارة عن غرفة في طابق ثاني واترك لكم تصور كيف المعاقين يصعدون الدرج لكي يقدموا أوراقهم ويطالبوا بحقوقهم لاحظت مقدار الأذى والحيف والظلم الذي أصاب هؤلاء الرجال الذين هم في زهرة أعمارهم ولكنهم ألان قد كبروا عشرات السنين وباتوا عاجزين عن خدمة أنفسهم وأهليهم .
 
تسالت مع نفسي كيف تقبل الدولة هذا الوضع المزري والمؤلم لجزء مهم وكبير من أبناء العراق ما ذنب العائلات العراقية لكي تتحمل فوق طاقتها ما ذنب المعاق ما ذنب أطفاله ما ذنب زوجته ؟ لماذا لا يتم توفير أفضل الخدمات الصحية والطبية والاجتماعية والخدمية لهم لماذا لا تسخر الدول إمكانياتها لأجل علاجهم ومساعدتهم لتجاوز ظروفهم الصعبة ؟ لماذا تصاب العائلات بالحيرة وقد يـُحرم المعاق من العلاج لكونها لا تملك المال للعلاج وإجراء العمليات ؟ لماذا الحصار يأكل في أعمارنا وشبابنا ؟ لماذا حين نطالب بحقوقنا يقولون الحصار وعدم توفر العملة الأجنبية السوداء بينما من أصيب في الشارع أو بمرض يتم صرف الملايين والملايين من الدولارات وجلب الأطباء من فرنسا وغيرها لعلاج تلك الحالات ؟ نعم هم مواطنون مثلنا ومن حقهم العلاج ولكن لماذا لا نعامل بأننا مواطنون مثلهم ولنا حق العلاج والحياة الكريمة ؟ لماذ تتركون البلد يواجه النهاية المفتوحة على كل الاحتمالات ؟ لماذ لم تعالجوا بوادر الانهيار ؟ لماذ كذبتم وكذبتم وكذبتم حتى صدقتم أنفسكم ؟ لماذ لم يتم التعامل بصدق مع كل الأخطار المحدقة بالبلاد ؟ لماذ أصبح الكذب وسيلة لكي تـُقدم الهدايا والسيارات والأراضي للكاذبين وهم ينفخون في الإناء وهم يعلمون أنهم مثل الطبل الفارغ  ؟ لماذا أغلقوا عقولهم وأذانهم عن سماع الحقيقة حتى لو كانت مؤلمة ؟ لماذا ولماذا ولماذا هي تساؤلات كل أهل العراق الاصلاء الذين احترقت أيامهم وهم يشاهدون النفاق والكذب والخضوع والانحناء ؟

لماذا لم يتداركوا الأمر ويجيبوا على تساؤلات الفقراء وكل الشرائح الاجتماعية الأخرى والمحبة للعراق ؟

لماذا تركوا أبواب النهاية المفتوحة مُشرعة للغرباء... ؟؟؟

لماذا لماذا بحق رب السماء ؟؟؟  
 
للحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن رب البرية

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

912 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع