أردوغان والليرة التركية

                                                          

                  المهندس هامبرسوم أغباشيان

أردوغان والليرة التركية

ان المتتبع للتغيير الحاصل في قيمة الليرة التركية في هذه الأيام يرى بكل وضوح وبما لا شك فيه بان قيمة الليرة في انحدار شديد نحو الهاوية بعد ان تخطّت حاجز العشرة ليرات مقابل الدولار في سوق العملات الأجنبية. فجميع مصادر الاخبار وحتى الصديقة للنظام في تركيا تؤكد هبوط قيمة الليرة التركية الى أدني مستوى لها مقابل الدولار الأمريكي حيث تخطى سعر صرف العملة التركية مبلغ 12 ليرة مقابل الدولار الواحد بتاريخ 24كانون الأول 2021، وأصبحت انقرة تواجه أسوأ أزمة نقدية منذ آب 2018، عندما بلغ سعر صرف الليرة أدنى مستوياته بسبب خلاف مع الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب.
أن الهبوط المستمر في قيمة الليرة التركية لم يكن يوما شيئا مستغربا بالنسبة للأوساط المالية المحلية والخارجية والمصارف العالمية، فقد كان ذلك حال الليرة منذ اسقاط الأصفار عنها عام 2005، ولكن الجديد بالأمر هو ان الليرة التركية عبرت حاجز العشرة ليرات مقابل الدولار الأمريكي بينما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا زال متمسكا بسياسته النقدية بتخفيض سعر الفائدة دون قبول نصائح زملائه وتوصياتهم.
في الأول من كانون الثاني عام 2005 تم إلغاء ستة أصفار من قيمة الليرة التركية، وكان سعر صرف الليرة في نهاية عام 2004 قد وصل الى 1350000 ليرة للدولار الواحد (مليون وثلاثمائة وخمسون ألف ليرة)، وطبعت العملة التركية داخل تركيا وخرجت إلى الأسواق على شكل 6 مجموعات أوراق نقدية من الفئات :1. 5. 10. 20 .50 و100 ليرة تركية. وكان سبب هذا الاجراء التضخم الذي كانت تعانيه العملة التركية منذ 30 عاما وكانت العملة الورقية ذات قيمة 20000000 ليرة (عشرون مليون ليرة) أكبر عملة ورقية في العالم وتستعمل فقط في تركيا. وبعد تطبيق سياسة حذف الأصفار في عام 2005 أصبح الدولار يعادل اقل من ليرة ونصف.
ظلت الليرة بعد تلك الازمة تفقد قيمتها ولكن بوتيرة معقولة ومتأثرة بقرارات الحكومة التركية وسياسات أردوغان التي لم يحسب لها حساب، ولكن منذ بداية العام الحالي ارتفع سعر صرف الدولار ارتفاعا كبيرا، لتسجل الليرة أسوأ أداء في الأسواق مقابل الدولار الأميركي. وكان من الأسباب الرئيسية لهذا الهبوط في قيمة الليرة إصرار الرئيس التركي على خفض أسعار الفائدة. وللتخلص من الأصوات المعارضة داخل حكومته ولفرض قراراه هذا لجأ أردوغان الى أقاله ثلاثة محافظين للبنك المركزي خلال العامين الماضيين. كما أقال كل أعضاء اللجنة السياسية المعارضين لمطلبه بخفض الفائدة، وكذلك أعضاء لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المعارضين لسياسته، ما دفع الليرة إلى مستوى منخفض قياسي جديد مقابل الدولار، حيث ان المعادلة حسب راي الاقتصاديين هي رفع مبلغ الفائدة عند انخفاض قيمة العملة لسحب السيولة من الأسواق ولكن سياسة الرئيس التركي هي خفض الفائدة لتنشيط قطاع الاعمال والإنتاج وذلك بالاقتراض من المصارف بفوائد اقل، وحسب معارضيه ان المستفيد الوحيد من هذه اللعبة هم الدائرة القريبة من أردوغان، صهره وابنه اخرون.
ان العملة التركية حساسة تجاه الأزمات الخارجية، وخاصةً الأزمات مع واشنطن، وأي توتر في العلاقة بين أنقرة وواشنطن يؤدي إلى آثار سلبية على الليرة التركية. وكلنا نتذكر ازمة القس الأمريكي أندرو برونسون الذي حكم عليه بالسجن في تركيا وكيف دفعت تركيا ثمنا باهظاً لاحتجازه. فبعد ان رفض أردوغان الافراج عنه اتخذت أمريكا عدة قرارات اقتصاديه أدت الى هبوط كبير في قيمة الليرة مما دعا تركيا للأفراج عنه، وتعافت الليرة بعد ذلك لترجع الى المستوى الذي كانت عليه، وكان أمير قطر قد مد يده أيضا في حينه لمساعدة حليفه ضد الثنائي السعودي الاماراتي الرئيس التركي أردوغان.
ان الليرة التركية تتبع نظام الصرف الحر منذ عام 2000، أي أنها تخضع لسوق العرض والطلب، كما هو الحال في العديد من الدول، ولكن هناك هاجس عند الرئيس التركي بوجود مؤامرة تحاك ضد تركيا من الخارج. ويعتقد أردوغان بانه بعد فشل انقلاب عام 2016 فان الغرب يحاول إيجاد وسائل أخرى لأضعاف تركيا منها الضغط الاقتصادي ناسيا بان من قام بالانقلاب كان شريكه المفكر الإسلامي والداعية التركي فتح الله كولن. ولكن في كل الاحوال ليست من مصلحة الغرب تدمير الاقتصاد التركي الذي استثمر فيه مئات المليارات من الدولارات. علما بان تركيا تلقت أثناء الازمة الاخيرة أيضا دعما كبيرا ولكن هذه المرة من عدو سابق، من أبو ظبي التي تتقرب حاليا اليها بعد ان بدأ أردوغان يضيق الخناق على الاخوان المسلمين المقيمين في تركيا لتحسين علاقاته مع مصر، حيث اعلنت أبو ظبي عن استثمار 10 مليارات دولار في تركيا وهذا سيعزز موقف الليرة ويساعدها من الانزلاق الى الهاوية ولو لفترة ما.
أن أهم عقبات الاقتصاد التركي تنحصر في الدين الخارجي القصير الأجل او ما يسميه الاقتصاديون (الأموال الساخنة) وعجز في الميزان التجاري بسبب قائمة الطاقة التي تستوردها من الخارج، علما بان تركيا تحصل على حصة من النفط العراقي الذي يتم ضخه عبر أراضيها ناهيك عن الاخبار المتداولة حول الحصول على النفط المنتج من الحقول السورية من السوق السوداء. ولكن ليست الطاقة هي الفقرة الوحيدة لنزيف الاقتصاد التركي، فمغامرات اردوغان والحلم الكبير الذي يراوده في احياء الإمبراطورية العثمانية دفعته للقيام بمغامرات عسكرية ابتداء من غزو سوريا ثم الاعتداء على شمال العراق بحجة مطاردة أعضاء حزب العمال الكردستاني والوجود الدائم لقوة عسكرية تركية في بعشيقة قرب الموصل وارسال المرتزقة السوريين الى ليبيا ، ناهيك عن 30 ألف جندي من القوات التركية (الصديقة) المتواجدة في شمال قبرص منذ عام 1974 ، وهناك قاعدة عسكرية تركية في قطر منذ 2016 وكان التنسيق قد تم بينهما بدأ مع الربيع العربي لكن بعد الأزمة بين قطر والسعودية والإمارات تعززت علاقاتهما وتحولت الى تحالف وفي الصومال وجيبوتي التي فيها قوات تركية منذ عام 2017 بحجة التدريب وأذربيجان التي تعتبرها دولة شقيقة، وكانت بصدد إقامة قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية ولكن بعد الانقلاب العسكري هناك تغيرت الامور.

تركيا ليست بالدولة الصغيرة، ويعتمد اقتصادها بشكل كبير على المنتجات الزراعية والصناعات الصغيرة والمتوسطة وقطاع الخدمات مثل السياحة والطيران والإنشاءات والعقارات، وكانت السياحة تدر أكثر من 20 مليار دولار سنويا قبل ازمة كورونا. وتركيا هي ضمن الدول العشرين الصناعية الكبرى في العالم ولكن تصنيفها في القائمة هبط الى المرتبة 17 ثم 19 وأصبحت الان في المرتبة 21 أي خارج القائمة.
أن انخفاض الليرة يؤثر بالسلب على بعض المتعاملين، وهؤلاء هم الكبار المتعاملين بالليرة واصحاب الاستثمارات الكبرى في مجال العقارات وغيرها التي تعاني من خسارات مرعبة، والمستثمرون الأجانب في قطاع الشقق السكنية يعانون من خسارات كبيرة، حيث تهبط قيمة شققهم مقابل العملة الأجنبية. والشركات المستوردة من الخارج، لأنها تدفع بالعملة الأجنبية مقابل استيراد السلع والخدمات، والشركات التي حصلت على ديون مصرفية بالعملة الصعبة تتأثر بشكل كبير من انخفاض العملة. ويبقى الخاسر الأكبر في كل الاحوال المستهلك المحلي، لكون انخفاض الليرة يدفع إلى ارتفاع الأسعار بالداخل ومن ثم زيادة معدلات التضخم، ويبقى الشعب التركي وخصوصا الطبقات المتوسطة والفقيرة من أكبر الخاسرين، فالتململ يسود هذه القطاعات جميعا بسبب الغلاء الفاحش والارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية الأساسية وكافة متطلبات الحياة، وفي المقابل تقوم الحكومة بتعديل رواتب الموظفين كل ستة شهور ولكن يبقى المواطن العادي خارج هذه التعديلات.
من الناحية الثانية يفيد تراجع العملة التركية متعاملين آخرين، من هؤلاء الرابحين الشركات التركية المصدرة إلى الخارج، ولكن ينطبق هذا فقط على المنتجات الزراعية والمنتجات الصناعية التي لا تعتمد كثيرا على المواد الخام التي تأتي من الخارج والتي يتم استيرادها بالعملة الصعبة وبالتالي تزداد كلفة المواد المصنعة.
وتراجع الليرة أمام العملات الصعبة يشجع السياحة في تركيا فالسياحة هي جزء أساسي من اقتصاد تركيا، وكانت تدر على تركيا قبل ازمة كورونا بلايين الدولارات سنويا، وكانت الحكومة تستفيد من هذه الواردات بتقليص العجز التجاري. وحاليا يقدر الاقتصاديون الديون الخارجية لتركيا 450 مليار دولار في الوقت الذي يبلغ الناتج المحلي نصف هذا المبلغ حسب نفس المصادر.
من الغرابة ان يعتبر اردوغان أمريكا والغرب اعداؤه الحقيقيين في الوقت الذي تركيا في تحالف عسكري مع الغرب وهي عضوة في منظمة الناتو، ومعظم استثماراتها تأتي من الخارج وخصوصا من المانيا. وفي نفس الوقت الذي يكره أمريكا والغرب فانه يسعى للبقاء ضمن حلف الناتو في الوقت الذي يشتري الأسلحة الدفاعية من روسيا ويخلق ألازمات مع الغرب.
وحسب استطلاعات الرأي العام في تركيا فان نسبة الذين لا زالوا يؤيدون أردوغان اصبح 30% ما شجع كمال كلجدار رئيس الحزب الجمهوري (الحزب العلماني الذي أسسه كمال اتاتورك) وزعيم المعارضة في البرلمان التركي طلب اجراء انتخابات مبكرة بدلا من انتظار الموعد المقرر في عام 2023 حيث ان فرصة فوز أردوغان قليلة حاليا. لقد فاز كلجدار وحزبه العلماني في الانتخابات البلدية في المدن الكبرى مثل إسطنبول وانقره حيث خسر المرشحون الذين دعمهم اردوغان هناك ومنهم رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم في حين انه ربح في المدن الاخرى ذات التوجهات الدينية، والحالة تختلف في الانتخابات الرئاسية وهي انتخابات عامة تشمل كل تركيا ومن ضمنها الريف المؤيد لأردوغان الذي استطاع كسبهم عن طريق الدين.
وأخيرا، الى اين ستنحدر الليرة التركية؟ وهل سيستمر اردوغان بسياسته المالية والسباحة ضد التيار؟ وهل سيستطيع الصمود الى النهاية؟ وهل سيرضى الناخبون الاتراك الذين هيئهم اردوغان فكريا وروحيا، هل سيرضى هؤلاء به رئيسا لقطع الطريق على كليجدار العلماني. ام انه سيقنعهم بان لديه جدول اعمال ومشاريع غير مكتملة وان تركيا بحاجة اليه ولا غنى عنه؟ ام سيلجأ الى التزوير الذي هو شائع في المنطقة للبقاء في السلطة؟ كل هذه الاحتمالات وارده وعلينا الانتظار.
-------------
لوس أنجلس – كاليفورنيا
29 تشرين الأول (نوفمبر) 2021

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

612 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع