مراسلات فلسفية بين القس لوسيان جميل/ تلكيف - نينوى – العراق و د. ضرغام الدباغ /برلين – ألمانيا

                                              

                       القس لوسيان جميل

مراسلات فلسفية بين القس لوسيان جميل/تلكيف - نينوى – العراق و د. ضرغام الدباغ/برلين – ألمانيا

شبكة البصرة

الأخ العزيز د. ضرغام الدباغ المحترم

Dienstag، 9. Mنrz، 2010 22:05 Uhr

 تحية خالصة وبعد...تأخرت في الاجابة على مقترحك الذي افرحني. ولكن تأخري لم يكن عن كسل او عن لا مبالاة ولكن فقط اردت ان ارسل لحضرتك مقالا آخر استكمالا للتعارف، او بالأحرى فقط لمزيد من التعارف، لاني اعتقد ان عند حضرتك اشياء فكرية علي ان اعرفها اكثر، عدا عن اختصاصك. كما لدي امور فكرية ربما تحتاج لان تعرف شيئا منها، لاسيما وانا املك منهجية لاهوتية لا تعتمد على الفلسفة بل على علوم الانسان، وهذا شيء جديد في العالم، على ما اعتقد. ربما سترى فقرة من هذه المنهجية في المقال الذي ارسله لك طيا وهو بعنوان الأصنام والصنمية. سيما وانك كنت قد ذكرت الكلمة بشكل عابر وانت تتكلم عن بعض الناس المتحجرين.

كما وادناه ارسل لك رابط آخر مقال لي على كتاب عراقيون وهو بعنوان النقطة الدالة وهو مقال كتبته بمناسبة الانتخابات ووضعته على المدونة، وطبعا يمكنك قراءة المقال الذي قبله سوف يعجبك بعنوان الجمل بدينار والقطة بمائة دينار، مقال نزل على الويب في يوم 7-3 اليك الرابط في كل الاحوال لك ما طلبت، شخصيا لا اطلب الشهرة، ولكن يهمني ان تصل اتعابي الى آخرين فيستفيدون منها.

http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=12083:2010-03-08-02-27-32&catid=4:2009-05-11-20-54-04&Itemid=5

مع دعائي لك بالتوفيق

القس لوسيان جميل

الأصنام والصنمية

القس لوسيان جميل

بما اننا نعيش في زمن التغيير والتقدم الحضاري فقد انتفت الحاجة الى الاصنام والصنمية. لذلك لا نستغرب ان نسمع اليوم كلاما غير ايجابي عن الأصنام والصنمية، كون الصنمية بكل اشكالها اصبحت علامة من علامات التدهور الايمانـي والروحي والحضاري عند البشر قاطبة، ولاسيما عند البشر الذين برعوا في مجال العلم والتفوق الحضاري.

غير ان هذا الابتعاد عن الصنمية المادية الحضارية قد تم على مراحل، قد لا تنفصل عن بعضها بشكل كامل ومطلق، لكنها تتميز عن بعضها بكل تأكيد،الأمر الذي يؤكد لنا سيرورة الحضارة البشرية وصيرورتها المستمرة، حتى داخل حقبة حضارية بعينها، هي الحضارة الوثنية البدائية، حيث نجد فرقا ملحوظا بين الحقب الوثنية الموغلة في القدم، وبين الحقب الوثنية المتأخرة.

غير ان بعض توجهات الانسان الأنثروبولوجية التي قد نحسبها توجهات وثنية، والتي تصاحب حياة الانسان في كل زمان ومكان، ليست بالحقيقة توجهات وثنية بالمعنى السلبي للكلمة، لأن مثل هذه التوجهات الأنثروبولوجية لا تعود الى حقبة حضارية معينة، لكنها تعود مباشرة الى طبيعة الانسان الأنثروبولوجية الثابتة، والى ما تقود اليه هذه الطبيعة الانسانية، على شكل حدس وجداني، من قيم وخيارات سلوكية وممارسات انسانيـة وروحية نجدها في كل الأزمنة والأوقات، حتى وان اختلفت صيغة هذه الممارسات من حضارة الى اخرى. وهكذا لا يكون تقبيل قبر الشهيد مثلا عملا وثنيا، ولا يكون تقبيل واحترام بعض الصور والأدوات المقدسة والأماكن المقدسة عملا وثنيا بل عملا انسانيا انثروبولوجيا نابعا من طبيعة الانسان الانثروبولوجية.) اضافة في 2021 ) لقد سبق لي ان رأيت على حافة ينبوع ماء في الدملماجة عند خروجنا من الموصل في طريقنا الى اربيل اناسا يعلقون اشرطة وخرق حمراء يدقونها بمسامير على حافة الينبوع . كما رأيت آخرين يعلقون شرائط خضراء على اغصان الأشجار الموجودة هناك. انا ايضا كنت احسب ذلك العمل من قبيل الخرافات والصنمية، غير ان احد الأباء قال لي : ان هذه الشرائط كلها على حافة الينبوع وعلى اغصان الأشجار تدل على الخضرة وعلى الرجاء في حياة خضراء سعيدة. ولربما على حياة سعيدة في الجنة. وبسرعة اقتنعت بما قيل لي وحفظته في ذاكرتي.

فالإنسان، في الحقيقة ليس روحا محضا، وليس جسدا محضا، وانما هو كائن حي فريد يتكون من جميع ابعاده المختلفة: الجسدية والروحية الميتافيزيقية والاجتماعية والنفسية وغير ذلك الكثير. كما ان هذا الكائن الانساني يبقى، في النهاية، كلا واحدا غير قابل للانقسام، ولاسيما وفق النظرة البنيوية المعاصرة اليه. ولذلك يكون التعبير الجسدي حاضرا في كل عمل وخيار روحي، حتى في الصلوات، كما يكون التعبير الروحي حاضرا حتى في اكثر اعمال الانسان الجسدية. وهكذا فان الكلام الفلسفي واللاهوتي والأنثروبولوجي عن الانسان لم يعد يقبل بما كان يقال عن الانسان من انه " مركب " من نفس وجسد، وانما يقال ان الانسان كائن حي متعدد الابعاد والأوجه المتشابكة والمتداخلة فيما بينها، حيث يكون كل عمل يقوم به عائدا الى هذا الكل وليس فقط الى احد ابعاده. هنا فقط اضيف الآن في 2021 بأننا في رتبة عيد القيامة لنا طقس تجوال من البيم حيث تجري صلوات الصبح والعصر ( صبرا ورمشا ) الى نهاية الكنيسة، حيث يلتف الشمامسة حول كتاب كبير ( خط يد يوضع على حمالة خشبية) وبيدهم الشموع وينشدون اناشيد القيامة. ثم يعودون ادراجهم بالأناشيد الخاصة بالقيامة. ان هذا الطقس ( وهنا بيت القصيد ) يسمى حوكايا اى رقص القيامة، انهم يعملون ما كان يعمله داود النبي عندما كان يرقص امام تابوت العهد. ولا ننسى ان كلمة الحج في الاسلام تعني الرقص ايضا. فالرقص الديني، مثل الرقص المدني وفي حفلات الزواجات يعد من الحركات المهمة التي يشترك فيها الجسد والروح. مما اعرفه في هذا المجال ان بنات كثيرات وحتى زوجات لا تقبلن ان يرقصن ماسكات يدهن او بالأحرى اصبعهن الا مع من يرضين به ويقبلن مسك اصبعهن، لأن الاصبع وهي منطقة حساسة من الجسد تأثر على القبول الروحي كثيرا. ربما الرقص الأوربي ايضا يعطي مفعولا روحيا بالمعنى الانساني مثل رقص اهل الشرق. لأن الانسان هو الانسان اينما يكون. ان رقصة التانكو على الرغم ممما فيها من مشاعر جنسية هي رقصة تثير المشاعر الانسانية الأنثروبولوجية.

يقال ايضا، وربما في الهند، او حتى في اوربا في احدى الكنائس كان قداسهم مفعما بحركات الجسد مثل الهلاهل والرقص والتصفيق وغير ذلك من الايقاعات حسب معنى الرتبة التي يصلونها. علما انه بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني صار شكل المذبح يساعد القسيس على ان يكون وجهه نحوى الشعب لكي يخاطب الجماعة، مما يغير من معنى الرتبة بشكل كامل، هذه الرتبة التي كان يعملها القسيس ومن يقدس معطيا ظهره نحو الجماعة، كان يعمل نصف التفاتة نحو الشعب او فقط كان يضع يده اليمنى خلف كتفه ويقول: السلام معكم. الشماس وحده كان يجاوب ويقول: ومع روحك ايضا، اما في قداس الأحد الاحتفالي فان الشمامسة كانوا يجيبون بنغمة معروفة : معك ومع روحك. اما الآن فان الجوقة هي كانت تجيب عن الشعب بطريقتها الخاصة، اي على طريقة نغمة مبتكرة من قبل رئيسة الحوقة. احيانا كان عازف يساعد الجوقة في الأداء. هذا في حين ان الآن يعطي القسيس وجهه للجماعة بمعني انه يخاطبهم، ليس فقط من خلال الموعظة ولكن من خلال الرتبة كلها والحركات التي تعمل فيها. شخصيا قد مررت بالنظامين، لكني عند اعطاء السلام كنت ادير وجهي نحو الشعب واقول للمصلين السلام عليكم او السلام معكم. في السابق عندما كان القسيس يعطي قبلة السلام للشماس الذي كان يصعد على المذبح دون ان يلتفت اليه، ثم يأخذ منه بركة السلام ليوزعها الى اول صف من القعود ثم يعطي كل واحد قبلة السلام الى جاره. فهذه القبلة لم تكن قبلة السلام. الأرمن كانوا يتبادلون قبلة السلام كل مع جاره او جارته. هذا وكدليل على ان قبلة السلام عندنا كانت مجرد لمسة روحية سحرية

فلم يكن يدير وجهه ليعطي هذه القبلة من يد القسيس الى الشماس ثم الى المصلين الذين كانوا يكتفون بأخذ السلام من يد الى يد من يكون بجانبه. هذا ويبدو ان قبلة السلام كانت تأخذ معاني سحرية روحانية وليس قبلة السلام والمصالحة بين اولاد اب واحد هو الله واخ هو يسوع المسيح.احيانا كان احد افراد البيت الذي كان يحضر ( او يشترك في القداس ) عندما يذهب الى البيت يعطي السلام لمن لم يكونوا قد ذهبوا يوم الأحد الى الكنيسة، خاصة بسبب المرض. في غير ذلك اعرف كيف كان العلماء يوجهون النقد الى اصحاب الصور والتماثيل ويرسمونها بوجه غربي، ثم يبيعون تلك التماثيل لكنائس في الهند او في افريقيا. في حين ان شعب تلك الكنائس لم يكن يستسيغ يسوع او مريم بشكلها الأوربي والايطالي. اما في محيطنا الشرقي فيمكن ان نتقبل اشكالا مختلفة من الصور والايقونات. لأن شكلنا عموما هو شكل اسمر يتقبل كل الألوان. فنحن كساميين، او بالأحرى كعرب، اي سكان غرب ( عرب ) البحر الأبيض ونهر الفرات لون اغلبنا اسمر، لأن مناخ مناطقنا يعطينا هذا اللون.

يبقى ان نناقش مسألة الأيقونات اليونانية- بلغارية- روسية – اليونان. ان جميع الرسامين متفقون على ان الايقونات عمل روحاني يثير مشاعر من يتأمل فيها. حتى لو كانت الأيقونة منسوخة من ايقونة اصلية. والأيقونات هكذا تلهم المتأمل فيها من معاني واضحة وصارخة وكأنما الانسان يبقى امام كائن روحي حي. ولهذا كانت قد ظهرت في تلك المناطق التي انتجت الآيقونات حركة تسمى محاربي الصور، وتعني صور الأيقونات. ويقول التاريخ بأن محاربي الصور قد اتلفوا صورا كثيرة، لكن الكنائس كانت قد اخفت ايقوناتها. ان محاربي الصور Iconoclasts كانوا يمثلون سلفية ذلك الزمان الغوغائيين.

واذن، ونظرا للتداخل المذكور بين ابعاد الانسان وبين الحقب الزمنية الحضارية، نرى ان ظاهرة وجود عامل انثروبولوجي ثابت في طبيعة الانسان قد يظهر في كل عمل من اعماله المتعددة، وفي اية حقبة حضارية كانت، كما بينا ذلك في الأمثلة اعلاه، الا ان هذا لا يمنع من ان تندس الاسطورة والمعتقدات الوثنية في حياة اناس كثيرين ممن يفترض انهم قد تخلصوا من المرحلة الوثنية من حيث خياراتهم العقلانية، سيما وان التداخل المذكور يقع بين حياة الانسان المادية وحياته الروحية الأعمق والأكمل. فقد تكون الأيقونات اليونانية باعثة في نفس الانسان مشاعر روحانية عميقة، مثل ما رأيتُ في كنيسة آية صوفيا، ومعناها الحكمة المقدسة، لقد رأيت شبابا مستلقين على ظهورهم لكي يتأملووا بالايقونات المرسومة من قبل عظماء الفنانين والرسامين مثل ميكائيل انجلو وغيرهم. غير اتن كثيرا من الشباب السياج الذي كانوا ولا زالوا يذهبون الى آية صوفيا لا تعنيهم هذا الأيقونات بشيء، لأن ما فيها يتجاوز قدرات احاسيسهم الخاصة. ولكن هنا لا تظهر الوثنية بشكل واضح.

غير اننا علينا ان نعرف انه سيبقى الناس مختلفين من حيث درجة الوثنية في حياتهم ومقسمين الى درجات لا تعد ولا تحصى، وان الخيارات السياسية نفسها لن تخلو من ترسبات هذه الوثنية، ولذلك ستبقى طموحات الناس السياسية مرتبطة بدرجة كبيرة بمقدار ما في انفسهم من هذه الوثنية ومن تابوهات. فقد يحب سياسي عملا ساسيا معينا، ولكن قد تكون محبته ناتجة عن انانية . وقد تحب نساء رهبنة مار عبد الأحد العلمانية ان اكلمهم عن مريم العذراء والقديسين ويسوع المسيح، كل خمسة عشر يوما مرة ، الا انه ظهر لي ان محبتهم لمريم وليسوع كانت مجبة وثنية انانية ومادية. ولهذا صاحت من بين احداهن وقال لي: اذن من عندنا يا ابونا. ان هذه النساء ويالتأكيد لم تكن واحدة لم يفهمن معنى ما يقوله االلاهوتي توماس ميرتون Thomas Merton بان العلاقة بين الله – القديسن – ومريم العذراء هي في ان نكون وليس ان نأخذ To be not to have يعني ان هذه العلاقة هي من اجل ان نقتدي بفضائل الله ويسوع ومريم العذراء وليس من اجل ربح مادي نعتقد وثنيا ان مريم تعطيه لنا، او ان الله يعبه لنا. طبعا ان حالة الترسبات هي اكبر عدو امام تقدم الانسان الروحي.

طبعا لك ان تتخيل ايها القاريء العزيز كم تأثرت عندما واجهتني تلك المرأة بقولها لي: اذن من عندنا يا ابونا؟ اكيد شرحت لهن وقلت: لنا واجبات واحدنا او واحدة تجاه ابن الله الآخر من مساعدة ونصح ومشاركة في الهموم وحتى مساعدة مادية ان امكن. ثم احكي لكم باختصار شديد القصة التي كنت قد حكينها لتلك النساء. قلت مبشر ذهب لقرية مسلمة. بشؤهم بالمسيحية حتى اقتنعوا. جمعهم في احد الأيام وقال لهنم: الآن وقبل ان اذهب الى قرية اخرى لأبشر فيها سوف اعمل امامكم اعجوبة اخيرة تثبتكم في ايامنك. فعمل امامهم اعجوبة كبيرة جدا، واذا يالجميع يرفعون اياديهم نحو السماء قائلين: اللهم صلي على محمد. انا ايضا كنت قد قلت لنساء الأخوة اللهم نجنا من روح الوثنية النائمة في ضمائر كل منا. غير اني لم افشل واتركهم بل واصلت معهم وكأنما لم يكن قد بدرت منهم بادرة مزعجة. ثم علمت بأن الأخوة بعد ان سافر اغلب المسيحيين الى امريكا كان قد التقى بهم مطراننا سيادة المطران ميخائيل نجيب وقال لي انهم كلهم يحبونك. والحمد لله.

نعود الى فقرات سابقة ونقول: بما ان الأمم الدينية، أي الثيوقراطيات، هي الأخرى مرحلة حضارية تتأسس على طبيعة الانسان الأنثروبولوجية، كما تظهر في حاجة حضارية معينة، فان القاعدة اعلاه تسير على هذه المرحلة ايضا. فقد بقيت معتقدات اسطورية وثنية كثيرة في حضارة بني اسرائيل مثلا، كما بقيت هذه الاساطير، في نفس انسان ما يسمى بالعهد القديم، مثلما بقي كثير من حضارة العهد القديم في نفس النظم والمؤسسات المسيحية التي يفترض انها تجاوزت تجاوزا ديالكتيكيا حضارة العهد القديم الثيوقراطية.

فهل تعود هذه الظاهرة الى ما يسمى بالترسب في الفلسفة الماركسية مثلا، ام ان هذه الترسبات تعود الى طبيعة الانسان التي يختلط فيها الجديد مع القديم، في كثير من الامور الحيوية؟ نعتقد اننا امام ظاهرة واحدة بأسماء مختلفة وبحسب مستويات مختلفة من الفكر.

فاذا كان واضحا اننا لم نتكلم الى حد الآن الا عن جانب المشاعر والخيارات الوجدانية التي تترجم بخيارات عملية معينة في مجالات كثيرة، الا اننا نعتقد ان هذا التشابك بين فعاليات الروح وفعاليات الجسد من جهة، وبين فعاليات الحياة الروحية والحياة البيولوجية والاجتماعية المختلفة من جهة ثانية، وما يمكن ان يسببه هذا التداخل من التباس، يظهر في جميع فروع علوم الانسان: ومنها المجال الفلسفي واللاهوتي، كما يظهر في الفكر السياسي ايضا، حتى ان مثل هذا " التشابك " بين المجالات المذكورة من فلسفة ومعتقدات ومشاعر ايمانية صافية وبسيطة تستطيع ان تحرك العالم برمته وتقود مرحلة حضارية بأكملها، كما يمكن ان يظهر هذا التشابك في نصوص الكتب المقدسة ايضا، اقله فيما يخص كتبنا المقدسة، كما ننظر اليها نحن المسيحيين العاملين في مجال الفكر اللاهوتي المعاصر والتفسير العلمي النقدي لهذه الكتب المقدسة، اذا كنا لا نريد ان نعمم ما نقوله على اديان الآخرين.

هذا، وبكوني قسيسا وواعظا ولاهوتيا، فقد حدث لي اكثر من مرة ان قلت للمصلين في الكنيسة ما معناه: لو كان رأسكم من زجاج شفاف وقدرنا ان نعرف بماذا تفكرون الآن وانتم تصلون، لرأينا ان طابع غالبية صلواتكم هو الطابع البدائي الوثني او طابع العهد القديم الشرائعي المبني على الخوف من الله والخوف على المصلحة المطلوبة.

افما يعني ذلك ما قلنا من ان الانسان يحمل في متطلبات نفسه كثيرا من المراحل الحضارية القديمة وسماتها، هذه السمات التي لا تحتاج الى رأس شفاف كالزجاج لكي تظهر، وانما تحتاج مراقبة الناس ومراقبة حياتهم الروحية، لكي تتم معرفة علمية اكاديمية، لكي لا نحكم على جميع الناس ونضعهم جميعا خانة واحدة. .

ولكن، على الرغم من التداخل الذي يحصل بين المراحل الحضارية المختلفة في حياة الانسان، حيث تجد اشياء قديمة مكانها في حياته المعاصرة، الا ان الصنمية او الوثنية تبقى مرحلة انسانية غادرت من زمان بعيد الفكر العالمـي المتحضر، حتـى وان وجدنا شيئـا منها في حياة بعض القبائل المعزولة عن الحياة المعاصرة، على مستوى لاهوت هذه القبائل، وعلى مستوى ممارساتهم الدينية والحياتية. وعليه نحن نسال الآن ونقول: ترى ما هو الصنم او (الوثن)، وما هي الصنمية والوثنية، وما هي مرحلتها الحضارية؟ وما معنى ان يقال بأن الناس يعودون في ايامنا الى ما يسمى مجازا بالوثنية المعاصرة؟

المعنى اللفظي للأصنام: اما كلامنا اللفظي étymologique عن الصنم او الوثن فيعتمد على تحليل لغوي يعتمد هو الآخر على نظرية ثنائية اللغة التي كان قد قال بها الأب اوغسطين مرمرجي الدومنيكي، والتي قد تبنيتها منذ زمن طويل، ليس استنادا الى ما سبق ان قاله المرحوم الأب المذكور، ولكن فقط اعتمادا على مبادئ النظرية نفسها وتطبيقاتها التي قمت بها بنفسي دون أي اقتباس الأمثلة والتفاصيل التي لم تكن موجودة اصلا فيما كان الاب المذكور قد كتبه.

ويقينا ان فكرة الثنائية هذه، اذا تم استخدامهـا بشكـل جيد وعلمي، يمكنها ان تكون بمثابة كنز عظيم وثراء يساعد أي باحث وأي مفكر، حتى في المجال اللاهوتي والروحي، على معرفة اصول وجذور معاني اللغات الجزرية ومنشئها التاريخي، فضلا عن اصل وجذر كثير من مفردات اللغات الغربية، القديمة والحديثة. وهكذا مثلا يمكننا عن طريق فكرة ثنائية اللغة ان نعرف لماذا تكلم العرب عن الجنين والجنان والجنينة والجن، عندما نعرف ان هذه الكلمات قد اشتقت من جذرها الثنائي البسيط جن او GN الذي يعني اختفى، والذي يصير فعلا آخر مختلفا بعد اضافة الحرف الثالث اليه، مع احتفاظ كل كلمة بشيء من معنى(جن) الأصلي. كما نفهم ايضا كيف ولماذا تم اشتقاق كلمات مثل عفر و صفر و قفر و نفر و زفر الخ... من الجذر الثنائي فر. فإذا طبقنا هذه الفكرة التي نراها علمية وواضحة على جميع مفردات اللغات الجزرية، ومنها اللغة العربية التي لا زالت لغة حية عظيمة، سوف نتمكن من انشاء تاريخ للغاتنا الجزرية بالمعنى العلمي للكلمة، لا بل سوف يمكننا ان نؤسس علما خاصا بمفردات، نستطيع ان نسميها علم ثنائية اللغات الجزرية، على الرغم من صعوبة تكوين هذا العلم بسبب التغييرات التي تطرأ، حسب الزمان والمكان، على لفظ كثير من الأحرف.

وعليه اذا ما اردنا ان نعرف معنى مفردة صنم سوف يكون علينا ان نفتش عن جذرفعلها. وسنجد ان هذا الفعل هو نم. (ن م) والذي يعني بات واستتر واختفى الخ... حينئذ سنميل الى القول بأن مفردة صنم اسم مشتق من فعل صَنَمَ، وأن صنم نفسه، سواء كان فعلا باقيا في القاموس ام لا، مشتق من الفعل الثنائـي نم، لتكون زيادة (ص) اصلها(س) تعني ما يأتي من فوق. ولذلك يمكن ان يعني فعل صنم، والاسم صنم، شيئا الهيا سماويا يبيت ( نم ) في هذا البروز او المعلم المادي الارضي الذي نسميه الصنم. ولنتذكر ان سنام الجمل يعنـي هو الأخر هذا البروز وكأنه يأتي من فوق ويوضع على الجمل، او ينمو فوق الجمل، وهذا اشتقاق آخر قريب من الاشتقاق الأول أي من اشتقاق الصنم للمقارنة فقط. اما كلمة ( جذر نم ) فيعني ان الاله نائم اتو مختفي في الصنم.

اما كلمة صنم idole باللغات الاوربية، فقد يكون معناها الاستدلال (ما يدل على)، بحسب تحليلنا اللغوي آنف الذكر، على الرغم من أن كلمة idole ليست كلمة من كلمات اللغات الجزرية، ولكننا نعتقد بوجود شيء من العلاقة بين اللغات السامية واللغات الهندو-اوربية عندما كانت هذه اللغات مقتصرة على الجذور البسيطة الثنائية، وكانت تلتقـي فيما بينهـا، هنا في حوض ما بين النهرين وفي اسيا الصغرى. وهكذا اذن تكون كلمة idole، جذرها دل (DL) قريبة من معنى الصنم باللغة العربية، وربما بلغات سامية اخرى، أي ما يدل على الله.

اما كلمة الوثن فتأتي بوضوح من الجذر(ثن) او(تن) التي تعني التثنية او التكرار: بمعنى ان الوثن يكرر الاله السماوي على الارض، في حين تعني الواو المضافة الـى الجذر، واصلها (باء) المعية، وكأن هذا الاله موجود (في - مع) الوثن نفسه.

اما كلمة païen الفرنسية والتي تعني عابد اصنام فهي نوع من الاستنساخ لكلمة لاتينية هي paganus. ولكن إذا دققنا النظر في هذه الكلمـة اللاتينيـة سنرى فيهـا الجذر الثنائي (Gn) Ganusالتي تعني الاختباء او الاختفاء او الاستتار، كما ذكرنا اعلاه، في حين تعني الــ ( P ) والتي هي اصلا واو او باء ان الروح او الاله مختف في الصنم.

هذا، والجدير بالذكر ان كلمة Paganus اللاتينية تعني الانسان الريفي الذي ليست له قيمة في المجتمع، او بين الطبقات الراقية، مثلما كان المواصلة يسمون اهل الريف بالفليحي او الفلاحي، رما كان كثير من المسيحيين السريان يعملون مرابعجية عند الأغوات، وكانوا يسكنون في الساحل الأيسر. من هنا كان ال باكانوس يعتبر غير مسيحي ووثني، اي كان قد بقي على وثنيته بسبب حالة الجهل التي كانت عنده.

اما كلمة فيتيش Féticheوالتي تدل على نوع من الاصنام فلا اقدر ان احدد معناها بشكل مؤكد، ولكنني اظنه يعني ما هو مخفي في مادة الفيتيش، على اساس ان الفاء تعني في وان ال طش تعني الاختفاء في اللغة السريانية التي قد تعود هي الأخرى الى لغات اقدم منها. اما المعنى الآخر الذي يمكن ان نستقيه من كلمة فيتيش فيعني ما لا يمس intouchable، أي ما لا يجوز لمسه، وهو المعنى الذي يعطى للآلهة القديمة، ولاسيما ليهوه اله العهد القديم، بدلالة الثنائي Tach الذي نجده في فيتيش، والذي يعني لمس. كما يمكن ان تعني كلمة فيتيش ما هو مبقعTacheté أي ما هو متميز، وبالتالي ما يحمل صفات الهية من خلال هذه البقع السحرية. ثم هناك كلمة تابو التي تعني من لا يجوز ( من كلمة تابو Tabou الذي يعني ايضا ما لا يمس. غير اننا، ومع بعض التردد، مختفي ) تقترب في معناها يمكننا ان نجد نوعا من التماثل بين كلمة تابو وكلمة فيتيش، اذا قبلنا ان تكون كلمة تابو نسخا، هندو- اوربيا قديما لكلمة طاوا التي تعني الصالح في اللغة السريانية وفي العربية وفي جميع اللغات الجزرية، لكي تعني الله ايضا: Le bon Dieu. علما بأن مفردات كثيرة تعني الله، باللغة اللاتينية واليونانية واللغات الاوربية ولغات شرق اسيا، قريبة جدا من مفردة تابو: الصالح والإلهي. فمفردة Téos اليونانية ومفردة Deus اللاتينية، ومفردة Tao والمفردات القريبة منها في لغات شرق اسيا، كلها قريبة من كلمة تابو و طاوا. اما كلمة طاووس الطير المقدس عند اخوتنا اليزيدية فقد تكون قريبة جدا من لفظة الجلالة باللغة اليونانية: Teos و Tao الاسيوية.

ولكن هل يمكن حصر معاني الاصنام وأشكالها المتعددة بالتعريف اللفظي للكلمات؟ بالتأكيد لا يمكننا ذلك، كما لا يمكن الكلام عنها بشكل دقيق الا بعد دراستها دراسة شاملة تخصصية، الأمر الذي لا استطيع فعله ولا وقت لي لعمله في يوم من الأيام. ولذلك سأكتفـي، بعد هذه اللمحة البسيطة لمعنى الاصنام اللفظي، لكي انتقل، بعد ذلك الى لمحة لاهوتية اكثر اهمية، لمعرفة معاني الظاهرة الصنمية برمتها. فما هو المعنى اللاهوتي للأصنام يا ترى وكيف نتكلم عن الأصنام اليوم؟ هذا ما سوف نتكلم عنه،في الفقرة التالية.

المعنى اللاهوتي للأصنام: لكي نتكلم عن المعنى اللاهوتي للأصنام اليوم لابد لنا من ان نعود الى تاريخ حياة البشر الانساني الروحي اولا. فإذا ما عدنا الى هذا التاريخ سنرى ان الأصنام ظاهرة شمولية في العالم البدائي القديم دون استثناء. غير اننا لن نفهم معنى ظاهرة الأصنام وشموليتها الا اذا قبلنا الحقيقة الأنثروبولوجية النفسية العلمية التي تقول ان " الحاجة الحضارية" الأنثروبولوجية المطلقة عند الانسان هي المسؤولة الأولى عن تقديس الانسان موضوعا او رمزا يتعلق بهذه الحاجة وعن تأليهها، بغية الارتباط الايماني بهذه الحاجة من اجل تملكها وإدخالها الى عالمه، مدفوعا بإيمان يقول له: يا انسان ان خلاصك وتقدمك هو في امتلاكك هذه الحاجة المقدسة. وهكذا تكون الأصنام خدمة ووظيفة انثروبولوجية يرى الانسان، بشكل وجداني، ان خلاصه يأتي منها.

وبما ان الاصنام كانت تجيب بكفاءة الى حاجات الانسان البدائي فقد صارت الرموز التي تمثل تلك الحاجات او تمثل معطي تلك الحاجات، رموزا مقدسة وآلهة حقيقية، لا غبار على الوهيتها، سواء كانت تلك الرموز اصناما حجرية ام كانت ظاهرة من ظواهر الطبيعة المتعددة.

ومع اني لست مؤرخا لظاهرة الأصنام عند القدماء، الا اني اقدر ان اجزم، من خلال دراساتي اللاهوتية الاستقرائية المعاصرة الخاصة، ومنهجيتي اللاهوتية المبنية على علوم الانسان، انه لم يكن في ذلك الزمان البدائي من كان يقول عن نفسه انه ملحد او انه غير مؤمن وغير مبال بالآلهة، الا ما ندر، في عهود متأخرة من تلك الحقب البدائية. فقد كانت الآلهة مكملة لحياة الانسان حقا، وبعدا مهما من ابعاده الانسانية. فالآلهة كانت طبيب الانسان وكانت مرشدته وكانت من يجلب له الطمأنينة والحظ والرزق يوما فيوم. وبما ان وظيفة الآلهة البدائية كانت العطاء العميق الذي لم يكن انسان ذلك الوقت يستطيع ان يحصل عليه بقواه الذاتية، فان هذه الوظيفة كانت مقدسة ومعبودة، لأنها كانت وظيفة يعتقد الانسان البدائي انه لا يمكنه الاستغناء عنها. ومن هنا كانت الآلهة التي يفترض انها تقوم بهذه الوظيفة، آلهة حقيقية ومقدسة بحيث لم يكن احد يتجاسر على مناقشة الوهيتها، على الرغم من اننا نفترض ان الانسان كان يميل الـى احد الآلهة دون غيره من الآلهة الأخرى، وذك بسبب تجربة كانت تقول لذلك الانسان احيانا ان الاله الفلاني اقدر على المساعدة من الاله الفلاني، كما يقال اليوم ان الطبيب الفلاني هو افهم مـن الطبيب الآخر، حتى لو كان الطبيبان يحملان الشهادة عينها. وهكذا نفهم لماذا قادت العقلانية عند الفيلسوف اليوناني الحكيم سقراط الى ان يقبل حكم الموت بالسم من السلطات الرومانية بتهمة الالحاد.

غير ان التطور البشري جعل من بعض الآلهة، ولأسباب لا نريد ان نخوض فيها، آلهة القصر الملكي او الامبراطوري، وصارت هذه الآلهة رمزا للإمبراطورية، كما صارت بعض الآلهة، بسبب هذه الصفة العظيمة، آلهة الامبراطورية القديرة بامتياز، بعد ان تحولت وظيفة الآلهة الحقيقية من وظيفة فردية او عائلية او قبلية الى وظيفة امـة وإمبراطورية، كما حدث مع كل امبراطوريات العالم في بلاد ما بين النهرين وفي مصر واليونان والصين وغيرها.

اما ما يمكن ملاحظته فهو ما نراه من ظاهرة قضاء الآلهة الكبيرة التدريجي على الآلهة الصغيرة، دون ان يزول دور الآلهة الصغيرة تماما، وفق قاعدة الترسب التي تكلمنا عنها من قبل، لكي تبقى الآلهة الصغيرة (الأصنام) ذات تأثير فردي وعائلي، بالدرجة الأولى. مع اشارتنا الى ان مثل هذه الآلهة الصغيرة باقية حتى اليوم في جميع الأديان، بأشكال وأنواع مختلفة، ولاسيما في العبادات الفردية: كأن تضع ام صورة قديس تحت وسادة طفلها لتحفظه هذه الصورة من كل مكروه، او تقوم بشفائه من مرضه.

من هنا يمكننا ان نعد ظاهرة سيطرة الآلهة الكبيرة في العهد الوثني كبداية للتوحيد المعروف، ابتداء من التوحيد الذي نجده في بلاد ما بين النهرين بشخص الالهة الكبرى، والتوحيد الذي نجده في اليونان، او نجده خاصة في مصر بشخص الالـه توت عنخ آمون، هذا التوحيد الذي قد يكون هو الذي قد اوصل الى توحيد اله بني اسرائيل، فضلا عن سبب آخر كان يكمن في حاجة بني اسرائيل القومية القصوى الى هذا التوحيد لكي يحفظ وحدة هذا الشعب المطلوبة.

غير ان المشكلة مع الآلهة البدائية، كما هي مع كل صور الاله في كافة الحقب الانسانية، هي ان الحاجة الانسانية الأنثروبولوجية والحضارية المعينة قد تنتفي عند شعب او جماعة معينة، لتحل محلها حاجة اخرى تستدعي ان يكون الاله بصورة مغايرة عن الصورة الالهية القديمة. وهكذا تعمل الحاجة الحضارية الجديدة على ازاحة صورة الاله القديمة لكي تحل محلهـا صورة الالـه الجديدة، او فلنقل ايضا انها تميت الصورة الالهية القديمة لكي تحيى عوضها الصورة الالهية الجديدة، عندما تكون هذه الصورة الجديدة اكثر فاعلية وتأثيرا في حياة الانسان من الصورة القديمة، الى الحد الذي يمكننا، من خلاله، ان نشبه ما يحدث لصور الاله المتعاقبة، بما يحدث للملوك الذين يخلف واحدهم الآخر بعد موته فيقال: مات الملك عاش الملك. أي مات الملك القديم وعاش الملك الجديد الذي يكون عادة احد ابنائه، وأيضا قريبا مما نعرفه عن تعاقب الصور المختلفة في المادة الواحدة، كما تقول به الفلسفة الارسطية.

الا اننا نشاهد ظاهرة اخرى لها قيمتها في حياة الانسان، الا وهي ظاهرة الممانعة التي تحصل عند أي انتقال من صورة الهية قديمة الى صورة الهية جديدة، حيث لا يكون هذا الانتقال بالأمر الهين، ولا هو يأتي تلقائيا وبدون اية مشكلة، وانما يحدث صراع وتململ نتيجة هذا الانتقال، وأحيانا كثيرة تحدث ايضا خسائر جسدية وروحية، في مجالات عديدة، ولاسيما في مجالات السياسة الأكثر تأثرا بأي تغيير حضاري. كما يمكن ان يؤثر التغيير الحضاري على الحياة الدينية ايضا، ولاسيما في الأديان الحيوية، وبمقدار حيويتها تماما. من هنا لا نستغرب عندما نقرأ في الأناجيل كلاما ينسب الى يسوع يقول: " لا تظنوا اني جئت لأحمل السلام الى العالم، ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا. جئت لأفرق بين الابن وأبيه، والبنت وأمها، والكنة وحماتها، ويكون اعداء الانسان اهل بيته". اما سبب هذا الصراع فقد صار اليوم معروفا: انه يعود الى الصراع بين العهد القديم والعهد الجديد الذي اخذ يطمح لأن يحل محله، الأمر الذي يعني بأن حاجة انسانية جديدة مطلقة ظهرت للعالم بواسطة يسوع المسيح، فكان لابد ان يحدث صراع بين طالبي هذه الحاجة الجديدة وبين من كانوا رافضين لأي تغيير ومكتفين بما كان العهد القديم قد قدمه لهم.

اما في العهد القديم فنجد قصة جميلة تعبر عن الصراع بين الوثنيين وبين المؤمنين بالإله الواحد، كما تجلى للناس عن طريق ابينا ابراهيم، او عن طريق موسى النبي. اما هذه القصة فهي قصة ايليا النبي وكهنة الأوثان. فهذه القصة التي لا يمكن ان تكون سوى قصة رمزية بكل تأكيد، تقول بأن " مباهلة " حصلت بين النبي ايليا وبين كهنة الأوثان من اجـل معرفـة اله أي طرف من اطراف المباهلة هو الاله الحقيقي.

اما خلاصة هذه المباهلة فكانت تكمن في ان تُعد كل جماعة ذبيحتها وتضعها على حطب، ثم يطلب كل طرف من الهه ان يرسل نارا ويحرق الذبيحة، مبرهنا بذلك على انه الاله الحقيقي. وتقول القصة بأن ايليا النبي طلب من كهنة الأوثان بأن يبدءوا الدعاء الى الهم كي يرسل ناره ويحرق ذبيحتهم. وهكذا بدأ كهنـة الأوثان يطلبون من آلهتهم بان ينزلوا النار السماوية لكي تحرق ذبيحتهم، لكن شيئا من هذا القبيل لم يحصل ولـم تستجب آلهتهم الـى دعائهم. لذلك كان ايليا يسخر من كهنة الأوثان ويقول لهم: اصرخوا اكثر، فلعل الهتكم نائمة ولا تسمع صوتكم.

فلما مل كهنة الأوثان من الدعاء ويئسوا من استجابة آلهتهم لدعواتهم تقدم ايليـا النبي وأمر الخدم بأن يضعوا الحطب ويضعوا ذبيحته فوق الحطب، كما امرهم برش الحطب والذبيحة بكميات كبيرة من الماء. ثم بدأ الصلاة قائلا: يا رب! لا اريد ان تستجيب لصلاتي من اجلي انا، ولكن من اجل اسمك القدوس، ليعرف العالم انك الاله الحق وحدك ولا اله غيرك.

وهكذا وما ان اكمل ايليا النبي صلاته حتى نزلت نار قوية من السماء وأحرقت الذبيحة والحطب والتهمت كل شيء. فأخذ ايليا النبي كهنة الأوثان اولئك، وذبحهم في احد الوديان هناك. اما هذه القصة فتفهم القارئ او المستمع عمق الصراع الذي كان قائما بين الوثنية وبين المؤمنين بالإله الواحد والمبشرين به، في ذلك الزمان الذي دخل فيه التوحيد العالم بجدية. وهكذا نرى ايضا كيف اصبحت مسألة الاله الواحد الحق مسألة بشارة وصراع، على كثير من المستويات، حتى اننا نجد في العهد الجديد، وتحديدا في انجيل يوحنا، صلاة مشابهة لصلاة ايليا النبي، حيث يطلب يسوع من اجل ان يؤمن تلاميذه بالإله الحق: الاله الاب لكل البشر، في حين انه كان قد انبأهم بأنهم سوف يقاسون كثيرا من أجل اسمه.

وفي الواقع ان كل متتبع لهذه الظاهرة التي يمكننا ان نسميها، مع مؤرخ الحضارات توينبي بظاهرة قيام وسقوط حضارات، او نسميها لاهوتيا بظاهرة قيام وسقوط صور الاله المتعددة، سوف يلاحظ ايضا، الى جانب الممانعة فـي استسلام اية صورة الهية الـى قدرها المحتوم، ان هناك امكانية تعايش اكثر من صورة الهية فـي حضارة واحدة او في حيـاة انسان واحد او مجموعة من البشر، سواء كان هذا التعايش امرا ايجابيا ام كان امرا سلبيا.

وهكذا نجد امكانية التداخل بين العهود البدائية الوثنية وبين العهد القديم الموسوي، او الابراهيمي، من جهة، كما يمكن ان نجد تداخلا بين العهد الوثني والعهد المسيحي، من جهة ثانية، وذلك عن طرق فرعية متشعبة، اجتماعية ونفسية وحضارية. كما يمكن ان نجد تعايشا بين العهد الابراهيمي الموسوي والعهد الجديد في كثير من الأمور، ولاسيما في الأمور الشرائعية والطقسية، فضلا عن الأمور اللاهوتية التي تخص وجه الله نفسه وصورته.

هذا وقد يكون مثال امرأة يعقوب مع اصنامها وعجل بني اسرائيل الذي صنعوه لأنفسهم بعد ان تأخر موسى في الجبل، من اجمل الشواهد على هذا التداخل بين العهد الوثني والعهد الابراهيمي الموسوي. اما قصة رفقة امرأة ابينا يعقوب وبنت خاله، على حد ما يقوله لنا سفر التكوين، فهي انها، هي الوثنية التي تزوجت موحدا هو ابونا يعقوب، قد اخذت معها اصنامها الصغيرة خلسة لتنقلها معها الى دارها الجديدة، حيث كان يعيش ابونا يعقوب الموحد، في حين ان قصة عجل بني اسرائيل يعني حنين الناس الى آلهتهم القديمة، حتى لو كانوا قد تخلوا عن هذه الآلهة من قبل. (نجد هاتين القصتين في سفر الخروج).

اما التداخل بين العهد الجديد والعهد القديم فيتجلى خاصة برجوع المسيحيين الى الشريعة التي كان مار بولس قد قضى عليها قضاء مبرما، وكذلك الاعتماد المفرط على التقاليد والطقوس، في حين ان الدوغمائية، أي الاعتماد المفرط على حرفية العقيدة يعد بمثابة عودة المسيحيين الى نوع من الاساطير في حياتهم الدينية، مع ان المسيحية بصفائها كانت تخلو بشكل كامل من اية اسطورة.

اما الممارسات الشعبية المسيحية فهي نموذج آخر من التداخل بين المسيحية وبين العهود الوثنية وكذلك بين المسيحية وبين العهد القديم. فضلا عن ممارسات اخرى كثيرة تأتي المسيحيين مما يسمى الخلط بين الاديان والمعتقدات syncrétisme، لا بل تأتي من الخلط بين الأمور التي تأتيهم من الايمان وبين ما يأتيهم من الأمور الحياتية والاجتماعية ومن امور الحياة السياسية ايضا. ففي الواقع قد يحدث نوع من التاليه لفكـر او سياسة او قومية او تقاليد او سلوكية لأسباب كثيرة، ولاسيما عندما تكون هذه الأمور المذكورة بمثابة حاجة حقيقية او حاجة وهمية عند الناس، حتى ان سلوكية الناس في الحالة المذكورة قد تتحول الى سلوكية براغماتية، او حتى الى سلوكية ميكيافلية، او تتحول الى سلوكية تجعل الانسان يتصرف في حياته بشكل غير واع وكأن غريزة القطيع Instinct grégaire التي يتكلم عنها علماء الاجتماع تسوقه في كل اعماله، عوضا عن مبادئه الايمانية الانسانية.

غير ان ما يحدث عادة عند الكثيرين هو العودة الى المرحلة الحضارية القديمة، سواء كانت مرحلة اليهودية ام كانت مرحلة الوثنية القديمة، هذه المرحلة الوثنية التي كانت اصلا متغلغلة في الممارسات اليهودية من بداية العهد الموسوي الى زمن مجيء يسوع المسيح، على الرغم من صرامة العهد القديم في تجنب الممارسات الوثنية.

وهكذا نلاحظ كيف عادت الشريعة بحرفيتها الى حياة الناس لفترة القرون الوسطى كلها، في حين ان هذه الشريعة لا زالت متغلغلة وفاعلة في عقول الكثيرين، حتى يومنا هذا. كما نلاحظ كيف عاد الاعتماد الميكانيكي على الطقوس كوسيلة للخلاص، وكيف عادت الدوغمائية الى حياتهم ايضا، الأمر الذي يثبت التداخل بين سلوكية الحقب الحضارية المختلفة بشكل مستمر، كما يشير الى حالة الضعف الايمانية التي تعيشها النفوس التي تجعل من حياتها مجمعا للآلهة بكل انواعها، كما كان يحصل في بانثون Panthéon اثنا.

اما في غير ذلك من الحالات فان ظاهرة اخرى وقانونا آخر يتحكم في مسألة التداخل بين مطالب الحقب الحياتية المختلفة، الا وهو قانون، او الظاهرة التي تقول بوجود فعاليات وممارسات انسانية انثروبولوجية في حياة الشعوب، تجعل الانسان يقوم بنشاط يكاد يكون واحدا في كل زمان ومكان، مع بعض التغيير الحضاري الذي يطرأ على كل صيغة بمفردها، حيث نذكر على سبيل المثال وجود الصور والتماثيل والرموز الانسانيـة فـي حياة الناس، في كل مكان وفي كل الأوقات، مع اختلاف صيغة هذه الرموز من مكان الى آخر، ومن زمن الى آخر.

في غير ذلك نبقى في القاعدة العامة التي تتكلم عن بقاء ترسبات الماضي في حياة الانسان وعن صعوبة الناس في الدخول الى عالم ايمانهم الجديد بسبب صعوبة كل جديد في حياة الانسان، وصعوبة ممارسة الخير الذي يطلبه الايمان: الخير الذي اريده لا افعله والشر الذي لا اريده اياه افعل. (مار بولس)، وكذلك بسبب بقاء حياة غالبية البشر حياة ارضية بالمعنى المادي البحت للكلمة، Terre à terre.

من هنا يكون على الكنيسة المسؤولة عن ايمان ابنائها، ان تكون ساهرة على هذا الايمان وعلى مقتضياته واستحقاقاته باستمرار دون كلل وملل لكي لا يعود الناس الى وثنيتهم القديمة. كما يكون على جميع مسؤولي الأديان ان يقوموا بهذه المهمة نفسها درءا لخطر الرجوع الى الوثنية، بعد ان يعمل مسئولو الأديان كلهم على الفرز بين ما هو انساني اصيل في حياة الانسان وما هو دخيل عليه لأسباب اجتماعية وحضارية.

علما بأن العودة الى الوثنية تصير حتمية، في حالتين: الحالة الأولى هي حالة ضعف الايمان وعدم وجود من يحاول ان يثير في قلب الناس دواعي ايمانه بصدق. اما الحالة الثانية

فهي الحالة التي فيها يصبح رجل الدين مجرد ناطور لما هو قديم دون تمييز كاف بين ما هو من الايمان حقا وبين ما هو من البشر، اعني ان العودة الى الوثنية قد يأتي من المبشر نفسه، عندما يضع ذاته وميوله الخاصة بين الله وبين من يبشرهم بالإيمان بهذا الاله.

ونحن في الواقع لو دخلنا الى اية كنيسة في العالم كله، ولاسيما في عالم الدول النامية وفي عالم دولنا في المشرق العربي، وفي عالم الجاليات الشرقية في الغرب، وقدرنا ان ندخل الى افكار الناس وطلباتهم لرأينا ان غالبيتها هي الطلبات التي شجبها يسوع: اما انتم فاطلبوا اولا ملكوت الله وبره، اما الباقي فيعطى لكم ويزاد، حتى ان الصلاة المارانية، او الصلاة الربية نفسها، كما يسميها المسيحيون، لا تسلم من التزوير الشعبي، حيث تصدق المزحة التي يقول فيها احد المصلين: ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك – لتكن مشيئتي- عوضا عن ان يقول: لتكـن مشيئتك. غير اني لا اريد ان اعمم هذا الكلام على جميع الناس وعلى جميع الأديان لأسباب لسنا بصددها الآن.

وعموما تحدث ظاهرة الخلط بين المعتقدات – Syncrétisme - وظاهرة التراوح في المعتقدات القديمة، في حالة تدهور الايمان وضعفه على مستوى المؤسسات الدينية وعلى مستوى الافراد، وكذلك عند ابتعاد الايمان زمنيا وحضاريا عن موضوعه الحضاري الأول، حيث يعمل الزمن فعله الطبيعي وحيث يحتاج موضوع الايمان الى تحديث وتأوين،Updating، Faire l'aggiornamento de l'objet de sa foi، لكي يبقى هذا الايمان يفعل فعله المؤنسن الخلاصي في حياة الناس، بعد ان يشعر الانسان وجدانيا بحاجـة حقيقية الى الموضوع الايماني الذي يمكن ان يظهر له بوسائل مختلفة، حتى وان كان موضوع الايمان هذا يختلف عما كان عليه في زمن البشارة الاولى، من حيث صيغته الحضارية وليس من حيث جوهره.

اما عندما لا يمكن للكنيسة، ان تساعد الانسان على ان يعمل عمل التأوين والتحديث المذكور، فقد يحدث ما يمكن ان نسميه موت الايمان في كنيسة معينة وبين جماعـة بذاتها، او حتى نسميه، كما سماه بعض الفلاسفة (نيتشه) مثلا، بموت الله، اعنـي موت الله في قلوب البشر وخروجه من حياتهم بالشكل الذي يستحيل على الله ان يعمل شيئا مفيدا وخلاصيا لهذه الحياة.

لذلك يحق لنا نحن العاملين في المجال اللاهوتي ان ندق ناقوس الخطر، الذي نحذر من خلاله من ظاهرة موت الروح في حياة البشر، كل البشر ومن أي دين كانوا، وبما ان الانسان ليس بعدا واحدا يمكن ان نداريه ونطمئن الى سلامته، بل هو ابعاد كثيرة متقاربة في اهميتها، فلا يجب ان نطمئن اذا ما رأينا مؤمنينا يترددون الى الكنيسة، او الى الجامع، في حين انهم يقصرون او يخطئون في أمور اهم من الذهاب الى الكنيسة او الجامع ومن ذلك المخالفات الكبيرة التي يقع فيها بعض المؤمنين، في مجالات السياسة المختلفة، كما حدث عند احتلال العراق ومشاركة عراقيين بهذا الاحتلال، بالضد من كل القواعد والنواميس الأخلاقية.

وبما ان الانسان، بصفته انسانا، بحاجة ماسة الى الله دائما، فانه في الحالة المذكورة، أي في حالة ضعف الايمان، لا يسعه الا ان يعمل له بديلا (Alibi) لله الذي فقده ويفتقده حقا. وهنا قد يكون البديل المـال او الرخاء او السياسة او الشهرة او النجاح، الى ما سوى ذلك من البدائل. اما اذا بقي الانسان دون بديل، فانه قد يقع في العبثية والسلبية والانهزام، قد يصل الى الانتحار احيانا. علما بأن البديل يتطلب عادة ان يكون بديلا للقديم الذي لم يعد الرجوع اليه ممكنا، وبين الجديد الذي يرى الانسان انه لا يقدر على تحمله، حتى يصل الانسان الى الحالـة التي يقول فيهـا ما يشبه قول ذلك المتردد الخائف من الله بسبب ما يفرضه على الانسان مـن مجهود وألم احيانا: يا روح الله لا تدخل، فاني اخاف تيارات الهواء. Esprit de Dieu n'entrez pas je crains les courants d'air

من هنا يمكننا ان نقول فعلا، كما يقول الكثيرون من الوعاظ واللاهوتيين، ان لكل انسان ولكل جماعة الهها الخاص بها وأن لكل انسان اصنامه ايضا.علما بأننا نسمع هذا الكلام اليوم، كما كنا قد سمعناه بالأمس القريب وفي كل الأزمنة، سواء كان ذلك في العهد القديم ام في العهد الجديد، باستثناء فترات الايمان الدافئة، ولاسيما عندما يكون الايمان فـي بداياته، او يكون في احدى مراحل انتعاشه، كما كان قد حدث في فترة الستينيات عند انعقاد المجمع المسكوني الفاتكاني الثاني، هذا المجمع الذي كان من شأنه ان يغير وجه الارض، لو لم تأتي العولمة وتغير مسار الاشياء كلها بالرجوع الى التقاليد القديمة البالية، بعد ان قررت الكنيسة السباحة باتجاه تيار العولمة عوضا عن ان تسبح بعكس هذا التيار، في حين لم يكن اخوتنا المسلمون، على علمنا، مهيئين لاهوتيا، اي عقليا، وليس عاطفيا، لمحاربة العولمة بشكل مبدئي وليس بشكل عاطفي.

بعد هذا كله نرى ان نتعرض لحالة اخرى تخص معرفة الانسان لله. فإذا ما نحن قمنا بتحليل الكيفية التي يتواجد الله من خلالها في حياة الانسان على ضوء لاهوتنا الأنثروبولوجي العلمي سنفهم بسهولة كيف يكون لكل انسان، ولكل مجموعة بشرية الهها الخاص بها، دون ان توجد في هذه التعددية اية مشكلة فكرية او لاهوتية، ودون ان يمس هذا الكلام بوحدانية الله، لا من قريب ولا من بعيد، وانما يمس فقط قدرة الانسان على الأخذ وعلى الاستيعاب. ولذلك ايضا تكون الحكمة التي تقول: قل لي من انت اقول لك من هو الهك، على غرار ما يقال: قل لي ماذا تقرأ اقول لك من انت، صحيحة جدا.

اما سبب هذه التعددية من الناحية العلمية فواضح: انه يعود الى كون المواضيع الروحية التي لا تقع تحت الحواس، لا تأتي عن طريق العقل، وانما تأتي عن طريق المشاعر الوجدانية. فاذا كان العقل، يوحد الأمور عادة، وعلى قدرة كفاءته، فان المشاعر الوجدانية تعطي الخصوصية والتعددية لكل شيء، ومن ذلك معرفة المقدسات. علما بأن هذه المشاعر تنتج عن الوراثة وعن البيئة وكذلك عن المجهود الشخصي، لكنها في كل الأحوال تبقى ملكا شخصيا لصاحبها، حتى وان وجدنا مجالا للمشاركات الوجدانية بين الناس، من باب ان الانسان ليس جزيرة معزولة، كما قالها احدهم، ولكنه اواني مستطرقة، فيها ما هو مشترك، وفيها ما هو مختلف بين الناس.

وهكذا يمكننا ان نتكلم هنا عن ايمان الرجل وعن ايمان المرأة، كما يمكننا ان نتكلم عن ايمان العامل وعن ايمان صاحب العمل، او نتكلم عن ايمان اهل الريف وعن ايمان أهل المدينة الخ... ذلك ان الايمان، او الله نفسه، الذي هو موضوع الايمان، انما هو خدمة ووظيفة الهية مقدسة في حياة الانسان، كما هو خدمة خلاصية كذلك، تأتي على قدر ما يستطيع انسان معين او مجتمع محدد ان يستفيد من هذه الخدمة بقبوله صورة الهية لا تزيد عن قامته الروحية الحقيقية. من هنا يمكننا ان نقول بأن لا ضير في ان يكون لكل انسان مقداره من الايمان شرط ان يبقى أي قدر من الايمان على خط واحد مع الايمان الواحد الذي يدخل العالم في كل حقبة حضارية انقلابية.

ولكن، وعلى الرغم من ان الايمان مسألة وجدانية خاضعة للتعددية فإننا من جانب آخر نجد ان الايمان يأتي على شكل قفزات ديالكتيكية جدلية موحدة، يستطيع ان يحيد مرحلة حضارية سابقة، اما تدريجيا، حتى يقضي عليها، وإما على شكل ثورة لا تخلو غالبا من الدماء، مع بقاء شيء من بقايا تلك المرحلة في نفوس الناس وفي حياتهم.

اما السؤال الذي يفرض نفسه وفق هذه المنهجية فهو سؤال يعود الى ما يسمى الاسخاتولوجيا، حيث يقول هذا السؤال: ترى ما هو مستقبل مثل هذا الاله الذي تكلمنا عنه، ومتى تنتهي عملية الصيرورة الجدلية يا ترى؟ وما هو مصير صورة الله بيننا، وما هو مصير الخدمة التي يقدمها الله لنا.

من هنا يمكننا ان نستنتج شيئا مهما يقول ان الأديان ذاتها والحضارات لا تصطدم ولا تتصارع، وانما تتلاقي على الجوهر الواحد، مع حق، وربما مع واجب احتفاظ كل دين وكل ايمان بأصالتهما، وكذلك مع حق احتفاظ كل حضارة بصبغتها الخاصة. لكي لا تكون نتيجة أي لقاء حضاري، او ديني، مخالفة لطبيعة هذا اللقاء.

اما اذا وجد هناك لقاء، كما نشاهد ذلك بين حين وحين في العالم، ومنه العالم العربي والإسلامي، مع العالم الغربي والعالم المسيحي، فذاك ما يمكن ان نسميه بالمجاملات الدينية والحضارية ليس اكثر من ذلك، هذا اذا لم يكن هذا اللقاء خداعا سياسيا فـي اكثر الأحيان. وقد تتمخض هذه المجاملة عن كثير من عملية التوفيق Concordisme، وكثيرا مما اسميناه في ما سبق من اسطر بعملية الخلط بين الأديان، Syncrétisme والتي يمكن ان نطلق عليها ايضا عملية التهجين، مع بعض التحفظ، الا ان السلبية تأتي خاصة من العملية الدوغمائية اللاهوتية التي تتصف بها غالبية الأديان، على الأقل في مرحلة معينة من تاريخها.

فالصراع والتصادم الديني والحضاري لا يأتي اذن من الحضارات نفسها ولا من الأديان، وانما يأتي من تضارب مصالح الناس وتعارضها مع بعضها. وهكذا يحول الناس اديانهم وحضاراتهم من اديان وحضارات خدمة الى اديان تسلط ومصلحة، وتتحول الحضارات والأديان نفسها، وبالضد من طبيعتها الأصيلة الخاصة، الى تابوهات وأصنام لها من يدافع عنها ويحميها حتى الموت، سواء كان ذلك من باب رد مظلمة او من باب حصول علـى امتياز شرعي او غير شرعي.

اما ما تكلمنا عنه حتى الآن عن الاصنام والصنمية فيقع في غالبيته في باب التمسك بالقديم على حساب الجديد كما يأتي في باب ما اسميناه بالبديل Alibi الذي يؤله ما ليس الها ويعبد ما لا يستحق ان يكون معبودا، من الأمور التي لا ترقى الى العبادة، حتى لو كانت امورا صالحة وشرعية، مثل عبادة المال وعبادة المرأة وعبادة الجاه وعبادة القوة الخ... لكننا الآن سنتكلم عن بعض الاصنام، ولاسيما مما جاء في الاسطر القليلة اعلاه، بطريقة مختلفة قليلا عن الطريقة التي تكلمنا بها على الصفحات الماضية.

اما ما سنقوله فلا يقع في باب الماضي ابدا. لكنه يقع في باب المستقبل خاصة، وان كان بعضه يقع في باب الحاضر ايضا، كوننا نعرف ان أي مستقبل يجب ان يكون منه شيء في الحاضر لكي يقدر هذا المستقبل ان يكون موضوعا لتطلعات الانسان المستقبلية، وذلك على شكل امل ورجاء وبشرى مستقبلية يسعى اليها الانسان من هنا الآن، وليس فيما بعد. ولذلك لم يعد امرا مناسبا ان يؤجل الانسان استحقاقاته الحياتيه الى ما بعد الموت، اقله لكي لا يقال عن الدين والتدين انه افيون الشعوب، كما سبق ان اتهمه كارل ماركس.

ومن هنا يمكننا ان نقول انه لولا المستقبل لما كان الحاضر موجودا، ولكننا يمكنننا ان نقول ايضا انه لولا الحاضر لما كان المستقبل موجودا. علما بأننا يمكننا ان نطبق هذا الكلام على كل اشكال النبوة الكبيرة والصغيرة منها، على اساس ان النبوة، وكما سبقنا ان قلنا، ليست فتح فال، وانما هي قدرة وجدانية عميقة تجعل الانسان يستشعر المستقبل وهو لا يزال بعد على قيد الحاضر، كأن يقول النبي ممثلا: ان النصر قادم، في حين يغط الآخرون في سبات التشاؤم واليأس.

وبما ان تطبيقنا العملي يقع في الدرجة الاولى على المسيحية التي بدأت تقبل بالتحليل الانساني الانثروبولوجي والحضاري فإننا سنواصل تطبيقنا هذا على ما يمكن ان يحدث اذا ما دخل العالم عالميته منذ الآن؟ مع تأكيدنا على ان العولمة شيء والعالمية شيء آخر تمامـا، وان كلامنا يهتم بالعالمية اكثر ما يهتم بالعولمة.

اما ما حدث في الواقع فهو ان المسيحية كانت نقلة حضارية ديالكتيكية وحضارية جعلت البشرية تعبر من ثقافة الأمة الدينية الى ثقافة الانسان العالمي الذي لا يرتبط بأية امة، حيث يكون الانسان، في هذه الحالة، غاية بحد ذاته ولا يكون وسيلة لأية غايـة اخرى، خارجـا عن ذاته.

والمعروف ان حضارة انسانية جديدة قد بنيت على مثل هذه التطلعات الانسانية التي تحتاج اعمارا وأجيالا بكاملها حتى تتحقق. فما نقوله، نحن اللاهوتيين المسيحيين المعاصرين بهذا الصدد، هو ان الخروج من الأمة الدينية الموسوية يتطلب تغييرا حضاريا كبيرا في وجه اله الانسان، وأن هذا التغيير قد حدث مع يسوع المسيح، مرحلة بعد أخرى، وصولا الى ما سوف نسميه الآن بالمرحلة العالمية التي تقربنا مما يسمى لاهوتيا بفكرة الاسخاتولوجيا (نهاية العالم او نهاية المرحلة).

وصحيح ان التغيير قد بدأ بيسوع المسيح الذي تحول وحول معه العالم الى فكرة ان الله اب البشر، وان البشر اخوة فيما بينهم، على اساس ان الله هو اب الجميع، وان اله موسى لم يعد يشبع البشر كثيرا ويسد حاجتهم الروحية والإنسانية، الا ان بيننا وبين المرحلة الاساسية الاولى مراحل اخرى كثيرة ظهرت لنا بيسوع الذي نسميه اليوم لاهوتيا بيسوع متعدد الأوجهPolygone. وهكذا مثلا انتقلنا نحن المسيحيين، مع يسوع المسيح ومن خلاله، من وجه اله مخلص في ازمنة المسيحية الاولــى الى وجه اله يشبه وجه الامبراطور الحاكم المتحكـم بالناس، بعد ان صارت المسيحية دينا رسميا للدولة، من خلال مرسوم امبراطوري، يدعى مرسوم ميلانو (313 م)، والذي اعلنت فيه المسيحية دينا رسميا للدولة الرومانية المتنصرة. ثم جاءت الحركة اللوثرية وبعدها الثورة الفرنسية في الغرب ليتحول وجه يسوع الى وجه سلطة كنسية تحارب به اعداءها. اما في زمن التحول الحضاري في الستينيات من القرن المنصرم، فقد تحول وجه يسوع، ومعه وجه الله، الى وجه اله الفقراء المختلف كليا عن الأوجه السابقة.

اذن هل يرى القارئ العزيز ما يحدث لوجه الله في مختلف الحقب الحضارية المختلفة؟ فاذا كان يرى معي ذلك، سوف يمكننا الان ان ننتقل الى سؤال شرعي يقول: ترى اي وجه الهي سيظهر لنا في مستقبلنا القريب او البعيد؟

وهنا لنقلها بصراحة: ان المبدأ الاجتماعي الحضاري المستند الى الأنثروبولوجيا يؤكد ان تغيير الوجه الالهي من وظيفة وخدمة حضارية معينة الى وظيفة وخدمة حضارية جديدة شيء شرعي ومقبول من الناحية النظرية، سواء كان هذا التغيير يخص وجه يسوع المتعددPolygone والذي من خلاله يمكن للانسان، فلنقل للمسيحي، ان يعرف وجه الهه الواحد الأبوي، ام كان ذلك يخص مباشرة وجه الله، ولاسيما ضمن افتراضات ما يسمى الانسان السوبرمان الذي ستختلف طبيعته (انثروبولوجيته) عن الانسان الحالي المعروف، وهو لن يكون بحاجة نظريا الى ما يحتاجه انسان اليوم.

مرحلة العالمية: ومهما انكر البعض فاعتقادنا ان ملامح الهنا الجديدة بدأت تلوح في الأفق، وان العالمية اخذت تفرض ذاتها من الآن. وطبعا يخطأ من يقيس العالمية بما يحدث الآن نتيجة العولمة الذي هو استغلال سيء للعالمية. ويقينا ان عالميتنا في الوقت الحاضر تظهر على شكل مظاهر تركز على حرية الانسان وعلى حقه في التمتع بكل امكانياته، دون ان يتعارض ذلك مع حرية الآخرين، بالتأكيد، ودون ان يؤجل الانسان حقوقه الانسانية الى ما بعد الموت. اما هذا القول فيعني سلبيا الرفض لأية هيمنة وأية املاءات وأية عبودية، من اية جهة جاءت، حتى اذا جاءت من جهة الدين. انه يعني الرغبة في تحقيق الذات الفردية والجمعية بكل ابعادها، كما يشعر بها الانسان في قعر وجدانه، وكما يعرف الانسان ذلك من خلال بعض الفلسفات القوية ومن خلال علوم الانسان بشكل خاص. ففي الحقيقة يبدو ان العالمية تقود الانسان الى ما يمكن تسميته بمركزية الانسان Egocentrisme، التي لا نفهما بشكل اناني عبثي، ولكن نفهما بشكل انثروبولوجي يدفع الانسان الى ان يحقق ذاته بكل ابعادها وإنسانه بكل اوجهه الجسدية والروحية، كل انسان حسب دعوته وقدراته، ولا يقبل بأي تسيير وأية عبودية من الخارج.

وهكذا نلاحظ ان العالمية تقودنا الى العمق الحياتي والروحي، عكس من يظن ان العالمية تسير باتجاه علمانية مارقة وبعيدة عن الله. كما ان العلمانية نفسها والتي تعني العودة الى الانسان بعد ان كانت الأمم الدينية تعود الى الله بشكل مباشر او غير مباشر، لا تتعارض مع تطلعات الانسان المذكورة، حتى بوجهها الفلسفي الوجودي، لان العلمانية هي في اساسها عودة الى الانسان والى خياراته، دون ان يعني هذا تحرر الانسان من اية مشورة يتلقاها من المجتمع، ومن الله نفسه، عن طريق اناس اكتشفوا الله قبله، من باب انثروبولوجي يقول بأن الناس ليسوا جزيرة مغلقة، وانما هم اواني مستطرقة مفتوحة على بعضها البعض.

اما الفارق بين العالمية والعلمانية فهو ان العالمية مسيرة حضارية تتحقق وفق شروط اجتماعية وحضارية خاصة، في حين لا تكون العلمانية سوى منهج حياة يبتعد عن هيمنة رجال دين يتكلمون باسم الله دون وجه حق يذكر، ويضعون انفسهم بالتالي حاجزا بين الناس وبين الههم، الذي لا يأتي اليهم عن طريق العقل والبرهان بل عن طريق المشاعر الوجدانية.

بعد كل هذا، ربما يمكننا ان نقول بأن حضارة الستينيات من القرن المنصرم هي التي تعود الى عالميتنا، في حين ان ما جاءنا منذ التسعينيات من ذلك القرن، ليس اقل من نكسة حضارية حدثت بسبب العولمة وسيطرة القطب الواحد على الأمور العالمية. اما هذه النكسة فقد اعادت العالم الى سياسة بدائية هي سياسة القوة الغاشمة المنفلتة من أي اخلاق، كما اعادته الى صنمية القوة الغاشمة، مع تأكيدنا على ان الصنمية لا توجد فقط في الحياة السياسية بل يمكن ان توجد في حياة الانسان الشخصية وحياته الدينية ايضا، وفي سائر ابعاد حياته الاجتماعية الأخرى، حيث تحدث الصنمية في أي مجال يركز فيه الانسان على بعض ابعاد حياته، دون النظر الى الانسان بشموليته.

وعليه نرى ان دخولنا في عالميتنا يتوقف على تجاوزنا مرحلة العولمة التي تجاهلت حقيقة وحدة الانسان، وتعاملت مع هذا الانسان من منظار القوة السياسية والعسكرية والمالية الغاشمة، لكي نبدأ مرحلة جديدة بأهداف الستينيات الاساسية التي لم تسمح لها العولمة بالاستمرار، هذه الأهداف التي فتحت امام العالم آفاقا حضارية راديكالية يتطلع الانسان فيها الى التحرر من كل الاملاءات القديمة بأشكالها المختلفة، لكي يصبح هذا الانسان سيد نفسه ولا يخضع لأية عبودية أيديولوجية لا يقوم عليها البرهان العلمي، ساعيا الى تجسيد هذه الأهداف في الواقع الاجتماعي والسياسي والإنساني.

وبعد هذا هل يحق لنا ان نتكلم عن مستقبل الله، كما فعلنا في نهاية كتابنا: كيف نتكلم عن الله اليوم: منهجية وتطبيق خارج الاسوار؟ نعتقد ان كل من يقرر ان يتكلم عـن الله، بحسب منهجيتنا العلمية هذه، أي من زاوية العلم الاستقرائي، ولاسيما من زاويـة علوم الانسان، سيستطيع حقا ان يوافقنا على ما ذهبنا اليه، ضمن تاريخه الروحي الخاص...اضفنا بعض ملاحظات ووضعنا بعض الأضافات اليوم وضعنا Gloses

والله الموفق.

القس لوسيان جميل

تلكيف- محافظة نينوى- العراق

 الجزء الثاني من دباغ

لا يهمني كثبرا على الرغم من اني قرأته

من اجل معرفة ما كتب لي الدباغ لأن وجهة نظره شاملة ومهمة

المقال كله كان كما في ادناه

 

برلين : الأول من آذار/2010

أخي وصديقي العزيز الاستاذ جميل

لك مني تحية من برلين التي بدأت الثلوج بالأنقشاع عنها بعد أن عانينا الأمرين من البرد القارص وصعوبة في المواصلات.

صديقي العزيز، مداخلتك التي أرسلتها لي في خطاب رائعة حقاً، أشكرك عليها كثيراً. ولعلك لاحظت أن مقالتي أو البحث الذي نشر في العديد من المواقع وربما الصحف، كانت مقتصرة بدرجة رئيسية على مفهوم الحق السياسي/الفلسفي، ولطالما أرتكبت الجرائم بأسم الحق، وصودرت حريات وأنتهكت حرمات، وغالباً ما أدعى مرتكبوا هذه الجرائم والأنتهاكات، أنهم يفعلون ذلك بأسم القانون المؤسس على حق لا تقره شرائع سماوية ولا وضعية(من تشريع الإنسان)، وأردت أن أبعث برسالة للكثيرين من القراء أن: الحق فكرة راودت أحلام الفلاسفة والمفكرين، والمناضلين على حد السواء،.

ولعلك تذكر الصورة الشهيرة الثائر الأرجنتيني الأصل، أرنستو تشي غيفارا الذي لقى مصرعه في النهاية في مجاهل أدغال وجبال بوليفيا دفاعاً عن حقوق شعب لا يعرفه ولكننا لا بد من أن نقر أن الإنسان أخو الإنسان أينما كان وحيثما وجد، الأخوة في الإنسانية، لأننا إذا نزعنا الإنسانية عن الضمائر، فبنو البشر يتحولون إلى وحوش كاسرة.

أقول صورة غيفارا شبهها أحد الفنانين الكبار بأن له وجه قديس، ولا أعرف مدى صلاحية التشبيه، ولكن غيفارا بسيرته النضالية، هي أقرب لسيرة القديسين الذين يذهبون ضحية لمبادئهم، وأعتقد أن تاريخ الديانتين المسيحية والإسلام زاخرة بأمثلة رائعة على هذا الصعيد.

أخي العزيز، لا شك أنك على أطلاع تام، أن المسيحية عندما دخلت أوربا بعد نحو 150 سنة من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وروما لم تصبح مسيحية إلا بعد نحو 350 ميلادية عندما أتخذتها روما كديانة رسمية لها، أما الفاتيكان فلم يتأسس إلا في القرن الثامن الميلادي، ولم تكتمل مسيحية أوربا إلا في القرن الثاني عشر، وعلى هذا النحو، فأن المسيحية على خلاف الإسلام حلت في أرض كانت الفلسفة والأفكار فيها قد قطعت شوطاً بعيداً وأكتسبت نضجاً عالياً، لذلك فإن الكنيسة كانت تشكو بأستمرار وجود أفكار وثنية أو غير موحدة، وظلت هناك هوة بين الفلسفة والدين(الكنيسة) وقد حاول فلاسفة رهبان أن يجسروا الهوة بين الدين والكنيسة ولكن بدون نجاح كبير، وأشهر من قام بهذا كان الراهب اللاهوتي توما الأكويني.علما ان الديانة

الإسلامية بدورها قد أشتكت من إقحام الفلسفة في الرؤيا الغيبية، وأطلق على من حاول تلك المحاولات بالدهريين، لا شك أنك مطلع عليها، يا سيد ضرغام.

أخي الفاضل، دعني أقترح عليك أقتراحاً مفيداً، وهو أن تسمح لي بنشر مقالتي في فلسفة الحق، ومداخلتك الرائعة، وخطابي هذا في اية مدونة، فأغلب الظن أنه سيكون له ردود فعل إيجابية، وربما سيدفع عددا من القراء إلى ولوج هذا العالم الرحب، فيكون لك ولي الفضل في إطلاق هذه المبادرة الفكرية الإيجابية.

أتمنى أن تكون بصحة جيدة وتتحفنا بآرائك الممتازة

تقبل أصدق تحياتي، ولكن بدفء الوطن العراقي الرائع، وليس ببرودة ألمانيا المثلجة.

ضرغام الدباغ

مداخلة ضرورية في فلسفة الحق

د. ضرغام الدباغ - برلين

خلال الأعوام العشرون، ما بين أعوام 369/389 قبل الميلاد، كتب أفلاطون(427ـ 347 ق.م) وهو أحد أبرز فلاسفة الإغريق، مؤلفه الجمهورية، الذي يكاد يجمع علماء السياسة الغربيون على اعتباره الركيزة الأساسية الأهم في علم السياسية، وعليه تأسست أفكار لاحقة سواء في الفلسفة الأوربية قبل وبعد الكنيسة الأوربية، أو الفلسفة في عصور ما قبل النهضة وما بعدها.

لسنا بصدد دراسة ومناقشة أفكار أفلاطون، بقدر ما نريد هنا التركيز على مبادئ فلسفة الحق التي أستوحى الكثير من علماء السياسة في عصر النهضة وما بعدها أفكارهم السياسية وبنوا عليها، بل تذهب المراكز الثقافية الغربية إلى اعتبار أفكار أفلاطون أساساً شيدت عليه صرح الفلسفة في العصور اللاحقة، وأن الفلسفة الغربية برمتها ما هي سوى حواشي لأفكار أفلاطون.

والأفكار الأساسية، أو لنقل بدايات الفلسفية التي بحثت في مفاهيم السياسية والاجتماع لقت تطويرها فيما بعد على يد أفلاطون، إنما كانت نويات متناثرة، فقول الفيلسوف تراسيماخوسThrasymachus " أن العدالة ليست إلا مصلحة القوى، إذ أن الطبقة الحاكمة في كل دولة هي التي تضع القوانين التي تراها أحفظ لمصالحها، والطبيعة هي حكم القوة وليست حكم الحق" ويذهب فيلسوف آخر هو كاليكلس Callicales إلى اقرب من ذلك بقوله " أن العدالة الطبيعية هي من حق الرجل القوي، وأن العدالة القانونية هي ذلك الحاجز الذي تقيمه جماعات الضعفاء لحماية أنفسهم" (1)

أما سقراط (ولد عام 470 وتوفي 395 ق.م في أثينا)، وكان أول فيلسوف يرجع إليه الفضل في جميع هذه الحبات المتناثرة ومحاولة صياغتها في إطار فلسفة واضحة، فقد حاول من خلال محاوراته مع تلامذته بصفة خاصة، الارتقاء بمستوى الفلسفة، وتلمس المناهج من أجل التوصل إلى ذلك، ولكنه سقط ضحية الوشاة، فحكم عليه بالإعدام بتناول السم، فأمتثل تعبيراً عن احترامه للقانون وإن كان جائراً، فلم يخلف أثراً كتابياً، ولكن تلميذه أفلاطون ضمن مؤلفاته أفكار أستاذه.(2)

وتمثل العدالة والأفكار المتصلة بها، المدخل لأفكار أفلاطون، وهي بتقديرنا هي حجر الأساس الذي أنطلق منها أفلاطون ليشيد فلسفته السياسية، وستكون العدالة، موضع بحثنا هذا ومحور أفكاره. فيذكر أفلاطون في تعريف أولي للعدالة: " العدالة هي أن يرد للإنسان ما هو له "(3)، أي أن العدالة أن ترد لمن سلب منه أموال منقولة أو غير منقولة، أو أمر معنوي، ثم يمضي أفلاطون، ليتوسع في مفهوم العدالة ويضع له ملحقات بقوله: " أنه نفع الأصحاب ومضرة الأعداء ". ثم يقول العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء وإلحاق الضرر بالأعداء الأشرار.

بيد أن أفلاطون ما يلبث أن يتجه صوب واقعية يمنحها الشرعية، بصرف النظر عن قاعدة رد ما سلب لأصحابه، بقوله: العدالة هي مصلحة الأقوى، والحق للقوة (4).

وأفلاطون الذي وافق قبل سطور بالأمر الواقع ومنح القوة شرعية الإرغام، يقول: إن الإضرار بالإنسان يجعله أكثر شراً وأقل عدالة. وهو بذلك يقول أن قوة الإذعان لا تملك القوة الشرعية. ثم يصل أفلاطون إلى ذروة الازدواجية في التفكير بقوله: إن التعدي يلد النزاع والانقسام، أما العدالة فتؤدي إلى الأتساق والوئام، وأن التعدي يقضي على كل ميل إلى الاتحاد في العمل بين الأفراد والجماعات، لذلك كان التعدي عنصر ضعف لا قوة ".

ثم يعود أفلاطون ليقبل بذرائعية جديدة، قوله: " إن إطاعة الحكام هو العدالة "(5)، في إشكالية ما برحت تمثل نقطة ملتهبة في الفكر السياسي، كانت ولما تزال مسألة لم تجد حلها في الفكر السياسي القديم والحديث (عدا نظرية العقد) ولكنها في الفكر السياسي الديني لا يضع الإجابة لتساؤل مهم في واقع الحياة السياسية: ماذا نفعل للحاكم الجائر، سواء كان ملكاً، أو رئيساً أو إماماً.

وكانت الفضائل، ومنها العدالة فقد كانت عند أفلاطون المدخل إلى سائر الموضوعات السياسية والاجتماعية في فلسفته وأفكاره الشاملة.والفضائل عنده:

1. الحكمة.

2. الشجاعة

3. العفاف، امتلاك أعنة الرغائب واللذات.

4. العدالة (6)

أما العدالة، فهي الفقرة التي تحتل الاهتمام الأكبر في فكر أفلاطون لعلاقة ذلك بالدولة والمجتمع والناس، فهو يعبر عن وصفه أو تعريفه للعدالة ويتفلسف في ذلك ويقلب الأمر على شتى جوانبه ويعض آراؤه عن العدالة بقوله " أن العدالة هي أن يرد للإنسان ما له" وأنها" نفع الأصحاب ومضرة الأعداء" ويعرف الأصحاب تعريفاً اجتماعياً واسعاً " والأصحاب هم الذين نعتقد فيهم الأمانة والصلاح" ثم يصبح أكثر تحديداً بقوله " العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء ومضرة الأعداء الأشرار" و " أن الإضرار بالإنسان يجعله أكثر شراً وأقل عدالة" (7)

 

ولكن أفلاطون، وذلك شأنه في مباحثه، لا يعرف الاستقرار، بل يبدو وكأنه يحاول أن يبلور بحراً زاخراً، ولكنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً إلا لماماً، فتراه يتحول بين الموضوعات بسرعة، في هذا يكتب " العدالة هي مصلحة الأقوى أو الحق للقوة " ثم أنه يعود ويذكر خصال العدالة وكأنه يعظ الحكام إذ يقول " إن التعدي يقضي على كل ميل إلى الاتحاد في العمل بين الأفراد والجماعات، لذلك كان التعدي عنصر ضعف لا قوة " (8)

والعدالة عند أفلاطون مرتهنة بالقدرة على الحكم وفرض الأمر الواقع، بما في ذلك سنن الحكومات الدكتاتورية والاستبدادية حيث يجدها أفلاطون عادلة طالما صادرة عن الدولة عن الدولة الحكومة فيكتب " أن شرائع كل حكومة مصاغة في قالب يضمن فائدتها، فشرائع الديمقراطيين ديمقراطية، وشرائع الأوتوقراطيين استبدادية، ومعنى ذلك أن في كل ذلك منفعة الحكومة هي العدالة"(9)

ورغم أن أفلاطون لا يريد أن يربط أفكاره بالدين كثيراً، ولكنه كما ناقض نفسه في كتابه الثيتس، يناقض نفسه مرة أخرى في مؤلفه الجمهورية بقوله " إن الإشهار بالعدالة يؤدي بأصحابها إلى فوزهم برضا الآلهة ونيلهم سعادات لا توصف تسبغها على الناس" ونراه من جهة أخرى يقول " أن طاعة الحكام هو العدالة " ثم يعود ليقول " إن مخادعة الآلهة والتغلب عليها مستحيلان " (10)

ثم أن أفلاطون يبذل اهتماما كبيراً بالحاكم وشخصيته ومؤهلاته وقدراته الفكرية الفلسفية قبل كل شيء. فالحاكم عنده شخصية مقدسة وإن كان لا يعبر عن ذلك حرفياً ولكن بقوله " الحاكم راع والشعب رعيته"، ثم ذكرنا اعتباره أن طاعة أمر الحكام هي العدالة، يتطلب من الحكام صفات كثيرة تقع الفلسفة في مقدمتها " فالحاكم الكفء في عرفنا فلسفي النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المراس" وكذلك قوله " يلزم أن يكون من أكبر أعضاء الجسم الاجتماعي سناً، وأوفرهم فطنة وأعظمهم جدارة وأعرقهم وطنية وأقلهم أنانية، هؤلاء هم الحكام الحقيقيين " ولكن أفلاطون مع ذلك، ويبرر ذلك بمصلحة الدولة، يقبل أن يمارس الحاكم الكذب مع أنها من صفات الرذيلة " فإن جاز الكذب لأحد فللحكام فقط في مخادعة الأعداء، أو في أقناع الأهالي بما هو خير للدولة " (11)

وتستحق الملاحظة هنا: أن العدالة وضرورة تحقيقها، والسعادات وأهميتها وجدلية الحوارات، قادت بالضرورة، وربما دون قصد مباشر من أفلاطون، ولكن بداهة إلى فكر قيادة الهيئة الاجتماعية المولجة بتحقيق هذه الشعارات الأخلاقية/المعنوية، بالإضافة إلى ضروراتها المادية بتقسيم العمل ضمن أفراد المجتم

أما أرسطو، فلئن أتفق مع معلمه أفلاطون من حيث ضرورة إيجاد هدف أخلاقي باعتباره الغاية الأسمى للدولة، ثم أنه يصل إلى أن الهدف الحقيقي للدولة ينبغي أن يشمل ارتقاء مواطنيها خلقياً، لذلك فقد تضمنت كتابات أرسطو في معظمها ليس سمات وشروط الدولة المثالية، بل المثل العليا التي ينبغي أن تحافظ عليها الدولة.، فالمثل الأخلاقية العليا هي عند أرسطو من الغايات الأساسية التي تقوم من أجلها الدول تلك المثل التي من بينها العدل وأخرى: كسيادة القانون والحرية والمساواة بين المواطنين والنظام الدستوري (القانوني) وهي عنه السبيل الأهم لبلوغ الغايات التي من أجلها تقوم الدولة.

ويوافق الأستاذ جورج سباين(ومع أنه قليل الاعتبار للعوامل الاقتصادية) أن دوافع التغيرات والإصلاحات هي في جوهرها اقتصادية، فقد يدور البحث عن أنظمة واتجاهات ومبادئ سياسية، ولكن الشأن الرئيسي هو اقتصادي، إذ يقول الأستاذ سباين وهو من مشاهير علماء السياسة المعاصرين، " وكان مدار البحث هو: هل تدور أرستقراطية قوامها الأسر العريقة المالكة للأرض، أو ديمقراطية قوامها المصلحة المتصلة بالتجارة الخارجية وهدفها تدعيم قوة أثينا في البحار؟ وقد فاخر سولون بأنه قصد بتشريعاته، المعاملة العادلة بين الأغنياء والفقراء".(12)

ومن الضروري الإشارة ولو على نحو سريع إلى مصدرين، كانا على الدوام محور أفكار العلماء والفلاسفة وهمت: الطبيعة، وهي القوانين الإلهية التي يأمر بها الرب عن طريق ممثليه. والأعراف، وهي ما تعارف الناس عليه من نظم كتقاليد غير مكتوبة إلا أنها ثابتة ومحترمة بصورة جماعية أو شبه جماعية، وهي الأخرى اكتسبت قوة القوانين، فجرى تدوينها كذلك أو بقيت عرفاً معروفاً يجري تداوله واحترامه بوصفه ضرورة أحكام جرى الاتفاق عليها اكتسبت قوتها من خلال موافقة المجتمع عليها والعمل بأحكامها. فتلك كانت أيضا واحدة من المعضلات التي واجهت المفكرين والفلاسفة. ومن ثم فإن القوانين على اختلافها ومنها القانون الأساسي(الدستور) والمفاهيم المتصلة به، كانت موضع اجتهاد المفكرين والفلاسفة، وموضع مجادلات ومناقشات لا نهاية لها.

وعلى هذا النحو، فقد اعتبرت مفاهيم عديدة هي من قبيل القوانين الطبيعية كالمساواة والعدل فأخذوا يتفلسفون بها ويذهبون مذاهب شتى، وغاصوا في قوانين الطبيعة حتى غدت جزءاً أساسيا من الفلسفة السياسية وما برحت الحقوق الطبيعية، والقوانين الطبيعية، والأعراف والقوانين الوضعية(تلك القوانين التي وضعها الإنسان) بؤرة تثير المناقشات والجدل في الفلسفة السياسية وعلى مدى القرون.

وأفلاطون وأرسطو، أعمدة الفلسفة، أعتبرا أن: طاعة أمر الحكام هي العدالة، والعدالة هي الحق، وعلى هذا المنوال عمل فيما بعد أيضاً الفلاسفة في العهد المسيحي، فالمسيحية التي تعرضت للقمع بوصفها حركة فقراء، والفلاحون والفقراء يساندون أي حركة تحمل في أفقها العدالة، أملاً في تغيير أوضاعهم البائسة ورفع الظلم الواقع عليهم، وفي أول حلولها في أوربا تعرض دعاتها على الأوائل للاضطهاد والتعذيب والتصفيات الجسدية، لكن ما لبثت أو وجدت الدولة الرومانية أن الديانة المسيحية قد تكون عاملاً يشد أرجاء الإمبراطورية من جهة، ويمنحها (حقاً) إلهياً بالتدخل والتبشير الاستعماري، وذلك تم حين اعتمدت الدولة الرومانية المسيحية ديانة رسمية في العام 350 ميلادية، فأصبح رجال الدين (الكنيسة) وجهاء في المجتمع الروماني، ما لبثوا أن أصبح لهم جزء من السلطة والسلطان في الدولة، بل صاروا يتقاسمون السلطة مع القياصرة والأمراء، وتناسوا العدل الذي بشروا به في بادئ الدعوة.

والانفجار المدوي ضمن الكنيسة، تمثل هذه المرة ليس باتجاه توفيقي Compromise ضمن الكنيسة، بل في حركة سيكون لها أبعادها الفكرية المهمة وستكون لها انعكاساتها السياسية والاجتماعية، فهم أطلقوا على أنفسهم " حركة الإصلاح الديني " Reformation " وأطلق عليهم آخرون "بروتستانت" Protestant، أي المحتجون، (مصدرها الاحتجاج)،Protestanion باعتبار أن قائد الحركة الإصلاحية أعلن في بيانه الشهير: الاحتجاج على قرار طرده من الكنيسة الكاثوليكية، وكان ذلك في مطلع القرن السادس عشر 1517، وقد سميت الحركة أيضا بالحركة اللوثرية، مستخدمة هذه التسمية من قائد الحركة، رجل الدين الألماني مارتن لوثر Martin Luther 1483 ـ 1546.

ومثل هذه الأتجاهات تتكرر في التاريخ، فعندما أشعل مارتن لوثر أوار الثورة في الكنيسة الكاثوليكية، أعتمد على بادئ ذي بدء على الفلاحين والفقراء في انتفاضته ضد طغيان الكنيسة الكاثوليكية ومقرها البابوي، حيث كان الأمراء والقياصرة موالون للمقر البابوي لاكتساب شرعية هم بحاجة لها يستقوون بها بوجه أمراء الإقطاع. بيد أن تطور الحركة اللوثرية قاد في مفرداته إلى تناقضات بين بعض القياصرة الأمراء وأمراء الإقطاع من جهة، والبابا وسلطة الفاتيكان من جهة أخرى، بعد أن تعاظمت مطالب الفاتيكان، ولا بعد استيلاء الكنيسة على أفضل الأراضي، وتحولوا إلى قوة مادية إضافة لقوتهم الروحية، فشق العديد من القياصرة والأمراء الساخطين القلقين على نفوذهم، شقوا عصا الطاعة على البابا والفاتيكان، واستعانوا بمارتن لوثر كحركة دينية مضادة للبابا، ليكتسب الانشقاق في الكنيسة النفوذ والقوة. وكانت هذه عاملاً مؤثراً في تحول لوثر من نصير للفلاحين والفقراء، إلى مناصر للأمراء والقياصرة، وخذل الفلاحين في ثورتهم ضد طغيان الإقطاع اليونكرز المتحالفين مع القياصرة وأمراء الأرض. عندما أكد مارتن لوثر في تعاليمه الدينية: لا يجوز للمسيحي مطلقاً عصيان القيصر والأمير.

وعندما آلت السلطة السياسية نهائياً إلى أيدي البورجوازية، في أعقاب أحداث هامة شهدتها أوربا(ولم تكن أميركا بعد ثمة أهمية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية بعد)، كانت البداية في هولندة ثم في بريطانيا وبعدها في فرنسا، كنتيجة طبيعية لعصر النهضة (Renaissance) والتنوير، الآثار الحاسمة للثورة الصناعية.

ولكن الكنيسة، الممثلة للمؤسسة الدينية التي كان نفوذها قد غدا سياسي واقتصادي، إلى جانب الثقافي والاجتماعي، وبوصفها احتكرت لقرون طويلة (حق) التفسير والتأويل، ومنح الشرعية وحجبها، في علاقة بينهم وبين الحكام (ملوك وقياصرة وحكام، وربما حتى طغاة)، خضعت لظروف تاريخية، حتى بدأت تتلاشى بعد عصر النهضة والتنوير، والثورة الصناعية.

إذن من يمتلك الحق...؟

تعرضت مفاهيم الحق الفلسفية الأفلاطونية وشرائع القوانين الرومانية إلى اهتزازات، عندما فرض عبر التاريخ الطرف القوي، أو من يمتلك أسباب القوة، أسس الحق، بل وأكثر من ذلك، فالقوانين التي صاغها الأقوياء والمتحكمون بالسلطة، جرى تفسيرها وتأويلها وفقاً للمصالح الخاصة لتلك الأطراف القوية، وفي العصور اللاحقة، حدث ذلك بمزيد من إضفاء فنون الغش والتدليس والخداع على نحو غير مسبوق.

ثم جرى كما هو معروف تفسخ التحالف بين الملوك والكنيسة وأمراء الإقطاع، ولكن ذلك جرى بشكل تدريجي وعلى وتائر مختلفة في الدول الأوربية، وعندما حل عصر الدول البرجوازية الدستورية، في هولندة أولاً ثم في بريطانيا، ثم في فرنسا، ومتأخراً في ألمانيا، وتلك كانت تطورات مترافقة مع عصر النهضة ثم عصر التنوير، وأخيراً الثورة الصناعية وحقب الحملات الاستعمارية، وكانت العلاقات الدولية قد دشنت مرحلة جديدة بانقضاء الحروب النابليونية وآثارها السياسية في أوربا، وتلك مرحلة سادت فيها التحالفات والمعاهدات بين الدول من أجل تشكيل قوى سياسية مؤثرة في أوربا، لم يكن الحق فيها سوى دهاء الدبلوماسية السرية، لعبت بريطانيا فيها الدور الأهم، في تطمين مصالحها في القارة التي يفصلها عنها بحر الشمال.

عصبة الأمم لم تكن إلا منظمة الأقوياء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، أباحت بشكل علني الاستعمار (كحق) في نص مشهور: حق الأمم القوية الأخذ بيد الأمم الضعيفة نحو التقدم. وكانت حقوق الشعوب يجري التداول بها أروقة المنظمة بما يشبه التعامل في أسواق البورصة(أسواق السندات والأسهم).

في العلاقات الدولية المعاصرة، أثارت المسألة العراقية وما زالت تثير الكثير من المناقشات الجادة حول جدوى القانون الدولي، والأمم المتحدة، وحقوق وضمانات الدول، وسلامة الكيانات السياسية، وكيف أستطاع حفنة من الرجال انساقوا وراء أهوائهم وقناعتهم الشخصية، أن يقودوا بلدانهم إلى حروب دموية أفرزت نتائج كارثية على كافة المستويات، وهذا الأمر لم يعد سراً ليس بعد كشف التحقيقات السرية والعلنية التي أجريت في بريطانيا والولايات المتحدة، من أن الحرب ضد العراق كانت محض ألعاب مخابرات بعيدة كل البعد عن قواعد إدارة العلاقات بين الدول والقوانين الدولية، حرب لها أكثر من بعد واحد أشعلت نيرانها ولم تنطفئ بعد، لا علاقة لها بالقانون، ولا بشرائع هم أقروها ولا بضمير الإنسانية والرأي العام... القوة ليست الحق، والقوة يمكن أن تستخدم بصورة بعيدة عن العدل والأخلاق..

وثمة حقائق أخرى فرضت نفسها في هذا المجال.

الدول الكبرى، امتلكت من وسائل القوة، ما يجعلها تستغني عن الحجج والإقناع والاحتكام إلى قواعد القانون الدولي وشرائع العلاقات بين الدول والأمم، وقبول مبدأ أن للآخرين مصالح ينبغي احترامها. وأصبح الحق محصور بما تعتقده وما يتلاءم مع مصالحها الاقتصادية والسياسية. والحروب التي دارت في القرن العشرين أبرز مثال على ما نذهب إليه. ولا نعتبر الحربين العالميتين الأولى (1914 ـ 1918)، والثانية (1939 ـ 1945) فقط، بل وكذلك الحروب الكثيرة التي جرت في القرن العشرين والتي لم تكن سوى حروب اقتسام العالم بين الأقوياء، أهمها حرب كوريا، والحرب الفيثنامية، الصراعات في جنوب شرق آسيا، وحروب شبه القارة الهندية، والحروب العربية/الإسرائيلية، وحروب التدخل في أميركا اللاتينية، بل يمكن الجزم أن الصراعات المسلحة بصفة عامة، لم تكن إلا نتائج جانبية للتنافس بين القوى الكبرى، ذلك أن جذور بؤر التوتر تكمن بهذه الدرجة أو تلك في أيدي القوى العظمى التي تحتكر القوة، وبالتالي تحتكر الحق، وفيما ينبغي أن يكون وعلى أية صورة.

تلك كانت مرحلة استطاعت الدول القوية فرض الحق وتكيفه بل وحتى وضع الصياغات القانونية له، وتأسيس مراحل وفق تصورات خاصة، لا علاقة لها بمبادئ فلسفة الحق(الحق هو فيما تمتلك، وليس فيما تستولي عليه)، بيد أن الجديد هو أن تلك القوى العظمى، وبكل ما تمتلكه من قوى مادية لم تعد قادرة على فرض منطقها وفرض مصالحها، وأن ذلك يبشر بفتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية.

 

فعلى سبيل المثال، كانت القوة الهولندية المتواضعة، كافية لتحتل الهند أو أجزاء منه في بداية حقب الحروب الاستعمارية التي كانت نتيجة للثورة الصناعية، ثم انتزعتها بريطانيا بالقوة أيضاً، ولكن هولندة الصغيرة استقرت في بلد كبير مثل أندنوسيا فترة طويلة، ورحلت عنها عندما هبت رياح التحرر بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل وعي أنتشر بين شعوب المستعمرات، ولكن أيضاً بفعل حقيقة كبيرة هي وجود المعسكر الاشتراكي المناصر لثورات الشعوب مادياً ومعنوياً، والهزيمة الأخلاقية للاستعمار الكولونيالي المباشر الذي بدا هو بذاته متخلفاً، هبت الإمبريالية الأمريكية للحلول محله بأساليب عمل جديدة، في إطار تغيرات شاملة ضمن المتربولات الرأسمالية، وتطور كبير طرأ على نظام دولة الاحتكارات الرأسمالية، من أبرز مظاهره، هزيمة المحور الفاشي، وتصدي الولايات المتحدة لقيادة العالم الرأسمالي، وصياغة اصطفاف لمواجهة حركات التحرر والقلاع الاشتراكية والحركات العمالية المناهضة للرأسمالية في الدول الرأسمالية نفسها.

 

ولكن ماذا جرى... فقوة الولايات المتحدة المعززة بتفرد وفرض هيمنة لا سابقة لها في تاريخ العلاقات الدولية، حيث تغزو جيوشها وتجتاح دولاً صغيرة، تفتقر في معظم الحالات حتى إلى الأسلحة المتوسطة، ولكنها تعجز عن احتلالها، بمعنى فرض أرادتها السياسية. رغم أنها تنصب حكومات تابعة لها وتوفر لها الغطاء السياسي الدولي، وتقود زعماء وقادة تلك الدول إلى(محاكم) وتشكل (محاكم) جزاء دولية لتحاكم من يتمرد عليها، فيما تمنع هي عن قبول حتى مبدأ خضوع أفراد من قواتها المسلحة للمسائلة القانونية، هكذا تفهم هذه الدول الحق والحقوق في عصر الإمبريالية الجديدة التي يطلق عليها بالعولمة.

 

ولكن هذه القوى العظمى رغم امتلاكها هذه القوى الخيالية، وامتلاكها (حق) إسكات الضمير الإنساني، ومنصة القضاء الدولي، وتقود جيوشاً عالمية، أرغمت دولاً مهمة على الانصياع لأرادتها والانتظام في حملات عسكرية جرارة، لكنها تعجز في النهاية عن تحقيق نصر... سياسي أو عسكري، وتتحول تلك الحروب الباهرة إلى مآزق لا تدري كيف تنجو بنفسها منه.

 

يقول المستشار الألماني الأسبق، الحكيم هيلموت شمت: وبالنسبة لنا سواء في أفغانستان وكذلك في العراق قد أظهرنا، أن الأمريكان وحدهم قادرين على كسب أي حرب يخوضونه، ولكنهم في النهاية لن يستطيعوا بمفردهم أن يحققوا الاستقرار أو حتى السلام. وقد تبين ذلك من خلال زيارة بوش الأخيرة في الأسبوع المنصرم(فبراير ـ 2005) أنهم لم يعودوا يحتملوه، وإن كانوا قد توهموا ذلك. ويبدو لي، أن الرئيس بوش الابن وإدارته يقفون أمام عدد كبير من الخيارات والقرارات، والمثال الأول: أنه لا توجد استراتيجية أمريكية مقنعة أو معترف بها حيال النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وكذلك لا توجد استراتيجية واضحة حيال العراق.(13)

 

ومداخلة المستشار الألماني هذه يعود تاريخها إلى فبراير/2005، نضيف عليها الآن مأزقاً جديداً هو المجهول الذي دخلت فيه القوة في جبال هندكوش، والنتائج التي ستسفر عنها مواجهة بين عشرات ألوف الجنود المدججين بأحدث الأسلحة بمواجهة شعب من الحفاة والعراة تقريباً، في أمثولة ستمنح مفهم القوة والحق أبعاد جديدة، يطلقون عليها الحرب مجازاً: ضد الإرهاب، ونشر الأفكار الديمقراطية، وكأن نشر الخير يحتاج لأدوات الشر وبهذا القدر الخيالي.

 

في واقعية مريرة أقر الرئيس الأخير لدولة عظمى كالاتحاد السوفياتي، أن تعديلاً ضرورياً لا مناص من إدخاله على المفاهيم التي تبدو أنها راسخة رسوخ الجبال الراسيات، تلك المفاهيم التي جرى العمل بها كقاعدة نظرية لا تحتمل الخطأ: أن الحرب هي أستمرار للسياسة بوسائل أخرى (مقولة المفكر الاستراتيجي الألماني كلاوس فيتز)، ويذهب غورباتشوف إلى التأكيد أن قاعدة كلاوس فيتز قد عفا عليها الزمن، وأن الحرب النووية ليس فيها رابحون وخاسرون، فهي إبادة للجميع بل وحتى المتفرجين، ولا بد من الإقرار بالحقوق المتساوية لجميع الدول والشعوب في الأمن والسلام والتطور، وبحق كل شعب اختيار طريقه دون التدخل في شؤونه الداخلية، ولا يجوز نقل الخلاف الثقافي/الأيديولوجي إلى مجال العلاقات الدولية، وإخضاع السياسة الخارجية له، لأن الأيديولوجيات قد تكون متنافرة، أما مصلحة البقاء ودرء الحرب فهي المصلحة العامة والعليا.(14)

 

لا عيب في العودة للحق، للتراجع وتصحيح الأخطاء، وفي تلك شجاعة أدبية عظيمة، والغرب طالما أتهم الأشتركيون ومذاهبهم بالدوغماتية (Dogmatik) ولكنهم يمارسون في عصر العولمة أشد أنواع الدوغماتية، ولطالما سفكت دماء وانتهكت سيادة دول بأسم مبادئ الديمقراطية، وها هو الغرب اليوم لا يقبل حتى بارتداء ثياب وملابس غير تلك التي يرتديها..!

 

* الحق في العلاقات الدولية هو أن تقبل بوجود غيرك، وأن تقبل بالنظام الذي يقبله لنفسه، المنبثق من أصالته، من ثقافته، ومن تراكمه السياسي والاجتماعي.

* الحق هو في الامتناع عن استخدام القوة.

* الحق هو أن يسمح لك بأن تعرض وجهة نظرك بسلام.

* الحق هو أن تكون لجميع الشعوب والأمم ذات الحقوق والمزايا، الأمن للجميع، السلام للجميع، السيادة للجميع، وحقوق التنمية والتطور للجميع.

 

أن صورة أخرى للعالم تطل علينا من بعيد، لا نستطيع تقدير البعد، ولكنه آت.. القابل النووية المختزنة سوف تفكك، القوة آلة وحشية يرفضها العالم، القوي لا يستطيع رغم قوته تنفيذ إرادته، ها هي الولايات المتحدة تحتاج لوقوف أي دولة معها ولو بمئة جندي، لتدعي الحق وأخلاق الحق. ولكن ها هم مئات ألوف الجنود يعجزون عن إنفاذ الإرادة الخاطئة لأنها تفتقر إلى الحق.

 

هناك من سخر عندما تراجع الاتحاد السوفيتي، وتنازلت الاشتراكية، ولكن التاريخ يثبت أنهم تراجعوا عن استخدام قوة كانت طوع أياديهم، وتلك مأثرة عظمى للاشتراكية.

لسنا وجوديون، ولكن نجد جملة ألبير كامو صحيحة للغاية:

" ليس هناك عادلون، إنما هناك أسياد شريرون يجعلون الحقيقة سائدة "

 

هوامش

1. سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ص36، القاهرة/1971

2.DUDEN Lexekon S. 651

3. صحيفة الجمهورية/بغداد 1986،

4. أفلاطون : الجمهورية ص 9، بغداد/1991

5. أفلاطون: نفس المصدر، ص25

6. أفلاطون: نفس المصدر، ص123

7. أفلاطون: نفس المصدر، ص7

8. أفلاطون: نفس المصدر، ص9

9. أفلاطون: نفس المصدر، ص23

10. أفلاطون: نفس المصدر، ص49/26/52

11. أفلاطون: نفس المصدر، ص30/65/76/80

12. سباين، جورج: نفس المصدر، ص26

13. شمت، هيلموت: محاضرة في قناة فونيكس، فبراير/2005

14. غورباتشوف، ميخائيل: البيروسترويكا والغلاسنوست، ص 161ـ163، بغداد/1989

 

أن يقوم 100 ألف جندي أمريكي، و160 من القوات الحكومية الأفغانية (82 ألف جندي حكومي، 80 ألف شرطي حكومي) وعشرات الألوف من قوات 42 دولة بعمليات عسكرية تستخدم فيها أحدث التكنولوجيا الحربية وأسلحة دمار، بهدف نشر الديمقراطية.....!

 

 

عن الحقيقة والحق

الأخ د. ضرغام الدباغ المحترم

بعد التحية...

قبل فترة قصيرة كنت قد ارسلت لي مقالا عن الحق، كان جله يعتمد على الفلسفة. ولكن على الرغم من كوني غير مختص بالفلسفة، وكون دراستي الفلسفية في المعهد الديني لتنشئة القسس اقتصرت على الفلسفة اليونانية التي اعطيت لنا، كمنهج اساسي، خلال سنتين دراسيتين، عقبتها اربع سنوات اخرى مكرسة بشكل خاص للدراسات اللاهوتية والكتاب المقدس، الا اني، ومن خلال مطالعاتي الخاصة والمبادئ الجيدة التي كنت قد تلقيتها في المعهد المذكور(احدى عشرة سنة)، ومن خلال تدريسي في دورات كنسية خاصة، لمادة اسميها " الف باء الفكر الفلسفي"، استخلصتها من بعض الكتب الفلسفية، صارت لي معلومات شخصية جيدة عن تاريخ الفكر الفلسفي اليوناني والحديث والمعاصر، مع اقراري بأن معلوماتي الفلسفية هي معلومات جيدة عموديا، لكنها غير كافية افقيا، ليقال فيها، انها دراسات رجل مختص: أي ان هذه الدراسات ليست دراسات اكاديمية، كما يقال.

 

ومع ذلك فان اهتمامات اخرى غير اكاديمية ايضا قد اوصلتني الى درجة التخصص، او بالأحرى الى دور الريادة، في المجال اللاهوتي، وليس في المجال الفلسفي، بعد ان تمكنت، بعون الله، من وضع منهجية لاهوتية معاصرة علمية متماسكة قادرة على اعطاء جواب شاف لأي سؤال يتعلق بأي بعد من ابعاد الظاهرة الدينية المقدسة، منذ ظهورها عند الانسان والى حد هذا اليوم، وما سيظهر منها في المستقبل ايضا.

 

هذا وقد وفقني الله بطبع كتابين عن هذه المنهجية اللاهوتية: اولهما من حيث التأليف طبع في العام 2006 بعنوان: كيف نتكلم عـن الله اليوم: منهجيـة ولاهوت خـارج الاسوار (540 ص حجم A 4 حجم الخط 14)، اما المؤلف الثاني من حيث التأليف فقد طبع في العام 2005 وعنوانه: وجه الله، 192 ص حجم متوسط حجم الخط 12)، بعد ان كان هذا الكتاب محاضرة صغيرة القيت في الموصل، على حضور كنا نسميه بالمنتدى اللاهوتي.

 

اما ما هو جدير بالذكر في هذه المقدمة التي خصصتها لتعريف القارئ بنفسي فهو ان كنابي الكبير نال تقييما ممتازا من قبل الأب كميل حشيمة اليسوعي في مجلته: مجلة المشرق، كونه كان مسؤولا عن هذه المجلة البيروتية وعن دار المشرق للكتب هناك.

 

معنى المنهجية اللاهوتية العلمية: وبما اني غالبا ما اصف ما كتبت بالعلمية يهمني ان اقول هنا بأن كلمة العلمية ليست صفة عامة اعتباطية نلقب بها المنهجية المذكورة. فهذه المنهجية هي فعلا منهجية علمية لأنها ليست منهجية استنتاجية او استدلالية Déductiveكما هو شأن المنهجيات اللاهوتية التي تعتمد على الفلسفات والعقائد والأيديولوجيات، ولكنها منهجية استقرائية Inductive تبدأ من الظاهرة، أي من المعطيات الجزئية، لتصل الى القانون العام، لكي يتم تعريف هذه الظاهرة وتحديدها بمعزل عن اية ثنائية وجود، سواء كانت ثنائية فلسفية افلاطونية ام غير افلاطونية، ام كانت ثنائية حضارية بدائية وأنثروبولوجية، او حتى ان كانت ثنائية عقائدية دينية. وعليه يكون بالتالي من حق هذه المنهجية ان تسمى علمية بالمعنى البرهاني للكلمة.

 

منهجية لاهوتية جديدة: وبما ان الأمر هو هكذا، يكون من حق منهجيتنا اللاهوتية ان تدعي انها منهجية جديدة وأنها منهجية فريدة لا مثيل لها حتى الآن في أي مكان بعد، كما يكون من حق هذه المنهجية ان تحتل مكان المنهجيات اللاهوتية الثنائية الغيبية التقليدية التي ابت ان تتزحزح من مكانها ردحا طويلا من الزمن، حتى بعد ظهور عجزها المعرفي الابستيمولوجي، منذ مرحلة سيطرة العلوم التجريبية على العالم.

علم جديد: وعليه يكون من حق واضع هذه المنهجية ان يقول بكل تواضع بأنه وضع علما جديدا، في المجال اللاهوتي، الى جانب علوم الانسان الأخرى، مثل الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الحياة وغيرها، بعد ان حول اللاهوت من مجرد لاهوت يوظف الفلسفات، ولاسيما اليونانية منها، بغاية تبرير العقائد، الى لاهوت يوظف علوم الانسان من اجل الكلام اللاهوتي عن الظاهرة الدينية: أي عن الله، وعن كل ما يتعلق به ويعود اليه، من قريب او من بعيد، ومن ذلك المفردات الانسانية المعيارية التي نحن بصددها، مثل مفردة الخير والحق والجمال، المعروفة في الفلسفات ايضا، والتي يمكن ان تدرس في ايامنا من خلال علوم الانسان المعروفة، ومنها الأنثروبولوجيا.

 

مساهمتي الأنثروبولوجية في مسألة الحق: اما كتابتي لهذه المقدمة فلا تأتي من اجل ان اعرف قرائي بنفسي حسب، لكنها تأتي خاصة لأقول للأخ د. ضرغام الدباغ الذي ارسل لي مقالا عن الحق، وأقول من خلال حضرته لكل من يقرأ هذا المقال، بأن مساهمتي في هذا الموضوع: موضوع الحق، ستكون وفق المنهجية العلمية الأنثروبولوجية التي ذكرتها، هذه المنهجية التي ستساعدني على الكلام عن الحق والحقيقة بشكل جديد، على ما اظن، وان لم اكن متأكدا من ذلك، لأني لم اعط لنفسي الوقت اللازم لكي ارى اذا ما سبقني احد آخر الى هذا المضمار المنهجي العلمي، كوني تصفحت على عجل بعض المقالات عن موضوع الحق والحقيقة على اليوكيبيديا، باللغة العربية والفرنسية، في حين اني متأكد بأن منهجيتي اللاهوتية (بحث عن حقيقة الله عقليا) تملك الريادة حقا، لأني لم اجد حتى صدور كتبي اللاهوتية على الأقل، منهجية لاهوتية اخرى تعتمد العلمية المطلقة وتوظف نتائج علوم الانسان للكلام اللاهوتي المنهجي المنظم عن الله، حتى وان كان اللاهوت المسيحي قد نحى منحى واقعيا توفيقيا، منذ منتصف القرن العشرين تقريبا، دون ان يصل الى مرحلة العلمية الحقيقية.

 

البدايات الفلسفية عن الحقيقة والحق: اما هذا التصفح، وبعد قراءة سريعة لهذه المقالات ومقارنتها بمعلوماتي الخاصة، تبين لي انها عبارة عن تاريخ الفلسفة من الالف الى الياء، في كل ما يخص نظريات المعرفة Epistémologie. ولكن هل قدرت هذه الفلسفات الكثيرة ان تعرفنا بحقيقة الانسان والعالم؟ الجواب هو انها عجزت بالتأكيد عن ذلك، وذلك لسبب بسيط هو ان نمط الفلسفات Catégorie ليس هو النمط المختص بمثل امور الحقيقة والحق. فمسألة الحقيقة والحق، ومسألة الخير والجمال وغيرها من المسائل المماثلة، هي مسائل انسانية يجب ان تكون من اختصاص علوم الانسان، وليس من اختصاص الفلسفات والأيديولوجيات الأخرى، منذ ان سيطرت هذه العلوم على المعرفة الانسانية المعاصرة.

 

اما ان تكون الفلسفات هي التي بدأت بدراسة مثل هذه الأمور المعيارية فذلك يعود الى حقيقة ان الانسان لم يكن بعد يملك الكفاءة العلمية التي تمكنه من تحديد مثل هذه القضايا المعيارية الأولية (Prédicats) تماما، مثلما كان الانسان القديم قد لجأ الى الأساطير لمعرفة مثل هذه الأمور، حين كانت الأساطير تبدو كافية لطمأنة الانسان الفكرية والنفسية عن بعض الظواهر، سواء كانت موضوعية ام وجدانية.

 

المعارف المختلفة وخصائصها: ولكن، وعلى الرغم مما قلنا اعلاه تبقى لكل معرفة صفاتها وقواعدها ووظائفها الأنثروبولوجية الخاصة بها، كما تبقى لديها كفاءتها الخاصة وفائدتها، حتى بعد ان تحل محلها حقبة معرفية اكفأ منها. فهكذا مثلا سيبقى دائما شيء من الاسطورة في حياة البشر بعد ظهور الفلسفات، وحتـى بعد ظهور العلوم، لأن الاسطورة تفيدنا احيانا بخيالها الذي يفتح آفاقا جديدة للأمل، كما سيبقى شيء من الفلسفة في العلوم نفسها، كوظيفة ممهدة للعلوم، (خادمة العلوم)، ولاسيما عندما يعجز العلم، سواء بشكل دائم ام مؤقت، عن

 

اعطاء الجواب الشافي لبعض الاشكالات المعرفية، ولاسيما في مجال حياة الانسان.

دور العلوم التجريبية: ولكن، وعلى الرغم من ان الاسطورة تعتمد على الخيال وتعتمد الفلسفة على العقل التأملي، ويعتمد العلم على الجواب البرهاني التجريبي، الا ان العلوم التجريبية وفلسفات هذه العلوم ستأخذ على عاتقها ان ترينا ما كان في الفلسفات وفي الاساطير، وحتى في الاديان، من معارف نافعة للانسان، بشكـل عام، ولإنسان تلك الحقب الفلسفية والأسطورية او الدينية، بشكل خاص. اما مثل هذا الكلام فيعني ان تفقد المنهجيات المعرفية القديمة السابقة للعلم البرهاني استقلاليتها وتفردها بالبحث عن الحقيقة وتعطي الأولوية للعلم التجريبي البرهانـي في هذا المجال، حيث يأخذ العلم التجريبي من جرف الفلسفات والأساطير والمعتقدات باستمرار، لكي تحتفظ الفلسفات والأساطير بوظيفة متميزة هي وظيفة اثارة الاشكاليات والبحث عن العمق باستمرار، مع بقائها خاضعة للعلم التجريبي، في نهاية المطاف، حيث يمكن ان نتوقع من العلم ان يقيم هذه الفلسفات والأساطير تقييما حقيقيا ويعطيها كل حقها، ولكن ليس اكثر من حقها.

 

فائدة بعض الفلسفات: وهكذا، وعلى الرغم من كون العلم اداتنا المعرفية الاساسية في مجال تحديد معنى الكلمات، مثل كلمة الحق والخير والجمال وغيرها، الا اننا لا نستنكف من اللجوء الى كل شكل من اشكال المعرفة الأخرى الموضوعية والوجدانية، كما لا نستنكف من القاء نظرة على بعض الفلسفات لكي نعرف ما يمكن ان تعطينا هذه الفلسفات في مجال الحقيقة والحق. غير اننا سوف لن نتشبث هنا بعبارات معينة قالها هذا او ذاك من الفلاسفة، لأن مثل هذا السعي يعود الى المتخصصين الأكاديميين، ولكننا سنحاول استخلاص ما يمكن ان يقال عن الحقيقة والحق من بعض تعاليم الفلاسفة الذين تطرقوا الى هذا الأمر بشكل متميز. اما ما يمكن ان تقوله الاساطير عن الحقيقة والحق فلا نتطرق اليه، لأنه يحتاج منا دراسة خاصة ومعلومات ليست واضحة عندنا في الوقت الحاضر، شانها شأن الباراسايكولوجيا مثلا، او بعض خبرات المتصوفة والروحانيين.

 

وقد تفيدنا الفلسفات اليونانية كثيرا في هذا المجال، الا اننا لا نستنكف من الاستعانة ببعض الفلسفات الحديثة والمعاصرة التي تركز على المعرفة بشكل عام، وعلى معرفة قدرات الانسان ودقائق حياته وتشعب سلوكياته والقوانين والمثل التي تسير حياته، بشكـل خاص، لكي نعبر بعد ذلك الى الأنثروبولوجيا والمنهج العلمي الاستقرائي لمعرفة الانسان ودقائق حياته، ومعرفة حقيقة معاني بعض الأمور المعيارية مثل الحق والخير والجمال وغيرها.

من بعض الفلاسفة اليونان: فيما يخصني قد لا ابدأ بالكلام مع الفيلسوف سقراط، لكنني سوف اضع هذا الفيلسوف في الوسط بين الفيلسوف افلاطون والفيلسوف ارسطو اللذين لهما كلمتهما المميزة في مجال الحقيقة بالدرجة الأولى. فالفيلسوف افلاطون مشهور بفلسفته الثنائية، حيث يرى ان ماهيـة الأشيـاء وحقيقتها تأتي من عالم روحي، يسمى عالم المثل. اما هذا الكلام فيعني ان عالم المثل هو العالم الحقيقي حيث توجد كل ماهيات الأشياء وجودا ثابتا ازليا، فـي حين ان ما نراه في عالمنا الواقعي ليس اكثر من نسخة مقلدة للماهية الازلية الثابتة، وانه ليس اكثر من ظل لهذه الماهية الثابتة، بحيث تكتسب الأشياء الواقعية حقيقتها من مثالها عن طريق ما سماه افلاطون بالمشاركة participation Par، هذه المشاركة التي تجعل المثل او الماهيات الفوقية تفقد كثيرا من حقيقتها وجوهرها عند تجسمها في المادة، لأن الظل او النسخة الثانية المقلدة لا يمكن ان يكونا بمستوى ما هو ثابت وأصيل، الأمر الذي سيسميه الفيلسوف هيجل فيما بعد بـ الضياع او الاستلاب Aliénation.

 

وقد كان من البديهي ان يأتي يوما لاهوتيون مسيحيون افلاطونيون، او حتى من الأفلاطونية الجديدة، ليقولوا لنا بأن الحب هو الذي دفع الله الى خلق كائنات تشاركه طبيعته، على قدر ما تستطيع هذه الكائنات ان تتقبل الكمال، ثم تبين لنا بعد ذلك السبيل الذي سلكه الله، او " الأول " لكي يتصل بالعالم المادي، في حين ان افلاطون نفسه لا يقول لنا شيئا من ذلك على ما نعتقد.

 

اما ارسطو فيرفض مسألة المثل التي تقسم الوجود الانساني الى وجود مادي ووجود روحي، ولذلك لا يقبل ارسطو ان تأتينا ماهيات الأشياء (الحقيقة) من عالم آخر غير عالمنا، حيث نجد هذه الماهيات تحديدا في الأشياء ذاتها. من هنا يتكلم ارسطو عن اربع علل يجعلها سببا للأشياء وموجدا لماهياتها (الحقيقة الميتافيزيقية). اما هذه العلل، كما هو معروف فهي: العلة المادية والعلة الصورية والعلة الغائية والعلة الفاعلة. اما معرفة هذه الماهية، أي معرفة حقيقة الأشياء فتنجم عن تطابق هذه الأشياء مع العقل. Adequatio res ad intellectum. ولكن هنا ايضا لا يأتي ببال ارسطو ان يقول لنا ما هو العقل وكيف يتم هذا التطابق بين الاشياء والعقل، ولماذا يكتمل التطابق بادراك الماهية فقط وليس بغير ذلك، وانما يكتفي بالتأكيد على ان لا شيء يأتي الى العقل الا عن طريق الحواس اولا، حيث تكون مهمة العقل: l'intellect agent تجريد الماهية عما هو محسوس في الأشياء.

 

اما سقراط الذي وضعناه بين افلاطون وأرسطو فيبدو انه لم يترك ثغرات كثيرة في فلسفته، اذ حاول ان يكون منطقيا مع نفسه ومع تلاميذه، لذلك يبدو لنا سقراط انجح من غيره في تفادي الاشكاليات التي نوهنا عنها. فقد استطاع سقراط ان يربط بنجاح فلسفي بين الحقيقة والحق عندما يقول لنا من خلال منهجيته التي كانت، هي الأخرى، منهجية ثنائية بوضوح، بأن المعرفة الصحيحة (الحقيقة) تقود الى العمل الصالح، وأن المعرفة هي اساس الفضيلة والحق. ولكن، على الرغم من اننا يمكننا مناقشة هذه الفلسفة وحتى من رفضها، الا اننا نرى ان في هذه الفلسفة جزءا من الحقيقة لا يمكن اهماله، حتى في ميزان علمنا الانساني التجريبي، في حين ان ما هو مهم لنا هو ان هذه الفلسفة فلسفة منطقية وفيها كثير من الشمولية.

 

وبديهي، وبعد ان يرفض سقراط نسبية السفسطائيين ويتكلم عن مطلقية الحقيقة والحق وثباتهما وأزليتهما، ان يقول ايضا بالأصل السماوي للحقيقة، وكذلك بالأصل الالهي للحق، طالما ان الحق صنو الحقيقة عند سقراط. وهنا يبقى على سقراط ان يتكلم منطقيا عن كيفية مجيء هذه الحقيقة الى العالم فيقول ما معناه ان الفضيلة تصاحب النفس البشرية التي تأتي من عالمها السماوي وتسكن البدن لتكون له بمثابة مبدأ الحركة والسلوك الفاضل، بما في ذلك مبدأ بعض المعايير الأخلاقية مثل الحق والخير والجمال.

 

وبما ان النفس مستترة في البدن على الرغم من اصلها السماوي، بحسب سقراط، كان من الطبيعي ان يؤكد سقراط على ذاتانية المعرفة البشرية (الذاتي هو غير الموضوعي)، ويصل الى القول بأن كل انسان مدعو لاكتشاف ماهية الفضيلة بنفسه. وبما ان سقراط يقول بالأصل السماوي للنفس فإننا نفهم ان ينسب سقراط مقولة " يا انسان اعرف نفسك بنفسك " الى السماء، عن طريق كتابة وجدها على باب معبد دلفي، حيث تحول باب هذا المعبد، في نظر سقراط، الى نوع من العرافة والى ملك الحكمة المبشر والمخبر، وكأنه مرسل من السماء، أي من عالم النفس الحقيقي.

 

وبما ان لكل حدث علة مسببة ومفسرة لحدوثه فان طبيعة النفس البشرية، كما كان يؤمن بها سقراط، كانت تقضي في ان يكون كل انسان مسؤولا عن اكتشاف ماهية الفضيلة بنفسه، في حين يكون أي تدخل شخص آخر بمثابة مساعد للانسان، لكي يستطيع المتلقي ان يصل بنفسه الى الحقيقة والحق، بدون أي املاء خارجي. ومن هنا جاءت المساعدة على شكل حوار بين الحكيم، او الفيلسوف، وبين التلميذ، ولذلك ايضا سمي هذا الحوار بالحوار السقراطي وسميت عملية الحوار بالتوليد.

 

ومما تجدر الاشارة اليه هنا، وعلى الرغم من نظرة سقراط الثنائية الى العالم، هو ما نلاحظه من قرب بين فلسفة سقراط الذاتية هذه وبين ما تقول به بعض علوم الانسان التجريبية، ومنها علم النفس تحديدا، عندما يتكلم هذا العلم عما يسمى بتداعي المعاني الذي يوصل الى المواضيع والصور المخزونة في الذاكرة، كل صورة في مكانها المناسب، بحسب طبيعتها وأهميتها وزمن خزنها. وهنا لربما يمكننا ان نشبه الفيلسوف الذي يساعد الانسان على استخراج الفكرة بنفسه من مخبئها بالمحلل النفساني الذي يساعد مريضه على تذكر الحادثة المؤلمة التي سببت له عقدة مرضية، والتي يمكن ان يتم الشفاء منها عن طريق تذكر هذه الحادثة المؤلمة المكبوتةRefouléeفي اعماق النفس،او المخبأة Encrypté في ما يسمى العقل الباطن.

 

وهنا يطيب لي ان اذكر ما فعله يوما الطبيب العربي ابن سينا، على ما اتذكر، عندما قدموا له شابا لم يستطع احد من الأطباء ان يعرف مرضه. ويبدو ان ابن سينا عرف عن طريق ملكة الحدس عنده علة الشاب، فأمره بالجلوس الى جانبه، ثم امسك الشاب من معصمه ووضع اصبعه على منطقة النبض عنده، ثم شرع يسأله اسئلة محددة عن المناطق المجاورة وسكانها. فلما وصل الى ذكر منطقة معينة لاحظ ابن سينا ان نبض الشاب اخذ بالإسراع. ثم واصل ابن سينا اسئلته سؤالا بعد آخر عن اهل المنطقة المذكورة وسكان احيائها وخبائها، حتى وصل الى خيمة شيخ المنطقة. حينئذ بدأ نبض الشاب يسرع كثيرا وتزداد دقات هذا النبض قوة. فنظر ابن سينا الى اهل الشاب وقال لهم: لقد وجدت علة ابنكم، انها بنت الشيخ الفلاني القريب منكم. وهكذا نرى كيف استطاع ابن سينا ان يشخص مرض الفتى الذي استعصى على الأطباء الآخرين بسبب ما كان يمتلكه من خبرة تكاد تكون علمية استقرائية، بطبيعة سلوكية البشر، فكان تشخيصه دقيقا وصائبا.

 

فالمعرفة التي يتكلم عنها سقراط هي معرفة تكاد تكون علمية على الرغم من الفلسفة الثنائية التي يستند اليها عندما يقول بمبدأ الأصل السماوي للنفس وما تحمله كل نفس معها من معارف الفضيلة، كمعرفة الخير والحق والجمال، عند دخولها واستقرارها في البدن، قريبا مما تقول به بعض الفلسفات الحديثة والمعاصرة، وخاصة الفلسفات الروحانية والشخصانية والمثالية المعاصرة. اما نحن فلا يسعنا سوى ان نحترم فلسفة سقراط، على الرغم من ثنائيتها، لأننا نستطيع ان نرد هذه الفلسفة الثنائية الى علم استقرائي، من نمط العلوم الانسانية الوجدانية، بكل بساطة، في حين لا يقول لنا افلاطون مثلا او فيثاغورس او انكساكوراس كيف تتم عملية المعرفة التي يقولون بها.

 

بعض الفلسفات الحديثة- الرومانسية: غير اننا نعثر على فلسفة حديثة، تسمى الفلسفة الرومانسية، يمكنها ان تكون اقرب الى العلوم من كثير من الفلسفات اليونانية. فهذه الفلسفة تسعى الى اكتشاف الحقيقة والحق والخير والجمال من خلال كم كبير من القصص والروايات التاريخية وغير التاريخيـة ومن الشعر ومن سائر الاساليب الأدبية العديدة التي تتعلق خاصة بمشاعـر الانسان وخياراته، سواء جاءتنا هذه الآداب مـن حاضرنا ام من ماضينا، ام انها سوف تأتينا من مستقبلنا الذي لا يقل اهمية عن حاضرنا وماضينا، كون الحياة الانسانية لا تنتهي عند حدود الحاضر، وأن الماضي والحاضر لا يقدران ان يعطيا لنا كل شيء عن الانسان، طالما كان الانسان مسيرة لا تنتهي، بدون ان ندخل في معمعة ما يسمى بالاسخاتولوجيا، او الأواخرية.

 

اما المعطيات غير المتناهية التي تقودنا الى شيء من معرفة الانسان تدريجيا، وأولا بأول، ونحن نواكب مسيرة هذا الانسان الحاضرة والماضية والمستقبلية، فإنها لا تضع بيدنا غير دلالات شبه احصائية عن طبيعة الانسان الزاخرة بالحركة والتنوع، في حين يبقى التعريف الكامل للانسان مستحيلا، ويبقى وضع قواعد وقوانين ثابتة لسلوكية الانسان غير ممكن. وهكذا، وبحسب هذه الفلسفة التي تكاد هي الأخرى ان تكون علما من علوم الانسان، يمكننا ان نقترب من الحقيقة ولا نملكها بالتمام والكمال، حتى لو قدرنا، من خلال منهجية هذه الفلسفة، ان نصل الى بعض الصفات الثابتة الانثروبولوجية عند الانسان، فضلا عن بعض توقعات عن الحقيقة، على الرغم مما تقوله لنا مدرسة علم النفس السلوكية.

 

فلسفة شوبنهور: وفي نهاية هذه الفكرة عن الفلسفات بودي ايضا ان اذكر فلسفة اخرى تقترب من العلوم كثيرا وهي فلسفة شوبنهور التي نرى فيها نوعا من القدرية بسبب الرغبات الانسانية التي لا تسهل السيطرة عليها والتي تقول ان الانسان ارادة وليس عقلا، بمعنى انه يتوجب علينا ان نبحث عن الحقيقة والحق باتجاه ارادة الانسان ومشاعره ورغباته الكثيرة اكثر مما نبحث عنها في جانب عقله. وهكذا تقدم لنا هذه الفلسفة تنوعا معرفيا، لا باس به، يجب ان يؤخذ بالحسبان، لأن هذه الفلسفة تدخلنا الى عالم الانسان الوجداني الزاخر بالمشاعر والخيارات التي لا يمكن سبر غور الاسباب التي تؤدي اليها.

 

الفلسفات المعاصرة: اما الفلسفات المعاصرة مثل الظاهراتية والوجودية والبنيوية وغيرها فإنها تكلمنا ايضا عن حقيقة الانسان بحسب معيارها الفلسفي الخاص، لتكون هذه الحقيقة نفسها معيارا للحق ايضا، من منطلق ان الحقيقة حق للانسان وواجب عليه، غير اننا لا يمكننا ان نخوض في هذه الفلسفات الآن، لوسعها وتعقيدها ايضا. لذلك نحاول من الآن ان نعبر الى مجال علوم الانسان المختلفة التي سوف تساعدنا كثيرا، ليس فقط لمعرفة الانسان، ولكن ايضا لمعرفة مقولات محددة كمقولة الخير والحق والجمال، وغيرها.

 

الحقيقة والعلوم المختلفة: بعد هذا ادعو قارئي العزيز الى الانتقال معي الى علوم الانسان لنرى ما تقوله لنا هذه العلوم طالما قلنا اننا لا يمكننا ان نعتمد بشكل كلي على الفلسفات من اجل الوصول الى معاني الحق والخير والجمال وغيرها مـن القيم المعيارية والوجدانية. ولكن من الآن ليكن معلوما عندنا اننا لن نجد في العلوم اية مطلقية بشأن معرفة كنه الأشياء بعمق طبيعتها، حتى لو تمكنا من اقامة منهجية علمية تساعدنا على ذلك كثيرا، وذلك بسبب تعقد الحياة البشرية الفائق. ولكن اذا كنا غير قادرين على التوصل الى حقيقة جميع الامور، ولاسيما الأمور الانسانية العميقة، فهذا لا يعني اننـا لا يمكننا ان نقترب الـى شيء من الحقيقة تقدر ان تجعل حياتنا مقبولة وناجحة، فكيف يكون هذا الاقتراب من الحقيقة في زمننا، يا ترى؟

 

الالتزام العلمي بوحدة الوجود: ان من اول الأمور التي يجب ان يعرفها الانسان المعاصر الذي يريد ان يكون انسانا علميا قادرا على الامساك بالحقيقة بشكل علمي، هو ان يقبل بفكرة وحدة الوجود التي تتناقض مع فكرة ثنائية الوجود التقليدية، سواء كانت وحدة الوجود هذه فلسفية ام حضارية ام دينية، مع تأكيدنا المسبق على امكانية ايجاد الروح، لا بل ايجاد الله نفسه، ضمن هذا الوجود الواحد المتعدد البنى والأبعاد، دون ان تكون بنا حاجة، من الناحية اللاهوتية، الى القول بثنائية الوجود، لكي نؤمن بالروح وبالله، شرط ان تكون لنا فكرة واضحة وعلمية عن الروح وعن الله، خارج دائرة العقائد التقليدية.

 

انطلاق المعرفة من الظاهرة: اما الاعتراف بالحقيقة المذكورة اعلاه فتعني ايضا ان تبدأ معرفتنا لحقيقة الأشياء من ظاهرة الأشياء نفسها، وليس من أي افتراض آخر، لكي يكون كل ما تقدمه لنا هذه الظاهرة، بعد تحليله واختباره، معطى علميا يمكن الركون اليه للوصول الى معاني الحقيقة والحق في حياة الانسان. اما هذه العملية المعرفية فتسمى عملية استقرائيةInductive وهي تختلف عن المعرفة الاستنتاتجية او الاستدلالية Déductive اختلافا كبيرا، مع تأكيدنا على ان كثيرا من الفلسفات يمكن تحويلها الى علوم انسان، بأغلب ابعادها، بعد دراسة منطلقاتها دراسة انثروبولوجية علمية.

 

الفلسفة الوجودية ما لها وما عليها: الفلسفة الوجودية من الفلسفات المعاصرة المعروفة في اوساطنا العراقية بإلحادها والمجهولة بما تقدمه للانسان من امكانيـات التقرب الى الحقيقة والحق، اللهم الا اذا استثنينا دارسي الفلسفة وعشاقها. غير ان من يعرف شيئا عن الفلسفة الوجودية يعرف ايضا انها ليست لاهوتا يؤكد او ينفي وجود الله، لكنها فقط فلسفة تقول ان الله " زائد "، أي لا مكان له في منهجيتها الفلسفية، قريبا مما تقول به بعض الفلسفات الوضعية، وربما اقل مما تقول به هذه الفلسفات.

 

والمشاهد في كثير من الفلسفات الحديثة والمعاصرة، ولاسيما تلك الفلسفات التي تبني منهجيات متكاملة مثل الهيجلية والماركسية و الظاهراتية والوجودية والبنيوية وغيرها، انها تضع منهجيتها من اجل الوصول الى هدف يتعلق بحقيقة حياتية معينة. فالهدف من الماركسية مثلا كان الوصول الى تفسير الصراع الطبقي وتبرير الثورة الطبقية الماركسية. اما هدف الفلسفة الوجودية، وكما هو واضح في وجودية جان بول سارتر خاصة، فكـان تحرير اختيار الانسان من تحكم الماهية ومن أي تحكم آخر، حتى لو كان الله نفسه، لكي يكون الانسان حرا بشكل كلي في كل اختياراته، حتى عندما يقرر هذا الانسان الصمت. اما الهدف الثانـي من هذه الفلسفة فهو ان تقول للانسان انه يبني نفسه بنفسه من خلال خياراته اليومية الحرة، خارج اية تبعية، الأمر الذي كان يستدعـي فلسفيا ان يسبق الوجود الماهية، وليس العكس.

 

من هنا يمكننا ان نفصل بين الهدف والوسيلة الفكرية الفلسفية التي توصل الى هذا الهدف، ونحاول ان نتكلم في مرحلة لاحقة، بعد هذا الفصل، عن الحرية التي يمكننا فعلا دراستها دراسة علمية انثروبولوجية ونظهر مكانتها الحقيقية في الحياة خارج اية أيديولوجيا علمية، مثلما ندرس العقل والإرادة والرموز وحقيقة الذات وحقيقة الشخص، وغير ذلك من القوى الانسانية الأنثروبولوجية.

 

وهنا، وفقط بين قوسين، سوف نتمكن من ايجاد مكان معين لله نفسه، بعد تحليلنا الأنثروبولوجي، دون ان تكون هذه المكانة خاضعة للعقائد، على اية حال. فالله سيظهر لنا حينذاك بعدا انسانيا انثروبولوجيا خاصا، وحاجة مقدسة لا يمكن الاستغناء عنها، مثلما لا يمكن الاستغناء عن أي بعد من ابعاد اية حقيقة كانت. وسنرى حينئذ ان الحرية ليست لا قبل ولا بعد، لكنها " مع " الانسان، كأية وظيفة مرافقة لحياة الانسان. وهكذا يمكن تحويل الفلسفة الوجودية الى علم انسان لا اكثر ولا اقل.

 

اما ان تكون الماهية قبل الوجود او ان يكون الوجود قبل الماهية فان هذا الأمر يبقى مسألة فلسفيـة، بتنا لا نحتاجها، طالما ثبت لنا ان العلم هو الذي يبت في مسألة دور الحرية، وليست الفلسفة. ولكننا نرى، مع ذلك، اننا يمكننا ان نستفيد من مثل هذه الفلسفة في مسائل اخرى، كأن تساعدنا على ان نعد الانسان مشروعا مملوكا لصاحبه، لا تتحكم به اية ماهية سابقة وأي خالق وأية قاعدة مفروضة عليه من خارجه، لكي يكون الانسان سيد نفسه وسيد تاريخه. ولكن مرة اخرى نقول ان علوم الانسان هي التي تؤكد وتوضح لنا هذه الحقائق المهمة وليست الفلسفات، بما فيها الفلسفة الوجودية نفسها، هذه الفلسفة التي نلاحظ تدهورها في ايامنا بعد ان فعلت فعلها في الغرب كخطوة نحو تحرير الانسان من استلاباته الكثيرة وعبودياته المفروضة عليه، من دون وجه حق، وخلافا لحقوقه غير قابلة التصرف، باسم مبادئ اخلاقية اعتباطية، واله لا شغل له غير التحكم بأعمال الناس، وكأنه المفتاح الذي يفتح كل الأقفال، او محرك الدمى الذي يتحكم بكل حركاتها وسكناتها، مع العلم ان رجل الدين هو الذي يتحكم بالإنسان، اكثر مما يتحكم به الله، لأن رجل الدين غالبا ما يتكلم باسم الله، بعد ان يقضي على صوت الله الحقيقي ويحجبه.

 

البنيوية فلسفة معرفية واعدة: فالبنيوية تأتي بعد الفلسفات المغرقة في المثالية، ولكنها تأتي خاصة بعد الفلسفة الوجودية التي حددت اهدافها بمسألة الحرية فاصطدمت بمشاكل كثيرة، ومنها نقص الشمولية ونقص العلمية الواقعية، وان كنا قد قلنا عنها انها فلسفة قابلة للتحول الى علم من علوم الانسان. وعليه لا نتعجب ان تكون البنيوية بديلا حقيقيا لتلك الفلسفات، سواء كانت هي الفلسفات المثالية او الفلسفات الوضعية نفسها التي اهملت الوجه البنيوي للعالم وللإنسان.

 

البنيوية والعلوم التجريبية: وفي الحقيقة نحن نرى في البنيوية الطريق المفتوح الى مناهج علوم الانسان. فنحن لا نرى صحة البنيوية من خلال وحدة الانسان وتعدديته الهائلة فقط، ولكننا نرى صحة البنيوية من خلال الأشياء الجامدة ذاتها، فنحن، في الواقع، لا نرى شيئا واحدا في العالم كله، لا بل في الكون كله، بوجه واحد فقط، وانما الأشياء كلها تحمل اكثر من بعد وأكثر من وجه. ولذلك يمكن ان نطلق على عالمنا اسم العالم متعدد الأوجه، Polygone وبما ان الأمر هو كذلك فإننا نفهم السر الذي يجعل ان يكون الانسان متعدد الحواس المعرفية التي يمكنها تغطية سائر ابعاد كوننا وإنساننا.

 

والحقيقة هي، اننا كنا نحسب ان الانسان يملك الحواس الخمسة فقط، لكننا نعرف اليوم انها ست وسبع حواس، او ربما ثماني حواس، اذا جعلنا الشعور بالزمن مثلا حاسة من الحواس، او ربما اكثر من ذلك بكثير، تغطية للحاجات الانسانية الواسعة. ونظرا لتقدم علوم الانسان كثيرا، ومنها علم الحياة، فقد بتنا نعرف اليوم ان الانسان هو كم هائل من المتحسسات تنتظم فيما بينها وتتشابك من اصغر المتحسسات الى اكبرها، لتكون بالتالي منظومات متدرجة في حجمها واتساعها، ولكي تستطيع ان تكون وظائف حياتية وإنسانية تسير حياة الانسان وتديرها، من حيث خصائص الانسان المادية والروحية.

 

ومع هذا كله، فنحن البشر لا نكتفي بأن نقول بأن الانسان منظومة او ذات تتكون من بناه وأبعاده المختلفة، ولكننا نضيف الى ذلك كلاما آخر يقول: ان الانسان نفسه بنية مهمة وراقية في عالم اكبر هو عالمنا الانساني، وأن هذا العالم الانساني نفسه بنية راقية في الكون المجهول العظيم والذي يبدو غير محدود في ابعاده. علما بأن ما يصح على الانسان الفرد هنا يصح ايضا على الانسان بكونه مجتمعا.

 

وفي الواقع ان البنيوية تحلل، كما فعلنا اعلاه، لكنها لا تجزئ الانسان، لأن هذه الفلسفة الواقعية الشمولية لا تؤمن بالتحليل فقط ولكنها تؤمن بوحدة الانسان ايضا، هذه الوحدة التي لا يفهم الانسان بدونها، مثلما لا يفهم أي شيء مادي من دون ابعاده. فنحن مثلا اذا اردنا ان نعرف حقيقة عمارة فنية علينا ان نعرفها من جميع اوجهها. اما اذا اردنا ان نعرف الانسان فلا يختلف الأمر الا من حيث ان اوجه الانسان ليست اوجها هندسية، ولكنها اوجه من نوع آخر، يكون علينا معرفتها، وان صعب علينا الأمر.

 

لذلك يمكننا ان نقول بأن البنيوية هي التي يمكنها ان تكلمنا عن الحرية بشكل افضل من الوجودية مثلا، فالبنيوية تقول بأن الانسان ليس وجودا مجردا، لكنه وجود مرتبط بماهية تتحكم بهذا الانسان بشكل عجيب. ذلك ان البنيوية لا تسبق الوجود، ولكنها لا تتأخر عنه ايضا. وعليه فان حرية الانسان ليست مطلقة ولكنها مرتبطة بتكوين الانسان الأنثروبولوجي، الأمر الذي لا يضير الحرية بشيء، بل يدعمها ويقويها، لأن الحرية في هذه الحالة، حالها حال كثير من القوى الانسانية، بنية او بعد، يشكل خدمة ووظيفة في حياة الانسان، حتى ان الانسان لا يصير انسانا من دون هذا البعد الأنثروبولوجي.

 

ولذلك ايضا قد نتكلم عن الفرد وأبعاده، كما تفعل البنيوية، لكننا لا نتكلم عن الوجود والماهية الا بشكل ذهني وتحليلي. فهل يملك هذا الفرد اختيارا حرا لا تسببه اية علة سابقة لإرادته، كما يقول الوجوديون، ام انه منظومة مزودة بما يلزم من الأبعاد والبنى التي تحقق ذات الفرد وتوجه حريته، بحيث يسعى الانسان ان يختار ما هو افضل دائما، حسب تقديره، لكي لا تكون الحرية اختيارا اعتباطيا، بل تكون اختيارا للخير قدر ان يتجاوز المعوقات التي تعيقه، كما يقول بذلك القديس توما الاكويني الفيلسوف واللاهوتي الكنسي الذي عاش في القرن الثالث عشر. علما بأن فلسفات كثيرة تعتبر الانسان ظاهرة ولا تسأل كثيرا عن مصدر وجود هذا الانسان، لأن هذا المصدر لا يهمها كثيرا، مثل الظاهراتية و الهيجلية والماركسية، فضلا عن البنيوية، مع اختلاف في مفهوم الظاهرة من فلسفة الى أخرى، ومع وجود بعض التماثل بين هذه الفلسفات.

 

اما هذا التحول من الفلسفة الى الأنثروبولوجيا، فكان بالطبع نتيجة ازدياد المنحى العلمي في العالم وثبوت جدوى هذا المنحى، بعد ان تم التمهيد له من خلال بعض الفلسفات التي تفتح آفاقا جديدة عموديا وأفقيا للمعرفة العلمية، من خلال الفكر الفلسفي الذي يقوم بهذه المهمة، وعلى رأس هذا الفكر الفلسفي الممهد تأتي الفلسفة البنيوية، مع امكانات التحليل الذهني التي نجدها فيها، دون المساس بوحدة اية منظومة من المنظومات البنيوية.

 

وهنا لا اريد ان ابت في مسألـة وجود " مركـز " او " بؤرة " استقطـاب و تجميع، او نقطة مركزية تنتظم حولها سائر الأبعاد في الأمور المادية، لكي ادع هذا الأمر لعلماء الفيزياء الذين لست منهم بشيء. ولكن ليسمح لي بأن اخمن نظريا، ولنقل فلسفيا، وجود مثل هذه البؤرة في الأشياء التي نقول عنها انها جامدة، تماثلا مع ما هو موجود، بشكل ضعيف جدا في الأحياء، وما هو موجود بشكل واضح وقوي عند الانسان، في ظاهرة انسانية انثروبولوجية يمكن ان نسميها ظاهرة الروح او بتعبير اكثر وضوحا نسميها ظاهرة الذات Ego، او نسميها ظاهرة الشخص، او ربما نستطيع ان نسميها ظاهرة المركز الجامع الذي يجمع المنظومة كلها ليعطيها معناها وحقيقتها، او نسميها، بحسب مصطلح كلاسيكي الفكرة Idea او الماهية او الجوهر.

 

وهنا يطيب لي ان اتناول ببعض التفصيل ظاهرة الشخص الأنثروبولوجية التي اتينا الى ذكرها قبل قليل، لأن هذه الظاهرة تمدنا بمعرفة واسعة عن الحقيقة والحق، مثل ظاهرة الذات تماما، وربما اكثر منها، عندما نعرف ان الفرد الانساني يبقى من خلال شخصه خالدا لمدة معينة، حسب قوة هذا الشخص وعطائه الماضي والحاضر، بعد موته، الأمر الذي يجعلنا نقول ان الشخص حقيقة تتكلم عن خلود الانسان الأنثروبولوجي، ليكون هذا الخلود استحقاقا لكل انسان وحقا له، فضلا عن كل حقوق الشخص الأخرى. وهنا اقول بأنني لا اعرف اذا ما كانت الفلسفات الشخصانية Personnalistes تقول عين ما اعرضه الآن امام قرائي الأعزاء، ولكن من المؤكد انها تقول شيئا مماثلا.

 

ولكن تكميلا لما قلنا اعلاه عن الشخص، يهمنا ان نذكر ان الشخص يعني الذات معروضة امام الآخر، سواء كان هذا الآخر هو ذات الفرد نفسه ام كان هو ذات الآخرين، مع اشارة مهمة تفيدنا في بحثنا عن الحقيقة والحق وهي ان الذات ليست فقط عارفة لما سواها ولكنها مالكة لما سواها ايضا، وأن الذات يمكن ان تكون عارفة لنفسها ايضا، في عملية ينفرد بها الجنس البشري، تبدو وكأنها نوع من الانفصام، او نوع من انشطار الذات الى ذاتينDédoublement: الذات العارفة والذات المعروفة، بحيث لا يشخص الانسان (الشخص) امام الآخرين فقط ولكنه يشخص امام ذاته ايضا، علما بأن عملية الشخصنة هذه قد تحدث ايضا داخل المجتمع نفسه، من خلال عملية اكثر تعقيدا يمكن ان نسميها: وعي المجتمع لذاته، الأمر الذي يعطي هذا المجتمع شعورا بحقيقة ذاته وشخصه، وشعورا بحقوقه المختلفة، كما يحدث عند الانسان الفرد.

 

وهكذا نجد انفسنا مع البنيوية داخل عالم " العلاقة " العظيم، بعد ان اكتشفنا مع العلماء ايضا، ان العالم مجموعة غير متناهية من العلاقات تبدأ بأصغر بنية صعودا نحو الكون الأكبر، مع اشارتنا المسبقة الى ان هذه العلاقات التي تكـون جوهر الاشياء وحقيقتهـا هي حقيقـة وحق في الوقت عينه: حقي ان اكون ما انا عليه، وحقي ان اكون ما اطمح ان اكون عليه، هذا الحق الذي ينطبق على الفرد الانساني وعلى الكائن الحي البشري الذي نسميه المجتمع. مع التأكيد على ان البنى الروحية والمعيارية هي الأخرى عبارة عن علاقات تخضع للقاعدة المذكورة.

 

حقيقة تماثل الوجود: تسمى هذه الحقيقة في اللغات الغربية انالوجيا Analogia، Analogieوهي حقيقة مهمة جدا، لأن مثل هذه الظاهرة تسهل على الانسان معرفة الأشياء عندما يعرف هذا الانسان ان وراء التعددية الواسعة في الأمور الكبيرة وفي الأمور الصغيرة اسسا وحقائق مشتركة، الأمر الذي يلزم أي باحث علمي، او حتى فلسفي، ان يصب اهتمامه اولا على معرفة الأمور المشتركة بين منظومات معينة، لكـي يستطيع من بعد ذلك ان يهتم بمـا هو متنوع ومتعدد بين البنى.

 

قانون حركة وصيرورة الوجود: نحن قد تعودنا، ولاسيما خلال دراستنا الفلسفية، على مقولة فلسفية، تكاد ان تكون علمية هي الأخرى تقول: لا يتحرك شيء ساكن الا بمحرك. اما هذه المقولة المعروفة في عالم الفيزياء والكيمياء خاصة فقد استغلت فلسفيا ولاهوتيا للبرهان على وجود الله، كمحرك اول، سواء كان ذلك عند الفيلسوف ارسطو ام عند اللاهوتي توما الاكويني، ام كان ذلك في تاريخ الكنيسة منذ زمن طويل. ولكن، من جانبي، اخشى ان يكون الانتقال من مبدأ فيزيائي الى مبدأ روحي على اساس ما يسمى وحدة الوجود مجرد وهم فلسفي، لا غير. ومع ذلك اقر بأن مشكلة علة الحركة وعلة الوجود مستعصية على الفهم الى حد هذا اليوم، الأمر الذي يجعلنا نكتفي بملاحظة القوانين التي تسير العلل الثانوية، دون الأخذ بعين الاعتبار العلة الأولى، اي الله، مع احتفاظنا بمكانة خاصة لله، بكونه، حسب منهجيتنا اللاهوتية المعاصرة، حقيقة ذاتية ورمزية Subjective لا علاقة لها بالأمور الموضوعية التي تخضع، اما للفلسفة وإما للعلوم التجريبية، بشكل خاص.

 

وهكذا اذن، اذا ما وجدنا حركة في العالم وفي الكون، طبعا سنتساءل عن مصدرها، كما يتطلب أي علم وكما تتطلب طبيعة الانسان (الأنثروبولوجيا)، لكننا سوف لن نصعد بتسلسل الحركة حتى المحرك الأول، بل سنكتفي بالأسباب " الكافية " التي يعطينا اياها عالمنا الانساني الموضوعي.

 

وفي الواقع سنكتشف ان ما يعطينا العالم من اسباب للحركة كاف للإجابة على تساؤلاتنا الموضوعية عن الحركة، حيث لن تبقى حركة غير قابلة للتفسير، اذا امتلكنا الأداة العلمية لذلك، وحينئذ سنتمكن من تفسير حركة المادة بشكلها الفيزيائي وبشكلها الكيميائي، كما سنتمكن من تفسير الحركة على المستوى الحياتي: الجسدي والنفسي اذا صح القول، وعلى المستوى الروحي والميتافيزيقي، وعلى المستوى الانساني العام. وهكذا، وبهذا المعنى سيتمكن العلم من ان يتعرف على حركات النفس وخلجاتها وخيارات الانسان وحريته وسائر قواه الأخرى، من خلال علم النفس وسائر علوم الانسان الأخرى، أي مـن خلال الابعاد الميتافيزيقية للانسان، أو من خلال ابعاد ما وراء المحسوس، فضلا عن الأبعاد المقدسة في حياة الانسان الأنثروبولوجية. نقول ذلك حتى بعد ان بدأنا نعرف ان اللامحسوس والميتافيزيقي والمقدس محسوس وفيزيقي بشكل من الاشكال.

 

اذن هل نقول بأن حركة الكون والعالم حركة ذاتية " داخلية " ناتجة عن ارتباط بنى الكون كله بعضها ببعض؟ وهل نقول، ولو على شكل نظرية، ان الكون متحرك بطبيعته وليس ساكناInerte، سواء في دقائقه الصغرى او في منظوماته الأكبر؟ ام اننا سنقول ان الحركة بعد ملازم للكون، وخاصية من خواصه الذاتية، مثل بعد الزمن مثلا؟ لكن يبدو اننا مهما قدمنا من نظريات، عن اصل الكون وعن سر الحركة فيه، تبقى مشكلة اصل الكون وماهيته قائمة، كما تبقى حركة الكون غير قابلة للتفسير، الا من خلال افتراضين فلسفيين هما: الافتراض التقليدي الذي يقول بوجود كائن ثابت ازلي يفسر علة حركة وعلة وجوده، والافتراض الذي يقول بأن الكون كائن عاقل غامض لا نعرف طبيعته الحقيقية بعد، وربما لن نعرفها ابدا. وهنا نعترف بأننا لا يمكننا البت في احدى الفكرتين عقليا لان لكل فكرة صعوباتها اللاهوتية والفلسفية الخاصة، في حين ان الله، كما بدأنا نعرفه هو حقيقة مختلفة تماما عن الكون. ولذلك لن نذكر هنا فلسفة سبينوزا بهذا الخصوص ولا فلسفة الروح، كما هي معروفة عند الفيلسوف هيجل،لأن هذه الفلسفات هي الأخرى تصطدم بمشاكل فكرية كثيرة.

 

قانون الجدل والحركة: في الحقيقة ان قانون الجدل قد يكون قانونا شاملا يشمل كل الوجود، او يشمل كل الكون على الأقل، في بناه الصغرى او في بناه العليا، لكن ربما لا يمكن التحقق من هذا الأمر على هذا المستوى الشمولي. غير اننا، وبعد ان نتحقق من هذا الجدل على مستوى حياة الانسان: في بناه التحتية وبناه الفوقية ونكتشف الصيرورة في كل الأمور بشكل جدلي يحقق التقدم من حالة دنيا الى حالة اعلى، ربما سيمكننا حينئذ، عن طريق قانون التماثل، ان نعمم هذا القول على الأمور الكونية ايضا، بعد ان نرى كوننا بأبعاده المادية والروحية بحالة خضوع لجدل لا يمكن الكلام عنه لمثلي ولا لمثل غيري، حتى وان كانوا علماء في الفيزياء او في اية مادة اخرى، ربما باستثناء علماء كبار مثل العالم آينشتاين ونظريته النسبية، اذا تمكن العلماء من استغلال مثل هذه النظرية ومثل غيرها في المجال المذكور: أي على مستوى حركة الكون وعلتها الواقعية، بعيدا عن الفلسفة والغيبيات الأخرى.

 

اما هذا الجدل، فقد حاول فلاسفة كثيرون ان يتكلموا عنه، منهم مثلا الفيلسوف اليوناني هيروقليطس الذي يرى ان الوجود نار في اساسه يتحول بشكل تدريجي الى بارد، الى الحد الذي يخلف وراءه الاشياء التي نعرفها ونتعامل معها، والفيلسوف هيجل الذي تكلم عن جدل الروح الذي يفضي الى ما نعرفه من الأشياء، في حين ان الفيلسوف كارل ماركس لا يتكلم الا عن جدل المادة، هذا الجدل الذي يفضي الى حركة التاريخ.

 

وفي الواقع هناك اختلاف لا بأس به بين الفيلسوف هيجل وبين الفيلسوف كارل ماركس، لكن هذا الاختلاف يأتي من طبيعة الفلسفتين وليس من فكرة الجدل نفسها. فقد انطلقت فلسفة هيجل من ظاهرة الروح لكي يتفادى سؤالا يقول بإلحاح: من اين اتى الوجود، بعد ان عد هيجل الروح موجودا منذ الأزل. وفي الحقيقة لو كان هيجل منطقيا لأظهر لنا لماذا كان يملك الروح ظاهرة الحركة والجدل، لكي يتحول الروح شيئا فشيئا الى اشياء ملموسة، ولكي يصل الروح من مطلق ناقص (-) غير محدد الى مطلق زائد (+) محدد تحديدا كاملا.

 

اما الفيلسوف ماركس فكان اكثر واقعية وعلمية نوعا ما من هيجل، وان كان اقل عمقا، ولهذا تكلم عن جدل المادة وعن مراحل مسيرتها، كما هو معروف في الفلسفة الماركسية، مع انه هو الآخر لم يقل لنا لماذا تتصف المادة بالحركة وكيف كانت المادة قبل ان تكون هناك الحركة. وحتى لو قبلنا نظرية الانفجار العظيم جدلا، يكون من حقنا ان نتساءل ونقول: ترى لماذا قرر الكون ان يتحرك وينفجر، ومن ثم تتكون على اثر ذلك الذرات والنور والطاقة وغير ذلك؟ ولكن بما ان المادة والروح يلتقيان في الانسان فإنني افترض ان الفلسفتين تحويان شيئا من الصحة ايضا، وكذلك شيئا من العلمية اذا درسنا هذا الجدل دراسة انثروبولوجية موسعة وافترضنا افتراضا علميا وجود قوة ذاتية في مادة الكون بين التجاذب والتنافر يجعلانها في حركة دائمة وفق قواعد ثابتة على الرغم من تنوع هذه القواعد. اما الجدل عند الانسان فهو اكثر وضوحا، لأنه يتعلق بشي من الارادة التي هي الأخرى نوع من الحركة.

 

وهكذا نفهم اذن ان الحقيقة احاطة وتحديد، شرط ان لا نحصر الحقيقة بهذه " الاحاطة والتحديد " الارسطوي والسقراطي، ولكننا نفتش عن الحقيقة والحق، بعد ان نفتح السور، او الدائرة، ربما من اجل عمل احاطات جديدة اوسع او من اجل الانفتاح الى اللامتناهي، كما يقال.

 

مفهوم الحق وفق نظرتنا الأنثروبولوجية

قارئي العزيز! الى حد الآن تكلمنا عن الحقيقة اكثر مما تكلمنا عن الحق. وقد رأينا كيف ان الحق والحقيقة يقتربان من بعضهما كثيرا، وخاصة عند الفيلسوف اليوناني الكبير سقراط، عندما قال، بحسب نظرة فلسفية، كان فيها كثير من الحكمة، ان العمل الصالح يتبع المعرفة الجيدة، وأيضا بحسب نظرة نبوية تعطي لصاحبها ان يرى مـا لا يراه الآخرون بسهولة، اعني انها تعطي له ان يرى الحق من خلال الحقيقة، بعد ان يصل اليها بالطرق المناسبة.

 

ولكن قبل ان نتكلم عن الحق نفسه يكون علينا ان نميزه عن الحقيقة قليلا، لكي نستطيع بعد هذا التمييز ان نتكلم عنه كلاما انثروبولوجيا يمكن ان يختلف جذريا عن الكلام الفلسفي. لذلك سنعتمد الايجاز في مسألة التمييز بين الحقيقة والحق ونكتفي بالقول بأن الحق يقع في المجال العملي الأخلاقي المعياري، في حين تقع الحقيقة في مجال المعرفة النظرية الموضوعية.

 

غير اننا نملك معايير اخرى تظهر لنا الفارق بين الحقيقة والحق. اما هذا الفارق فيظهر لنا عندما نضع مقابل كل من الحقيقة والحق الكلمة او العبارة التي تناقضها. فنحن نضع، في الواقع، كلمة الخطأ او الضلال او الوهم او الكذب او الزيف مقابل كلمة الحقيقة، بينما نضع كلمة الباطل والجور والظلم مقابل كلمة الحق، الأمر الذي يساعدنا على معرفة المعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين: الحقيقة والحق.

 

اما العامل الثالث الذي يشير الى الفارق بين الحقيقة والحق فيقع في باب رضا العقل في حالة كلامنا عن الحقيقة، بينما يقع في باب رضا المشاعر في حالة كلامنا عن الحق، حيث يسبب الحق للمشاعر نوعا من الارتياح امام ما هو مقبول وصالح ومطلوب، في حين يسبب الظلم كثيرا من الاستياء والغضب والتذمر.

 

اما العامل المشترك بين الحقيقة والحق فهو " الرضا " الذي يتكون عند الانسان ازاء الحقيقة وإزاء الحق، سواء كان هذا الرضا هو رضا العقل ام رضا المشاعر، ولاسيما اذا كان هذا الرضا ناتجا عن الاحاطة الشاملة بموضوع الحقيقة او بموضوع الحق وامتلاكه، كما تقول به اية منهجية علمية، حتى ان هذا الرضا يتحول احيانا الى ما يمكن ان نسميه صوفية الحقيقة والحق التي هي نوع من العشق.

 

ومن هنا يمكننا ان نقول بأن حكما يتعلق بالحقيقة والحق، لا يصل الى الاحاطة الشاملة بالموضوع بكل ابعاده، لا يمكن ان يكون حكما دقيقا، وقد يكون حكما خاطئا، بكل بساطة، كما يمكن ان يكون مثل هذا الحكم حكما تعسفيا وظالما. علما ان الشعور بالإحاطة، او التطابق بين العقل والموضوع، في حالة الحقيقة، والتطابق بين المشاعر والموضوع، في حالة الحق، قد يأتي من نظرة فلسفية جيدة وعميقة، او يأتي من حدس داخلي وذاتي، او يأتي مما يسمى بالحس العام Sens commun الأنثروبولوجي. ولكن قد يأتي التطابق ايضا من نظرة حضارية، بدائية كانت ام متطورة، تسمى رؤية العالم الحضاريةVision du monde، هذه الرؤيا التي غالبا ما تفرض على صاحبها قناعة بقضية يحسبها حقا وحقيقة، حتى وان لم تكن كذلك في الواقع.

 

غير ان الحكم الناجم عما ذكرنا اعلاه لا يمكن ان يعطينا الرضا الكامل في مسألة الحقيقة والحق، لأن ما ذكرنا من قوى المعرفة تعتمد الطريقة الاستدلالية Déductive للوصول الى الحقيقة والحق، في حين لا نحصل على الحقيقة والحق الا من خلال معرفة استقرائيةinductive علمية يمكنها مبدئيا ان تقودنا الى الرضا عما يأتينا من هذا النوع من المعرفة، بسبب علميتها.

 

وهكذا نتحول مع مفهوم الحق من الفلسفة و من المعتقدات والعقائد الدينية الى الأنثروبولوجيا، أي اننا نتحول الى علم جديد من علوم الانسان، يمكن ان نسميه علم الحق. وبما ان أي علم هو احاطة وبرهنة، وليس مجرد تخمين وحدس او بناء معرفة على اسس فلسفية وعقائدية قد تكون مبنية على وهم، فان أي حكم على حالة حق او باطل، سواء في المسائل الأساسية الجوهرية او في المسائل الفرعية يجب ان ينحى منحى علميا يعتمد على المعطيات الجزئية الموضوعية صعودا نحو القانون، وليس العكس.

 

وعليه نتساءل ونقول: ترى ماذا سيقول لنا هذا العلم الأنثروبولوجي الاستقرائي عن الحق؟ وهل سنصل يوما الى وضع قانون علمي واحد يحل كل قضايا الحق، ام اننا سنكون لأنفسنا مع مرور الزمن، مجموعة من العلوم، يعنى كل علم منها بجانب من جوانب الحق وبوجه من اوجهه، بناء على منهجية اساسية واحدة تهيمن على جميع هذه العلوم؟ هذا ما سنعرفه في الصفحات القليلة القادمة، ان شاء الله.

 

وللجواب على السؤال اعلاه نقول: بما ان مسألة الحق مسألة انسانية فهذا يعني انها مسألة معقدة بتعقيد الانسان نفسه، وأنها تحتاج الى منهجية علمية لكي تقودنا هذه المنهجية الى ما نحن بصدده بشكل واضح وعلمي دقيق. اما خلاصة هذه المنهجية فهي ان نعبر من الفلسفات الى علوم الانسان التجريبية. اما هذه المنهجية فيمكنها ان تقود خطواتنا وتنير طريقنا لتعريف معاني الحق بشكل عام، غير انها لن تستطيع ان تضع بيدنا مبدءا علميا واحدا يقول لنا اين هو الحق وأين هو الباطل في كل حالة بمفردها، حتى وان استطاعت هذه المنهجية ان تساعدنا على ان نضع علما مستقلا بكل بعد من ابعاد الحق الكثيرة والمختلفة، كما تتطلب اية عملية استقرائية.

 

اما اساس المنهجية المطلوبة الذي يمكن ان تبنى عليه العلوم المذكورة فهو اساس علمي انثروبولوجي يكمن في فكرة علمية تقول ان " الحاجة " هي التي تحرك الانسان وتسيره، وأن الانسان ما كان ليتحرك او يطلب شيئا لولا وجود حاجة ورغبة عنده تدفعانه الى الوصول الى حاجاته المختلفة والمتنوعة الكثيرة جدا، سواء كانت هذه الحاجات مادية ام روحية، وسواء كانت حاجات اساسية جوهرية ام كانت حاجات ثانوية وعرضية، الأمر الذي يؤدي الى ان تؤدي كل حاجة الى مطلب يعده الانسان حقا يستحقه، تحقيقا لذات الانسان، بكل ابعادها، كما يتمناها.

 

وهكذا نرى ان الانسان لا تعوزه حاجة واحدة فقط وانما يفتقر الى حاجات كثيرة ومتنوعة، يعتبرها الانسان حقا يريد الوصول اليه، او على الأقل امكانيـة يحق له ان يصل اليها. وهنا قد يساعدنا عالم النفس ماسلو لمعرفة طبيعة هذه الحاجات المختلفة والمتعددة التي يرى فيها الانسان حقوقا مختلفة في الأهمية والقيمة، ابتداء من الحاجات الحيوية وانتهاء بالحاجات الروحية العميقة.

 

من هنا نفهم حقيقة انه لا يكفينا علم واحد للكلام عن هذه الحاجات والحقوق، وانما تقوم علوم كثيرة في تغطية كل حاجة من حاجات الانسان، او على الأقل كل نوع من انواع هذه الحاجات، بشكل استقرائي علمي بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وهكذا تنشأ علوم متعددة مبنية على فكرة الحق الواحدة، علما بأن اوجه الحق وأبعاده تزداد مع الزمن ومع التطور الحضاري وتعقيده، مثلما تزداد مفردات اللغات باستمرار بسبب حاجة الانسان الى مفردات جديدة تعبر عن الواقع الجديد.

وعموما يمكننا هنا ان نستفيد من فكرة التماثل لكي نفهم كيف يسري قانون الحاجة العام، والذي يخلق مفهوم الحق بشموليته، على جميع ابعاد الحق، الأمر الذي سوف يجعلنا نفهم ايضا ان كل حاجة من حاجات الانسان سوف يكون لها حقها وحقوقها، حيث لن تبقى هناك حاجة غير خاضعة لقانون، سواء جاء القانون من ذات الفرد نفسه، ام جاءه من خارجه.

 

من هنا، وكما تقتضيه منهجيتنا العلمية الأنثروبولوجية، وبحسب قانون التماثل المذكور، وأيضا بحسب نظرة بنيوية نجدها في اساس قانون التماثل، سوف يكون على من يريد اقامة علم من علوم الحق ان يسأل اين تكمن حاجة الانسان في كل حق من الحقوق الخاصة والجزئية المتعددة، كما يسأل عن طبيعة هذه الحاجة ودرجة عمقها في الطبيعة الانسانية. فاذا ما ظهرت هذه الحاجة، بعد استقراء معمق وموسع، الى حق معين، حينئذ يمكن ان يقال اننا توصلنا الى انشاء علم حقيقي في البعد الفلاني او الفلاني. اما كيف يصل الانسان العالم، او المؤسس لعلم ان يميز بين الحاجات وبين الأوهام والادعاءات، وكيف يميز بين الحاجات الاجتماعية والحاجات الأنثروبولوجي والحاجات الروحية فتبقى مسألة اختصاص وتعمق وتوسع علمي، وربما تبقى ايضا مسألة خبرة شخصية تضاف الى خبرات السلف الكثيرة.

 

وبما اننا نجد حاجات كثيرة في حياة الانسان لا تظهر الا في زمنها، ففي هذه الحالة تسبق علم الحق رؤية انثروبولوجية اخرى من خلال ما يسمى قراءة علامات الازمنة، ومن خلال نوع من رؤيا نبوية تساعد الانسان على معرفة الاحداث وتقييمها قبل وقوعها، في حين أن من لا يملك هذه الرؤيا النبوية يبقى مثل الأعمى والأطرش تجاه التغييرات التاريخية الكبرى، التي تتطلب حكما جديدا في مسألة احقية هذه الأحداث وقيمتها.

 

من جهة ثانية يمكننا ان نؤكد على ان اية حاجة لا تصير مطلبا وحقا الا اذا كانت حاجة غير مبتذلة ولا ينالها الانسان الا بمجهود كبير. وهذا يصح على الحاجات الأنثروبولوجية العظيمة وكذلك على الحاجات الثانوية الاجتماعية الاعتيادية. نضيف الى ذلك حقيقة اخرى تقول بأن الانسان لا يشعر بحاجة معينة الا بعد ان ينفتح له افق الأمل بالحصول على الحاجة المذكورة. وعليه ففي هذه الحالة، ونظرا الى ان الانسان يسعى الى تحقيق ذاته باستمرار، كحق لا يمكن ان يتنازل عنه او يتهاون فيه بسهولة، فان الانسان يرى في حاجته حقا لا يقبل التنازل عنه، لأن الانسان يوحد تلقائيا بين ذاته وبين بعض حاجاته الانثروبولوجية.

 

والجدير بالذكر هنا هو ما ينبه اليه الروحانيون و اللاهوتيون والمتصوفة من تمييز بين الحاجات الاساسية المادية والحاجات الانسانية الروحية العالية، مؤكدين دائما على اولوية الحاجات الروحية في حياة الانسان وعلى قيمة هذه الحاجات، في حين ينظرون الى الحاجات الجسدية بنسبية اكبر، عملا بقول السيد المسيح وغالبية الروحانيين الذين يعطون للروح قيمة اكبر من الجسد، دون ان يتنكروا لحق الانسان على مثل هذه الحاجات الجسدية.

 

اما من الناحية النظرية فنحن نعطي الأولوية لكل ما يتعلق بالذات مباشرة ونعتبره حقا ثابتا لا يمكن التنازل عنه. في حين ان الأمور الأخرى التي تبتعد عن الذات تكون اقل اهمية. وهكذا نميز نحن بين الباقي والفاني وبين الثابت والمتغير، حتى ليمكننا ان نقول مع السيد المسيح : لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد لأنهم لا يقدرون ان يقتلوا الروح. ولكن مع ذلك، فان هذه الحالة التفضيلية ليست القاعدة، لأن الجسد يعني الحياة والحياة تبقى حقا لا احد يستطيع ان يتصرف بها ويعبث بها دون عقاب، باستثناء حالات الاستشهاد.

 

من ناحية ثانية فنحن عندما ندرس الانسان دراسة علمية انثروبولوجية سنرى ان الذات التي هي محور لكل ما سواها تسعى انثروبولوجيا الى تملك عالمها الخاص بها. لذلك يقول الانسان بيتي وعائلتي وقمري وعالمي الخ...ولذلك ايضا يحق للذات ان تتملك ما يهمها وما هو ضروري لها من هذا العالم لتحيى وتزدهر، سواء كان هذا العالم هو العالم الصغير ام العالم الكبير، وسواء كان هذا العالم هو الفرد ام الجماعة، ومن هنا ايضا تكون اية اعاقة لهذا التملك تعسفا ضد " حقوق " الانسان، الأمر الذي يجعلنا نتكلم عن حقوق غير قابلة للتصرف، ولا تخضع للنسبية، حتى وان اتت هذه النسبية من محدودية قدرة الفرد الانساني على الأخذ.

 

من ناحية ثانية نقول ان الحقوق الثابتة لا تقدم للانسان بشكل آلي على طبق من ذهب، ولكن الانسان مدعو باستمرار الى السعي لأخذ هذه الحقوق، حيث يكون على المجتمع ان يساعد الفرد على التمتع بكل حقوقه، اذا اراد ان يكون مجتمعا انسانيا عادلا. كما يجب على المجتمع الدولي والمجتمعات الأقوى ان تساعد جميع المجتمعات الأخرى على ان تتمتع بحقوقها التي لا تقبل التصرف، وان تضع قوانين لكل حق من حقوق الانسان، سواء كانت حقوقا ثابتة انثروبولوجية، او قريبة منها، او كانت حقوقا وضعية يتفق عليها البشر Conventionnels.

 

وهنا نشير الى مسألة اخرى نعتقد انها مهمة في مسألة الحق والباطل وفي مسألة الانصاف والظلم، في امر يعود الى الذاكرة التي تخزن مجموعة امور قد لا تكون لها قيمة اساسية كبيرة ولكن تراكمات مثل هذه الأمور هي التي تسبب شعورا بالظلم.

 

ومع ذلك، ورغبة منا في انهاء هذا المقال الواسع جدا نقول ان الحق لا يمكن ان يبقى سائبا بيد من هب ودب، بل يجب ان " يقونن " أي يوضع في قوانين وضعية تستند الى قوانين انثروبولوجية، او تستند الى حاجات تنظيمية صرفة تجعل حياة الانسان اكثر انتظاما، سواء كان ذلك في المسائل المهمة ام في المسائل العرضية الثانوية، مع قبولنا بأن تخضع جميع القوانين الى نوع من التغيير، بقدر بعده عن الأمور الانثروبولوجية الثابتة والأصيلة، وذلك بسبب تغيير الحياة الديالكتيكي المستمر.

القس لوسيان جميل

تلكيف - محافظة نينوى – العراق

شبكة البصرة

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع