جابر الخيراللّه
من سومر التاريخ إلى عراق الحاضر....( مابين المدينة الدولة والمليشيا الدولة)
سنذهب في رحلة إلى عمق التاريخ وتحديداً إلى أرض أجدادنا السومريين أصحاب الحضارة الأولى والدولة الأولى في التاريخ، في بداية الآلف الثالث قبل الميلاد قامت حضارة السومريين في جنوب العراق ودولهم على نظام يعرف في الأدبيات التاريخية السياسية ( المدينة الدولة) أي أن كل مدينة كانت بمثابة دولة قائمة بذاتها، وما ان تمتلك هذه ( المدينة الدولة) القوة والسلطة فإنها تبتلع ماحولها من المدن الاقل قوّة، ( يعني الگوي ياخذ الرچيج) وبطبيعة الحال فإن المدينة التي كانت تفرض سطوتها السياسية والعسكرية ترفع من شأن معبودها فتجعله كبيراً للآلهة، ولهذا تداول كلٌّ من إنليل السومري، ومردوخ البابلي، وآشور الآشوري هذا المنصب كل في زمن سيطرة نظامه الحاكم....
بالطبع تطورت الحضارات واختلف مفهوم الدولة عبر تطور مفاهيم الفكر السياسي والحضاري، وسيطول بنا الحديث لو استعرضنا ذلك ولو على إيجاز، ولكن لايخفى على انظاركم الكريمة ان الدولة الوطنية الحديثة تقوم على مفهوم( العقدالإجتماعي) بين مواطنيها عبر آليات الديمقراطية في إختيار السلطة الحاكمة التي تحتكر قوة الإكراه عبر القانون وادوات تنفيذه من أجهزة أمنية وعسكرية وَشَرطيّة.
ولكن ما يجري في العراق اليوم هو إستحضار لذلك المفهوم ( المدينة الدولة) تحت مسمى جديد إسمه ( المليشيا الدولة)، تحت هذا الفهم يتصرف أرباب المليشيات بالدولة العراقية، فهم ينازعونها سلطانها في احتكار قوة القانون وقوة السلاح وجباية الأموال ويهددونها متى ما أمر كبير آلهتهم بذلك.....
لا يعينهم الفضاء الوطني بقدر عنايتهم بفضاء كبير آلهتهم الذي يعبدونه، قطعاً لا أعني اللّه سبحانه وتعالى، وإنما إنليل زمانهم أو مردوخهم أو آشورهم!!
سيتصارع إنليل مع مردوخ مع آشور على ساحة واحدة اسمها العراق ولسوء حظه وحظنا إن الجميع تواجدوا في زمن واحد، وفي فضاء واحد، ولطالمّا ان غاياتهم مغلّفة بإطار ديني ومذّهبي فإنهم سيجدون أعواناً من البسطاء الذي لا يعرفون من دنياهم إلا إن طاعة اللّه لا طريق لها الإ بطاعة إنليل أو مردوخ أو آشور.
الآديان لا تبني الأوطان، هذه هي الحقيقة المرّة، ليس بغضاً بالدين ولكنه على طول مسيرة الزمان ينكر المتقدم منهم اللاحق ولا يعترف المتأخر بالمتقدم، لا بل حتى كل مذهب في ديانة واحدة لا يعترف بالآخر ولا يرى حرمة في بعض الأحيان حتى لدماء معتنقيه، وليس من المبالغة في القول ان رجال الدين وزعماء المليشيات لا يعترفون ببعضهم البعض ولايعتقدون ان الآخرين من مخالفيهم على طريق الخلاص لا في الدنيا ولا في الآخرة.
هذه ليس دعوة للتخلي عن الدين ولكنها دعوة للتخلي عن المتاجرين به، الدين ضرورة نفسية وعلاقة فردية عمودية بين العباد وخالقهم لا يتوسط فيها لا إنليل ولا مردوخ ولا آشور، تبعث فينا روح الطمأنينة ان العدل سيتحقق يوماً ما وسينتصف المظلوم من الظالم ولو كان ذلك في يوم الدينونة الكبرى.....
رغم كل الفشل، إذا كانت هناك بقايا لدولة وطنية إسمها العراق فإن بقائها محفوف بالمخاطر إذا انتصر مفهوم الدولة المليشيا، وحينها سيعبد الناس من جديد رَغمّاً عن أنوفهم المنتصر من الآلهة إنليليلاً كان أم مردوخياً أم آشورياً........
جابر الخيراللّه
الدانمارك ٢٠٢١/١١/٢١
* العقد الإجتماعي ( اتفاق أو عقد بين الشعوب وحكامها، إذ يتخلى الشعب عن جزء من حريته وأملاكه في مقابل الحماية التي يوفرها الحاكم، والذي يعمل على تشريع وفرض القوانين التي تحكم بما تقتضي المصلحة العامة).
1116 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع