د. سعد ناجي جواد
الوضع العام في العراق يزداد تعقيدا وخطورة.. هل نجحت إيران في تخفيف التوتر؟ وما هي المخاطر القادمة التي تهدد وجود العراق؟
بعيدا عن الضجة التي احدثتها المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي، والتي لا يزال الحديث عنها مستمرا، بين مستنكر ومستهجن، وبين مشكك بها وبالجهة التي نفذتها، تظل الاوضاع العراقية العامة بعد الانتخابات الاخيرة في اقل تقدير لا تبشر بخير عند المتفائلين ومحفوفة بمخاطر لا تحمد عقباها عند المتشائمين. لا بل يمكن القول ان من يتابع ما يحدث على الساحة العراقية لا بد وان يصل الى قناعة بان نسبة التشائم هي اعلى بكثير من نسبة التفاؤل. وهذا الراي يستند الى وقائع واضحة اهمها:
ـ اولا: ان محاولة الاغتيال صعدت من حدة المواجهة بين الحكومة والفصائل المسلحة، وبصراحة اكثر فانها اوصلت هيبة الدولة ممثلة بالحكومة الى ادنى درجاتها. وتجلى هذا الامر في كلمات التحدي والتهديد والاتهامات التي وجهت لرئيس الوزراء شخصيا وبصورة غير مسبوقة. وكذلك من خلال مظاهر التحدي للحكومة المتمثلة بالتظاهرات التي حاولت غلق منافذ المنطقة الخضراء التي تاوي الحكومة ومراكزها الحساسة، ناهيك عن كلمات الشتائم التي اطلقها المتظاهرون ومن يقودهم ضد رئيس الوزراء شخصيا. واخيرا وليس اخرا في عودة عمليات تصفية منتسبي اجهزة امنية وعسكرية نفذت عمليات اعتقال مسلحين متهمين باغتيال صحفيين وناشطين مدنيين.
ـ ثانيا: كثرة وعمق الخلافات بين المكونات المشاركة في العملية السياسية. لقد كانت الاختلافات بين الاطراف المشاركة في هذه العملية بعد الاحتلال في الغالب عرقية وطائفية ومحاصصاتية. الان اصبحت الخلافات داخل المكون الواحد ومن يدعي بانه يمثله، مذهبيا وعرقيا. والاكثر تهديدا هو ان هذه الخلافات اصبحت غير قابلة للعلاج او التهدئة. فمثلا لا يوجد ما يدلل على امكانية ايجاد حل وسط بين اصرار التيار الصدري، الذي فاز باكثر عدد من المقاعد البرلمانية، على تشكيل الحكومة الجديدة، وبين رغبة الكتل والاحزاب الاخرى التي تنتمي لنفس المكون، والتي خسرت في الانتخابات، للقفز فوق النتائج والحصول على حصة كبيرة في الحكومة القادمة، لا بل وصل الامر بها الى ان تطرح اسماء مرشحين لرئاسة الوزراء من قبلها فقط. كما لا يوجد ما يدلل على امكانية ايجاد حل وسط بين الحزبين الكرديين الرئيسين حول مسالة اختيار رئيس الجمهورية، حيث يصر الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة السيد مسعود البرزاني على ان يكون المرشح للمنصب هذه المرة من حزبه. في حين يعتبر حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يدار من قبل عائلة المرحوم جلال طالباني، ان هذا الامر يعتبر خروجا عن الاتفاق الذي جرى بين قيادة الحزبين بعد الاحتلال مباشرة والذي تم بموجبه التوافق على ان تكون رئاسة الاقليم من حصة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ورئاسة جمهورية العراق من حصة الاتحاد الوطني الكردستاني، او بالعكس. في حين ان المكون الاخر مقسم بين اطراف متعددة: كتلة رئيس البرلمان السيد محمد الحلبوسي، الذي يشعر بان نتائج الانتخابات منحته وحده الحق في تمثيل مكونه، وكتلة اخرى يقودها السيد خميس الخنجر الذي يرفض تهميش تكتله، مع اطراف اصغر. ولم تنجح كل المحاولات الخارجية للتقريب بينهم.
في ظل هذه الاوضاع المضطربة يستمر كل طرف في الاستقواء اولا بعدد المقاعد النيابية التي حصل عليها لعلمه بانه لا يمكن ان تُشَكَل اي حكومة بدون التحالف معه، وثانيا والاخطر بالمليشيات التي يتحكم بها معتقدا ان هذه المليشيات هي السبيل الوحيد للحصول على ما يريد وبعيدا عن نتائج الانتخابات.
هناك من يقول ان زيارة السيد اسماعيل قآاني، قائد فيلق القدس الايراني الى بغداد مباشرة بعد حادثة الاغتيال، قد نجحت في تهدئة الاوضاع وفي تخفيف التوتر المتصاعد بين الاطراف المختلفة، وخاصة بين فصائل الحشد الشعبي ورئيس الوزراء. فهو اولا كان واضحا في رفضه لعملية الاغتيال، وثانيا ازال الشك حول مسالة اتهام ايران بانها وراء هذه المحاولة او مؤيدة لها، وقال بصراحة ان ايران لن تحمي او تدافع عن الجهة التي نفذت العملية ايا كانت، وثالثا نصح الاطراف التي خسرت الانتخابات ان تقبل بالنتائج وان تتوافق بصورة سلمية على تشكيل حكومة جديدة. وهذا الكلام جاء بعد ان بادرت الحكومة الايرانية رسميا بتهنئة الحكومة العراقية على نجاح العملية الانتخابية، مما يوحي رضاها عن نتائجها. (طبعا هذا الموقف متاتي من علم ايران بانه مهما كانت نتائج الانتخابات فانها لن تؤثر على نفوذها داخل العراق). وكل هذه الامور صحيحة وعلنية، ولكن ما هو غير معلن يبقى مختلفا، فلقد نُسِبَ الى السيد قآاني بانه اتهم اطرافا اخرى بانها كانت وراء عملية الاغتيال، (وقبلها عملية استخدام القوة ضد المعتصمين من اتباع الاطراف الذين خسروا في الانتخابات والرافضين لنتائجها، والتي ادت الى مقتل شخصين وجرح عدد اخر). حيث قيل انه اخبر رئيسي الجمهورية والوزراء بان هناك (طرف ثالث) قام بهذه الاعمال على امل ان يُحدِث فتنة واقتتال داخلي، وخاصة بين الحشد الشعبي والقوات الحكومية، وذلك عن طريق دفع الحكومة لمحاربة الحشد، خاصة بعد ان نقلت وسائل اعلام غربية خبرا مفاده ان بعض فصائله متورطة في عملية الاغتيال. (كما قيل انه وجه الاتهام للادارة الامريكية، ولو ان الاخيرة اعلنت، وبصورة غير متوقعة، انها لا تتهم اي طرف بعملية الاغتيال). من ناحية اخرى قيل ان قآاني كرر تنبيها ايرانيا الى كتلتي السيد البرزاني والحلبوسي بعدم التسرع والدخول في تحالف مع السيد مقتدى الصدر يترك الكتل الموالية لايران بعيدة عن المشاركة في الحكومة القادمة. واخيرا فانه كان وراء عقد اجتماع ضم كل الاطراف التي فشلت في الحصول على مقاعد تؤهلها لتشكيل الحكومة الجديدة. عقد هذا الاجتماع في منزل السيد حيدر العبادي، الذي دعا اليه قادة الاطراف التي اعتبرت خاسرة في الانتخابات، بالاضافة الى بعض قادة الحشد المتهمين بتخطيط وتنفيذ عملية الاغتيال، والذين كانوا واضحين جدا في الاعلام وعلى الفضائيات في التهجم على السيد الكاظمي وتوجيه تهديدات صريحة له. كما قيل ايضا ان السيد العبادي دعا السيد الكاظمي لذلك الاجتماع دون اعلامه باسماء الحضور، وعندما حضر الكاظمي تفاجأ بوجود هذه القيادات، وجلوسهم مع رئيس الجمهورية السيد برهم صالح. مما حدا به الى مغادرة منزل العبادي مباشرة. وفسر الكاظمي توجيه الدعوة لهولاء الاشخاص دعما لهم في وقت كانوا ولا يزالون موضع اتهام مباشر لضلوعهم في عملية الاغتيال. ويبدو ان الهدف من وراء هذا الاجتماع كان لتشكيل تحالفا كبيرا بين الاطراف الخاسرة في الانتخابات ودعم ترشيح شخصية اخرى لرئاسة الوزراء غير السيد الكاظمي ومن دون اشراك التيار الصدري. وبالتالي فان السيد قآاني، ان صحت هذه الاخبار، عمد الى تشجيع قيام تكتل مضاد ومواجه لتكتل الاحزاب الفائزة، وخاصة التيار الصدري الذي لم تتم دعوته لذلك الاجتماع. هذا المخطط، وبغض النظر عن من يدعمه ويروج له، اذا ما نجح فانه سيشعل مواجهة مسلحة بين مسلحي واتباع التيار الصدري من جهة، وفصائل الحشد الشعبي من جهة اخرى، والتي تريد ان تفرغ نتائج الانتخابات الاخيرة من محتواها وتتجاوز التيار الصدري. وهذا السيناريو بحد ذاته لا يمكن الا ان يقود الى حرب داخلية لا تحمد عقباها. ومن يقرا تغريدات بعض قادة التيار الصدري في الايام القليلة الماضية، واستخفافهم بقيادات الكتل الخاسرة في الانتخابات وعن قدرة التيار على (القاء القبض) على قيادات تلك الفصائل والاحزاب التي تريد ان تتجاوز على فوز التيار في غضون ساعات قليلة اذا ما صدرت الاوامر لاتباع التيار، يمكن ان يتاكد ان هذا الامر لن يمر بسلام ابدا.
واذا ما تجاوزنا كل هذه الازمات والتوترات بل المخاطر، وصَدّقنا ان الاطراف المختلفة لن تلجا الى لغة السلاح، وان عملية تشكيل الحكومة ستمر بهدوء وسلاسة، (على الرغم من صعوبة تصديق هكذا فرضية)، فان الخطر الذي يهدد وحدة وسلامة العراق سيبقى حاضرا ومتمثلا في عجز اي رئيس وزراء قادم عن تشكيل حكومة قوية قادرة على محاربة الفساد واعادة الهيبة للدولة، لسبب بسيط هو ان اي رئيس وزراء قادم، ولكي يحصل على الدعم المطلوب لتشكيل حكومة يمررها البرلمان سيكون مضطرا للقبول باملاءات الاطراف الكثيرة المشاركة في العملية السياسية، والتي بدا قادتها من الان يتحدثون عن عدم استعدادهم للمشاركة في اية حكومة قادمة اذا لا يتم تنفيذ مطالب مكونه كاملة. وبالنتيجة فان العراق سيعود كما كان عليه طوال الفترة التي تلت الاحتلال ولحد الان بل وأسوأ. وبكلمة اوضح فان كل ما قيل عن فوائد الانتخابات المبكرة وان نتائجها ستكون حكومة قوية قادرة على محاربة حالة الفساد الكبير والمروع، ومحاسبة رووس الفساد، وانهاء الانفلات الامني وحصر السلاح بيد الدولة، واعادة الهيبة لمؤوسساتها، ومحاسبة قتلة المتظاهرين، واعادة النازحين والافراج عن المغيبين والمسجونين بتهم باطلة، واعادة الخدمات العامة المفقودة تقريبا كالكهرباء والماء الصالح للشرب وشبكات الصرف الصحي، وايقاف الهدر المستمر للثروات العراقية وغيرها، كلها ذهبت ادراج الرياح. لا بل اذا ما استمر الحال على ما هو عليه الان فان خطر تقسيم العراق، (لا سامح الله)، اما بصورة فعلية او بصورة امر واقع، سيكون احتمال وارد، حتى وان كان لا يوجد من الاطراف الاقليمية، باستثناء اسرائيل، من يؤيد علنا هكذا خطوة.
السوال الاخير هو هل ستعي الاطراف التي فازت بالانتخابات هذه الحقيقة الكارثية؟ ام انها ستبقى اسيرة مصالحها الضيقة والمادية، وتستمر في ادعاء بانها وحدها تملك حق تمثيل مصالح مكونها، على الرغم من حقيقة ان فوزها جاء باصوات اقل من عشرين بالمائة من الناخبين، وان هناك ثمانون بالمائة من الشعب العراقي رافضين لهم، حتى وان ادعت مفوضية الانتخابات ان نسبة المشاركة هي اكثر من اربعين بالمائة. وهل سيبقى العراقيون متفرجين على هذه المشاحنات والتوترات والتجاذبات التي لا تمثل مصالحهم ولا مصالح وطنهم العليا؟ ان العراق في هذه الايام الحرجة يمر بمرحلة عصيبة وخطيرة، وان مصيره ومصير اجياله القادمة يعتمد على ما ستسفر عنه هذه الازمة المستعصية.
ويبقى الامل الاكبر بالله تعالى وقدرته على تجنيب العراقيين كوارث اخرى. اما للمتسببين بهذه الكوارث فلا يوجد ما يقال خير من ما ورد في القران الكريم من كلام النبي موسى عليه السلام مع السحرة الذين اتى بهم فرعون {مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} صدق الله العظيم.
3070 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع