فارس حامد عبد الكريم*
نظرة الى قواعد قوانين أصول المحاكمات الجزائية الحديثة (قانون حماية الحريات العامة)
لم يواكب قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي التطورات الفقهية والتشريعية الحديثة، هذا القانون يوصف في فقه القانون بانه؛
(قانون حماية الحريات العامة).
لأنه يضمن لكل من يشتبه به ارتكاب جريمة ما انه سيخضع لمحاكمة عادلة علنية يتاح له فيها حق الدفاع عن نفسه، وقواعد الإستماع للشهود ومناقشتهم، لتتوصل المحكمة الى توجيه التهمة له من عدمها، واذا وجهت له التهمة فهو في حكم البرئ منها حتى صدور حكم بات فيها، (المتهم بريء حتى تثبت ادانته)ويتفرع منها مبدأ (ان الشك يفسر لمصلحة المتهم). ومن ثم الطعن بالأحكام الصادرة بحقه امام المحاكم العليا بإختلاف تسمياتها في الدول ( التمييز، النقض، العليا، ...).
وواقع الحال ان التعامل مع الجريمة والمشتبه بهم بإرتكابها لايزال من الناحية التشريعة يجري وفقاً للقواعد القديمة التي بدأت الدول المتحضرة بالتخلي عنها تدريجياً ... وملخص ذلك، مايأتي؛
*اذا نسبت جريمة الى شخص ما، فكان يسمى ب (المتهم) ثم لاحقاً استبدلت التسمية ب( المشتبه به) بينما نص قانون الإجراءات الفرنسي لسنة 2000 على تسمية جديدة هي (الشخص محل الفحص).
*قاضي الحريات العامة
لاحظ فقهاء التشريع في فرنسا ان قضاة التحقيق يميلون الى توقيف المشتبه به ابتداءاً لمحاولتهم كشف ملابسات الجريمة بأسرع وقت وتحقيق سمعة جيدة لهم، ولكن هذا التصرف قد حد من حريات الكثير من المواطنين بالتوقيف ثم تبين لاحقاً انهم ابرياء تماماً، ولذلك اوجد التشريع قاض آخر يدعى قاضي الحريات العامة، فإذا اراد قاضي التحقيق توقيف شخص فعليه ان يكتب الى قاضي الحريات بذلك مع بيان الأسباب والمبررات ومن يقرر الموافقة على التوقيف من عدمه.
*إجراء التحريات اللازمة قبل الأستدعاء
اذا اتهم شخصاً ما شخصاً آخر بارتكاب جريمة فلا يتم استدعاء الأخير لمركز الشرطة او المحكمة إلا بعد إجراء التحريات اللازمة وزيارة المحققين له في منزله ومناقشته حول ذلك مثل تحديد مكان تًاجده وقت ارتكاب الجريمة.
*التخلي عن قفص الاتهام
كثير من التشريعات تخلت عن ظاهرة وضع المتهم في قفص لإخلال ذلك بكرامته وكرامة عائلته مادام القانون يعتبره بريئاً قبل الإدانة، وقد يحكم ببراءته فعلاً.
وقد طبق هذا الامر لأول مرة في العراق عند محاكمة ازلام النظام السابق.
*خيارات العقوبة
منح القاضي خيارات متنوعة للحكم بالعقوبة بدلاً عن الإيداع في السجن بالنسبة لجرائم معينة، كالقيام بخدمات إجتماعية محددة وتوسيع مديات الغرامة بدلاً عن السجن.
*بين قانونين يكمل أحدهما الآخر
فإذا كان قانون العقوبات يعنى بقواعد التجريم والعقاب وفقاً لمبدأ قانونية الجريمة والعقاب ( مبدأ الشرعية ).
فان قانون الأصول يضمن تحقق الغاية من التجريم والعقاب وضمان ان الحرية الفردية لن تهدر اثناء التحقيق والمحاكمة، وقد قيل بحق ان قانون العقوبات إنما وضع لمواجهة الأشرار وان قانون الأصول الجزائية وضع لحماية الشرفاء .
*قواعد أصيلة للحريات العامة
ومن القواعد الأصيلة المرتبطة برابطة وثيقة بحرية الانسان وكرامته، قاعدة ان ( المتهم بريء حتى تثبت إدانته ).
النتائج المترتبة على مبدأ اصل البراءة:
تترتب على مبدأ أصل البراءة عدة نتائج بالغة الأهمية، هي:
اولا: لا يرغم المتهم على إثبات براءته وبخلافه يعتبر مذنبا ، لأن الأصل فيه انه بريء .
فيقع عبأ إثبات التهمة على عاتق سلطة التحقيق او الاتهام وفقاً لقواعد الإثبات في القضايا الجزائية ، ولا يلتزم المتهم بتقديم اي دليل على براءته ولا يجوز اعتبار ذلك دليلا على ارتكاب الجرم ، وكذلك الحال عند التزامه الصمت ، الا ان له الحق في أن يناقش الادلة التي تتجمع ضده وان يفندها او ان يشكك في قيمتها . كما له ان يقدم طواعية أية أدلة تثبت براءته . او ان يعترف بالتهمة .
كما ان مهمة قاضي التحقيق او الادعاء العام او المحكمة المختصة لا تقتصر على إثبات التهمة فهي في النهاية أجهزة من أجهزة العدالة مهمتها الأصلية إثبات الحقيقة ، ذلك ان فكرة العدالة لا يمكن ان تبنى على الوهم او القناعات الزائفة . ومن ثم ينبغي على هذه الأجهزة العدلية ان تتحرى عن هذه الحقيقة من خلال تدقيق وتمحيص الادلة ، وعملية التحري هذه تدور حول التحقق مما اذا كانت هناك أدلة كافية يمكن ان تدحض أصل البراءة من عدمها .
وفي نطاق موانع العقاب او أسباب الإباحة كالدفاع الشرعي عن النفس او المال او عن نفس او مال الآخرين ، فانه يجب على المتهم ان يتمسك بالدفع بمانع العقاب او سبب الإباحة دون ان يلتزم بإثبات صحته الا طواعية لأن الأصل في الأشياء الإباحة . كذلك الحال بالنسبة لكل دفع يدفع به المتهم لو
صح لتخلفت أركان الجريمة.
ثانيا: الشك يفسر لصالح المتهم لأنه يقوي أصل البراءة فيه والأصل لا يزال الا بيقين .
فإذا شك القاضي في ان المتهم قد اتى الفعل او لم يأته بناءا على أدلة غير كافية او كان يناقض بعضها البعض، فالأصل انه لم يأته .
وإذا شك ان كان قد أتاه استعمالا لحق أم عدوان فالأصل انه استعمالا لحق تأكيداً لأصل البراءة .
وإذا كانت الوقائع المسندة للمتهم ثابتة الا انه قام شك في تكييفها هل هي سرقة ام خيانة أمانة ام حيازة مال مسروق مثلا ، فالعبرة بالوصف الأخف لأنه القدر المتيقن .
ثالثا: اي ضعف في الادلة يقوي أصل براءة المتهم ولا تفترض إدانته ولا تجوز إدانته بناءا على اعتقاد قوي وإنما بناءا على الجزم واليقين .
إن الجمع بين مبدأ أصل البراءة مع مبدأ ان الحكم بالإدانة لا يكون الا بناءاُ على الجزم واليقين يترتب عليه أن يكون هناك فرق جوهري بين الحكم بالإدانة والحكم بالبراءة ، فحكم الإدانة يجب أن يبنى على الاقتناع بأدلة الإثبات ، بينما يكتفي بالنسبة لحكم البراءة أن يؤسس على الشك في الاقتناع بهذه الأدلة.
رابعا: لا يجوز إدانة المتهم بناءا على قول المدعي وحده. لان المدعي يدعي خلاف الأصل والمتهم محصن بأصل براءته وبالتالي فالقول قوله لموافقته هذا الأصل وفي ذلك يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( لو يعطى الناس بدعاواهم لادعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ).
خامساً: يجوز الاستناد الى دليل استخلص او تم الوصول إليه بطريق غير قانوني للحكم بالبراءة ، بينما لا يجوز الاستناد إليه للحكم بالإدانة ، حسب الأصل .
سادساً: تعد مخالفة دستورية جسيمة ان يضمن المشرع تشريعاته قرائن قانونية تتعارض مع اصل البراءة . كاعتبار فعل او سلوك قرينة اثبات على ارتكاب الذنب مما يرتب على المتهم التزاماً بدفع هذه القرينة ابتداءاً ، لان اصل البراءة كمبدأ دستوري يجب ان يغطي كل الاجراءات وكل مراحل الدعوى الجزائية ، ولا يجوز نقض هذا الأصل الا بأدلة جازمة تتكون بواسطتها عقيدة المحكمة . ومع ذلك جوز المجلس الدستوري الفرنسي تضمين النصوص العقابية قرائن على توافر الخطأ في بعض الأحوال وخاصة بالنسبة للمخالفات بشرط كفالة حق المتهم في اثبات عكس هذه القرائن وبشرط ان تكون نسبة الخطأ الى المتهم واضحة ومعقولة . ومن امثلة القرائن القانونية التي اقرها المشرع الفرنسي التي تنفي اصل البراءة قرينة ( القوادة ) وتفترض توفر الركن المادي لجريمة في قانون العقوبات ، القرينة المفترضة بالنسبة لشخص يعيش مع من تمارس البغاء ولم يستطع تقديم ما يثبت مصدر مشروع لموارده المالية ، وكذلك بالنسبة لشخص له علاقة معتادة مع مروج او مروجين للمخدرات ولم يستطع تقديم ما يثبت مصدر مشروع لموارده المالية . وبالنسبة للقرائن التي تفترض توفر الركن المعنوي ما ورد في قانون الصحافة لسنة 1981 ، من افتراض سوء النية بالنسبة لإعادة إنتاج مواد تتضمن قذفاً بحق الغير.
الا ان المحكمة الدستورية العليا المصرية رفضت إقرار مثل هذه القرائن واعتبرتها غير دستورية ، حيث ذهبت الى القول بأنه في الجريمة غير العمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التي تكونها. وهي عناصر لا يجوز افتراضها او انتحالها.
وقضت هذه المحكمة بعدم دستورية ما تضمنته المواد (37، 38 ، 117) من قانون الكمارك رقم 66 لسنة 1963 التي نصت على قرينة تحقق التهريب على مجرد النقص في عدد الطرود المفرغة او محتوياتها عما أدرج في قائمة الشحن.
كما قضت بعدم جواز إدانة شخص على اساس الاشتهار بارتكاب جرائم معينة ، كما قضت بعدم دستورية النصوص التي تتبني قرينة افتراض العلم المسبق وتوافر القصد الجنائي لدى المتهم لان في ذلك هدر لأصل البراءة وباعتبار ان ذلك مخالف للدستور الذي نص على هذا الأصل.
ومن المعلوم ان رقابة المجلس الدستوري الفرنسي هي رقابة سياسية وليست قضائية وسابقة لصدور التشريع في حين ان رقابة المحكمة الدستورية المصرية هي رقابة قضائية لاحقة لصدور التشريع، ومن الطبيعي ان يقبل السياسي ما لا يقبله القاضي.
سابعاً: تمتد الحماية القانونية لتغطي أصل البراءة حتى خارج نطاق الإجراءات القضائية . حيث يعتبر المساس بأصل البراءة عن طريق النشر والإعلام في أية وسيلة متاحة للعامة جريمة يعاقب عليها القانون وفقاً لنصوص القذف والسب حسب الأحوال . وفي نطاق القانون المدني يعتبر النشر الذي يتضمن قذفاُ او سباً خطأً تقصيرياً يستوجب التعويض.
ثامناً: حق التعويض عن التوقيف عند غلق الدعوى أو الحكم بالبراءة.
أقرت بعض التشريعات حق التعويض عن التوقيف ( الحبس الاحتياطي ) عند غلق الدعوى أو الحكم بالبراءة دون حاجة لإثبات حصول ضرر كما كان مقرر سابقاً ، ولم يعد ذلك مجرد رخصة للقاضي فالحكم بالتعويض فيها واجب ، وطبقاً لقانون الاجراءات الفرنسي لسنة 2000 ، والذي توسع في التعويض عن التوقيف ، لا يجوز رفض طلب التعويض الا في ثلاث حالات هي ، تأسيس غلق الدعوى على توافر عاهة عقلية عند المتهم ، أو صدور عفو عن المتهم عقب حبسه احتياطياً ، أو أن يثبت أن المتهم قد اتهم نفسه لتمكين الغير من الإفلات من الاتهام.
*استاذ جامعي - النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الإتحادية.
900 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع