د. سيّار الجميل
ردّي على بعض المشككين حول مقولة علي صالح السعدي بمجيئ انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 بقطار أميركي !
تلقيت أكثر من تعليق على مقالتي التي نشرتها بعنوان " علي صالح السعدي .. حكم العراق تسعة شهور فقط ورحل ! وثائق أميركية تؤكد سرّ ما أعلنه عن انقلاب 8 شباط / فبراير 1963" يوم 27 أكتوبر / تشرين الأول 2021 ، وللرد على هؤلاء ، فانني احيلهم الى ما كنت قد عالجته في مقال نشرته في 28 / 11/ 2018 بعنوان " هل جاءت "عروس الثورات " فعلا بقطار امريكي ؟ " ، وان من روى ذلك اكثر من وزير وخبير وشاعر أمثال : طالب شبيب وهاني الفكيكي وإسماعيل العارف ومحمد حديد ومظفر النواب وزكي خيري وغيرهم ، وهم ليسوا بمجرد صحفيين او اشخاص عاديين يمكننا ان نشكك في اقوالهم .. لم يزل هناك البعض ممن يصرّ إصرارا لا معنى له على تبرئة علي صالح السعدي من مقولته .. ولنفترض انه لم يقل ذلك ، فلقد كشفنا مؤخرا عن معلومات من وثائق أميركية تؤكد صلة الانقلابيين بالمخابرات المركزية الأميركية .. واذا كان العراقيون قد لفقوا هذه على السعدي ، فكيف يستمر مثل هذا العناد عند البعض حتى الان ، وهم لا يريدون قول كلمة حق في شيطان جائر ؟ ان هؤلاء ليس باستطاعتهم قراءة النصوص والوثائق ، كما انهم غير قادرين على تمييز من قصدهم السعدي - رحمه الله - ، اذ هو لم يقصد نفسه ولا احد من رفاقه البعثيين الحقيقيين ، ولكن قصد من ساهم في الحدث وكانت له علاقاته بالمخابرات ، وخصوصا من العسكريين .. وفي تصريحات لمسؤول مثل علي صالح السعدي عام 1965 انشرها اليوم مع تحليلاتي لها ، تكاد تكون تصريحاته تعرية حقيقية على لسانه لقادة تلك المرحلة .. ويسرني ان اعيد نشر مقالتي التي نشرتها قبل سنتين بعنوان " هل جاءت عروس الثورات بقطار أميركي ؟ وهي حلقة من حلقات كتابي " رموز واشباح " :
المقال
في الردّ على الأخوة السائلين هل جاءت "عروس الثورات " فعلا بقطار امريكي ؟
أ. د. سيّار الجَميل
28/11/2018
عروس الثورات
أود التوقف قليلا عند ملاحظات بعض القراء الكرام الذين اعترضوا على نص جاء في الحلقة 9 من رموز واشباح المنشورة قبل يومين ، اذ ينكرون ما قاله الراحل علي صالح السعدي احد زعماء البعث واحد قيادات انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ، وكان قد اعتقل قبل الانقلاب بأيام ، ثم اخرجه الانقلابيون في الساعات الاولى ، ليشهد مصرع الزعيم قاسم في دار الاذاعة ، وقد نصّب نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية ، وبقي في السلطة حتى حدوث الانشقاق في الحزب ، فأبعد عنه ، ثم أطاح عبد السلام عارف بالبعثيين ، وتولى السيطرة على الحكم في العراق يوم 18 تشرين الثاني / نوفمير 1963 ، وقد سماها البعثيون بـ ” ردة تشرين ” !
وصف علي صالح السعدي ذلك الانقلاب يوم 8 شباط 1963 ضد حكم عبد الكريم قاسم بأنه قد جاء في قطار امريكي ! وسوف اعتمد في جوابي في ادناه على مراجع لم يكتبها شيوعيون عراقيون ، من الذين اتهموا من قبل خصومهم البعثيين ، بأنهم الذين روّجوا هذه “المقولة ” على لسان علي صالح السعدي ، وهو براء منها !! ( كذا ) دعوني اثبت لكم مصداقية ما قاله الرجل ، وهو يصف مجيئ البعثيين الى السلطة عام 1963 بقطار امريكي ! وان هذا ” التوصيف ” لا يستقيم فعلا مع توصيف احمد حسن البكر لها ، كونها : عروس الثورات ! ولا ادري ان كان انقلاب 8 شباط عروس ثورات ، فما الذي يمكننا ان نصف ثورة كرومويل والثورات الفرنسية والامريكية والبلشفية والصينية والايرانية .. الخ ؟
لماذا قال الرجل هذه ” العبارة ” التوصيفية ؟
انها فعلاً ” عبارة ” جاءت على لسان علي صالح السعدي احد زعماء حزب البعث والمشارك في انقلاب 8 شباط ونائب رئيس الوزراء قوله : “اننا جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي” ، ولما غدت محل جدل بين ما يصدّق بها وبين من ينكرها ، وهناك من طالبني بتوثيق ذلك ، فانني اقول انني قد تأكدت تماما من ذلك ، حتى لو انكرها ولده على لسان ابيه .. وقد ثبت عن غيره مصداقية هذه الجدلية سواء قالها ام لا ! وعليه، انني اسأل عن دور العراب الامريكي وليم ليكلاند وعلاقاته ببعض القادة البعثيين من العسكريين والمدنيين في بغداد ، وكان له مكتبه في السفارة الامريكية فيها . وهذا ما أكده طالب شبيب، الذي كان بعثيا ولم يكن شيوعيا ، اذ أشار إلى أن صالح مهدي عماش استمر في لقاء دوري اسبوعي في كل يوم سبت مع مسؤول محطة CIA في السفارة الأمريكية ببغداد ، وكانت تجري لقاءاتهما رسمية… ثم لماذا يقوم جمال عبد الناصر بتحذير العراقيين من وليم ليكلاند علما بأن عبد الناصر نفسه يعرفه معرفة قوية لأنه كان عراب العلاقات بين الضباط الاحرار المصريين والمخابرات الامريكية .
مظفر النواب والحكاية
من جانبه ، يؤكد هاني الفكيكي في كتابه ما سمعه نصا من علي صالح السعدي اذ كرر واعاد نفس العبارة لأكثر من مرة .. ويؤكد ذلك الشاعر مظفر النواب الذي سعى للتعرف به علي صالح السعدي ، ويروي د. علي كريم سعيد لي عندما نشر مذكرات طالب شبيب في جريدة الزمان اللندنية قبل عشرين سنة ان السعدي قال لمظفر النواب : أنه وبعد دقائق من ثورة رمضان اكتشف أنه وجماعته يسيرون دون إرادتهم بقطار ماكنته أمريكية… وعقب علي كريم سعيد قائلا ان الصحفي يونس الطائي، اخبره بأنه التقى السعدي في القاهرة سنة 1967 بالقاهرة ، مكررا ما كان قد ردده انهم جاؤوا دون قصد بقطار ماكنته أمريكية !!
الفكيكي يوجه الاتهام الى كل من طالب شبيب وصالح مهدي عمّاش
ويؤكد هاني الفكيكي في مذكراته ان قياديين بعثيين اثنين كانت لهما روابطهما باجهزة خارجية .
اولاهما طالب شبيب وكانت علاقته بالمخابرات المصرية وكان عراب الارتباط عبد المجيد فريد الدبلوماسي ورجل المخابرات المصري المعروف وكان يعمل في العراق ويكتب الفكيكي قائلا : ” لاحظت علامات الانزعاج على فريد عبد المجيد الذي لاذ بالصمت، وفتح باباً في الغرفة دخل منه طالب حسين شبيب الذي كان عضواً في القيادة القومية مقيماً في بيروت، ومما كان شائعاً عن طالب الذي درس في لندن أنه نسج علاقات متينة مع الأجهزة المصرية ” .
ثانيهما : صالح مهدي عماش الذي يكتب عنه الفكيكي قائلا : ” ففي أوائل 1962، وهذا ما علمناه في وقتٍ متأخر وبعد نهاية الحكم، كان قد طلب عماش إلى وليم ليكلاند ، معاون الملحق العسكري الأمريكي في بغداد إبلاغ المقدم محمد المهداوي وزملائه الذي كان في دورة تدريبية. تأخير عودتهم من الولايات المتحدة إلى إشعارٍ آخر بسبب اعتقال ضباط الشرطة وكشف تنظيمهم. وفعلاً تم إبلاغ المهداوي بذلك مع تحيات أبو هدى ـ عماش، بعد استدعائه لغرفة آمر المعسكر .
تحذير جمال عبد الناصر
ويستمر الفكيكي بقوله اذ يذكر إن الرئيس جمال عبد الناصر سبق وأن حذر علي صالح السعدي من وليم ليكلاند عام 1963 ( ويبدو ان ذلك قد جرى في اجتماعات الوحدة الثلاثية بين مصر العراق وسوريا ) . ويضيف الفكيكي قائلا عن وليم ليكلاند قائلا ان عبد الناصر قال عنه : ” انه سبق وخدم في القاهرة وأسماه خبير الانقلابات. ولم يفهم علي صالح السعدي آنذاك معنى التحذير. ولم يعلم بعلاقة ليكلاند ببعض البعثيين عسكريين ومدنيين ” .
ما كتبه اسماعيل العارف وزير المعارف
وكتب اسماعيل العارف وزير المعارف على عهد قاسم في مذكراته قائلا : ” وتشاء الصدف أن ألتقي علي صالح السعدي سنة 1964 في مصيف بحمدون في لبنان وكان هارباً من العراق مطارداً من سلطات عارف وكان في حالة مزرية، رث الثياب، بائساً فذكرته بما قلت له عن عبد السلام عارف عندما كان يحاورني أثناء توقيفي، فأجابني قائلاً: لم يكن بيدي كل شيء، ما كنا نعرف ذلك، ولكن الذين كانوا وراءه غلبونا لقد كنا في قطار أمريكي ” ..
ما سجله محمد حديد وزير مالية حكومة قاسم
فضلا عما كتبه الوزير الراحل محمد حديد في مذكراته ذلك ” كان مستشار السفارة السوفيتية في بغداد يزورني في محاولة لإقناعي بجدوى تأييد البعث باعتباره أنه مناوئ للاستعمار، وكنت أرد عليه أن حزب البعث ومجيئه إلى السلطة سنة 1963 وللمرة الثانية سنة 1968 كان بتآمر مع المخابرات الأمريكية، حتى أن أحد قادتهم وهو علي صالح السعدي أعترف بأنهم جاؤوا بقطار أمريكي !!
ما كتبه زكي خيري
ويشير زكي خيري في مذكراته إلى ذلك الإنذار الأمريكي الذي وجه الى عبد الكريم قاسم ـ وكان بمثابة الضوء الأخضر لانقلاب 8 شباط 1963 . وكان على صالح السعدي نائب احمد حسن البكر قد صّرح بعد أن استيقظ ضميره ” قد ركبنا قطاراً أمريكياً ” ! وجراء عبارته هذه استدعاه البكر بعد انقلاب 1968 ، وأمر بجلده في مقر رئاسة الجمهورية بحضور الرئيس البكر نفسه ونائبه صدام حسين .. وفي آخر مقابلة صحفية مطولة في جريدة النهار العربي والدولي مع علي صالح السعدي قبل وفاته بأسابيع جاء فيها ذكر القطار الأمريكي الملعون الذي سار على سكة الإبادة.
ماذا أكدّ طالب شبيب في مذكراته ايضا ؟
لقد أكد طالب شبيب هذه الواقعة وهي بعنوان “أمريكي ينقل كلمة سر حزبية” !! ان هاني الفكيكي، يشير أيضا أنه بعد استيلائهم على السلطة في 8-9 شباط 1963 قد اعلمه طالب شبيب قائلا : ” أن احمد حسن البكر كان قد استدعى جميل صبري مدير الأمن العام آنذاك ، وكلفه بحضور صالح مهدي عماش استقبال وليم ليكلاند، مساعد الملحق العسكري بدلاً من عماش الذي كان يتصل به كل يوم سبت” . معنى ذلك ان احمد حسن البكر كان على علم بهذه الخبايا والاسرار ..
8 شباط/ فبراير 1963 : أمهر العمليات الصعبة في تاريخ الشرق الاوسط
ويكتب سعيد خليل أبو الريش 1935- 2012 في كتابه ” صدام حسين: سياسات الانتقام، بلومسبري، نيو يورك، 1999 ” . عن دور المخابرات الامريكية ـ C. I. A عن حركة 8 شباط 1963 ، بأن الخطة كانت تحت اشراف وليم ليكلاند في مقرة بالسفارة الامريكية ببغداد ، وعدت العملية واحدة من امهر العمليات الصعبة في التاريخ المعاصر للشرق الاوسط ضمن خفايا الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والغربي .
انشقاقات البعثيين
عندما نتدارس تاريخ اي حزب ايديولوجي ، نقف في بنيته على انقسامات وانشقاقات وانشطارات ، بل قد تصل الى طور الصراعات ، والانشقاقات موجودة في تاريخ الشيوعيين العراقيين ، كما انها موجودة لدى البعثيين العراقيين .. ولكن ما يعجب له المرء ان يبقى اغلب الحزبيين في اي حزب سنوات طوال يعملون سياسيا في اطار حزبهم ، وهم لا يعرفون اسرار قادتهم ، ولا ارتباطات زعمائهم ومسؤوليهم سواء كانوا في اجهزة الحكم ام لا . وان سمعوا اية معلومات لا توافق امزجتهم ، فهم ينكرونها ولا يصدّقون بها مهما بلغت مصداقيتها ، او ما يعزز وجودها تاريخيا ..
يبدو لي ان كل القادة البعثيين الاوائل الذين تسلموا السلطة عام 1963 كانوا ينقسمون الى جناحين اثنين ، جناح متشدد لا علاقة له بالاجهزة الخارجية ، وجناح مخترق له روابطه بجهات خارجية .. أو ان الجناحين كانا في خندق واحد ويعرفان كلّ الحقائق ، وبعد الانشقاقات السياسية والايديولوجية التي حدثت اكثر من مرة في البنية الفكرية للحزب ، اخذ كلّ جناح يتهم الاخر بشتى الاتهامات القاطعة . وما دامت هذه ” التهمة ” قد تأكدت من مصادر اخرى اجنبية وعربية قبل ان يستلمها الشيوعيون العراقيون ، وهم كما نعلم من أّلد خصوم البعثيين ، فقد روجّوا ذلك في ادبياتهم كجزء من الصراع الايديولوجي المحتدم في العراق ابان النصف الثاني من القرن العشرين .. وقد نجح الجناح الثاني في اقصاء الجناح الاول ، وحتى الجناح الثاني قد انشطر على نفسه لعدة مرات بين يسار ويمين ، او بين موالين وبين متآمرين .. وساد الاقوى في السلطة حتى العام 2003 .
ماذا اقول للعراقيين المعاصرين ؟
واخيرا ، أتمنى مخلصا على كل الاخوة والاصدقاء العراقيين مهما كانت اتجاهاتهم السياسية والايديولوجية سواء كانوا من الشيوعيين واليساريين عموما او من البعثيين والقوميين عموما .. ان يؤمنوا جميعا بنسبية الامور ويكفوا عن المطلقات ، وان يعتبروا ما مرّ على العراق والعراقيين في القرن العشرين قد اصبح في عداد التاريخ ، وان يقولوا كلمتهم الفاصلة بتحكيم العقل والمنطق بعيدا عن العواطف والميول .. وبعيدا عن تقديس وتأليه مسؤولين وشخصيات وزعماء وحكام كانت لهم ادوارهم ورحلوا .. وكانت لهم حسناتهم وسيئاتهم ومضوا ، وسوف لن يعودوا ابدا ، فالماضي قد رحل مع أهله ولن يرجع ابدا .. وانا ارى كيف ينظر الناس هذا اليوم الى ماضيهم في هذا العالم ، وخصوصا في فرنسا والمانيا وبريطانيا وروسيا واسبانيا وتركيا .. الخ من الامم التي زخرت تواريخها الحديثة بالاحداث المثقلة ، والثورات الحقيقية .. وبالابطال والشخوص المؤثرة .. علينا ان نتعلم من شعوب الارض وثقافات مجتمعات اخرى ، ونستفيد من تجاربهم اليوم ورؤيتهم للماضي ونظرتهم نحو المستقبل .
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل يوم 28 نوفمبر / تشرين الثاني 2018
818 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع