التقرير النهائي حول سوء تعامل القوات البريطانية الغازية مع العراقيين.. برأ المعتدين واغلق الباب امام اي شكاوى قادمة

                                                    

                         د. سعد ناجي جواد*

التقرير النهائي حول سوء تعامل القوات البريطانية الغازية مع العراقيين.. برأ المعتدين واغلق الباب امام اي شكاوى قادمة

صدر في بريطانيا قبل يومين التقرير الخاص بالتحقيقات حول سوء تصرف القوات البريطانية في العراق اثناء وبعد الاحتلال (Iraq Abuse Inquires). وكالعادة جاء التقرير ليس فقط مخيبا للامال من ناحية اعلانه انه لم يؤشر اي انتهاكات تستوجب المحاكمة والاحالة للقضاء، وانما من الطريقة اللا مبالية التي تعامل بها مع الضحايا العراقيين الذي قتلوا او شوهوا او اصيبوا بعاهات مستديمة جراء تصرفات القوات البريطانية الغازية عام 2003 وما تلاها. والاكثر ايلاما في هذا الحدث هي الكلمات التي انهى فيها وزير الدفاع البريطاني السيد (بن والاس) رسالته الى البرلمان التي عرض فيها هذا التقرير السيء حين قال “ان الغالبية العظمى من أكثر من 140.000 فرد من قواتنا المسلحة خدموا في العراق قاموا بذلك بشكل مشرف…عانى الكثيرون منهم للأسف من إصابات أو وفيات ، مع عواقب وخيمة عليهم وعلى أسرهم”. اما معاناة العراقيين فلقد سوفها وزير الدفاع في عدة فقرات. فمثلا قال في عرضه: إن تحقيقات اللجنة القانونية التابعة للشرطة قيّمت 1291 ادعاءً منذ يوليو (تموز) 2017 لكنها الآن “أغلقت أبوابها رسميًا”، واضاف انه : على الرغم من متابعة 178 ادعاءً رسميا من خلال 55 تحقيقا ، لم تتم مقاضاة أي جندي نتيجة لتلك التحقيقات. علما بانه تمت إحالة خمسة أشخاص إلى النيابة الخدمية في عام 2019 ، لكن لم يتم توجيه أي تهم”. ثم ذكر ان الحكومات البريطانية دفعت عشرين مليون جنيه استرليني تعويضات لعراقيين في السابق (وكانه اراد ان يقول ان ما دُفِع هو مبلغ كاف)، وان خمسة افراد من القوات البريطانية ادينوا باحكام مختلفة (لم يقل انها كانت مخففة ولا تنسجم مع الجرائم التي ارتكبوها). ومع اعترافه بوقوع انتهاكات عديدة، الا انه اعتبر ان اغلبها لم يكن موثقا وكتحصيل حاصل لا يمكن اصدار احكاما بشانها.

وهذه ليست المرة الاولى التي تغلق فيها الادارة البريطانية تحقيقات في هكذا حوادث، متناسية معاناة الضحايا وعوائلهم. في عام 2014 تم اغلاق التحقيق في القضية الشهيرة التي عرفت ب (لجنة السويدي) التي شكلت بعد ان اثيرت دعاوى على القوات البريطانية في البصرة لانها قامت بقتل عدد من العراقيين اثر مواجهة مسلحة مع القوات البريطانية في تلك المحافظة، وبالاضافة الى القتلى الذي وقعوا اثناء المواجهة قامت القوات البريطانية باسر مجموعة اخرى (تسعة اشخاص تراوحت اعمارهم بين 17-20 عاما) ليتم تسليم جثثهم (المشوهة) بعد ذلك الى ذويهم، الذين ظلوا يوكدون ان ابنائهم اسروا احياء وتم قتلوا في معسكر القوات البريطانية (من بينهم الفتى حامد السويدي الذي سميت اللجنة باسمه). كما نُشِرَت صور تظهر جنود بريطانيين يقفون ويجلسون وراء بعض الجثث لمدنيين عراقيين مطروحة على الارض. وليس فقط ان اللجنة لم تتهم اي جندي بريطاني في تلك الحادثة، ولكنها اثنت على اداء القوات البريطانية المشاركة فيها. وفي عام 2017 اغلق رئيس الوزراء ديفيد كاميرون التحقيق بدون توجيه اي تهم. ولم تكتف الحكومات البريطانية بذلك، بل انها زادت بان قامت باغلاق مكتب المحاماة البريطاني الذي كان يقيم هذه الدعاوى ويدافع عن حقوق العراقيين الذين تعرضوا للاذى او القتل، متهمة اياه بانه يثير قضايا لا يوجد لها سند قانوني او اية اثباتات تؤيدها، من اجل الدعاية لنفسه. (علما ان هذه التحقيقات كلفت حوالي 35 مليون جنيه استرليني).
هذا الطريفة، التي لايمكن ان توصف الا بانها مستهينة بحياة العراقيين الامنيين، والذين تم غزو بلادهم من قبل قوات اجنبية وبدون اي مبرر قانوني او اخلاقي او اي تفويض من الامم المتحدة او بطلب من الشعب العراقي.
من ناحية اخرى فان هذه الاستهانة بحياة العراقيين لا تنسجم مع الطريقة التي ظلت فيها الحكومة البريطانية تلاحق فيها عراقيين في قضايا اتهمتهم فيها بقتل جنود بريطانيين. بكلمة اخرى ان قتل العراقيين كان بالنسبة لها مبرر وشرعي ولا يجب ان يخضع للمساءلة القانونية على اساس انه يتعارض مع مبادىء حقوق الانسان، اما ان يُقتَل جندي معتدي غازي وفي البلد الذي تم غزوه ومن ابناء ذلك البلد المدافعين عن الارض والعرض فهذا بالعرف البريطاني والامريكي جريمة لا يمكن ان تمر دون عقاب.
وهذا الكلام لا اطلقه جزافا، وانما يوجد من الوقائع ما يؤكده، واحدى هذه الوقائع حدثت معي شخصيا. ففي عام 2008، طلب مني مكتب محاماة بريطاني معروف ان اتبرع بمساعدتهم في قضية اقامتها الحكومة البريطانية ضد شخصين (من اصل اربعة اشخاص) عراقيين من مدينة البصرة، تطالب فيها الحكومة العراقية بتسليمهم للمحاكم البريطانية لمحاكمتهم في بريطانيا. والتهمة التي وجهت الى هولاء كانت (المساهمة في قتل جنود بريطانيين). اما حقيقة القضية فهي ان اثنين من هولاء العراقيين، والذين لم يكونا طرفا في المعركة التي جرت، اتهموا بانهم (لم يقوموا باسعاف جنود بريطانيين جرحوا في المعركة)، والذين تركتهم القوة البريطانية الغازية بعد ان فشلت في اقتحام المدينة. (تم اعتقال هولاء الاشخاص بدون تحقيق او محاكمة من اغسطس/اب 2003 الى 2008 وفي زنزانات انفرادية حديدية في المعسكرات البريطانية في البصرة). اثبت الوثائق التي قدمها المتهمان الرئيسيان انهما لا علاقة لهما بوفاة الجنديين، وان واحدا منهم على الاقل قام بنقل واحد او اثنين من الجنود المصابين البريطانيين الى المستشفى بسيارة (بيك آب) خاصة به. ويبدو انهما فارقا الحياة لشدة اصابتهما. الا ان هذا الدفع اثار ضده ومن كان معه مسالة اخرى هي (ان طريقة النقل لم تكن انسانية)، لانهم نقلوهم بسيارة نقل، وانه (لم يكن هناك اي احترام لآدمية الجرحى)! وتصدى مكتب المحاماة البريطاني تبرعا لهذا الطلب، وتم تقديم تقرير شافي افشل محاولة جلب العراقيين للمحاكمة في بريطانيا، او حتى محاكمتهم لان الحادثة وقعت في وقت حرب. الا ان المضحك المبكي ان الحكومة العراقية انذاك احالت هولاء العراقيين الى محكمة عراقية حاكمتهم وادانتهم على هذا التصرف (اللانساني والاجرامي) بدلا من ان تدين الغزو والاحتلال، وتكرمهم لانهم دافعوا عن ارضهم. وتم نقل هذه المحاكمة على الهواء.
وفعلت القوات الامريكية نفس الشيء في قضية مشابهة تم فيها اسر مجموعة من المجندين الاميركان اثناء الغزو، وقامت الحكومة العراقية انذاك باظهارهم على شاشة التلفاز لتثبت انها اسرت مجموعة من الغزاة. واقامت الولايات المتحدة واعلامها الدنيا ولم تقعدها على اساس ان هذا العرض يمثل اهانة لآدمية هولاء الاسرى ويتعارض مع مبادئ حقوق الانسان، الا ان التبجح بقتل العراقيين واظهار جثثهم ملقاة على الارض محاطة بجنود اميركان او بريطانيين مدججين بالسلاح، او اظهارهم مكبلي اليدين من الخلف ورؤوسهم مغطاة باكياس بلاستيكية فان هذه الافعال (ومعها ما كان يجري في السجون والمعسكرات التي تديرها القوات الغازية وبشاعة ما ارتكب في سجن ابو غريب) لا تمثل اية اهانة لآدمية هؤلاء الاشخاص المدافعين عن وطنهم، او اي خرق لمبادىء ومواثيق حقوق الانسان.
هذه الطرق التي تتصرف بها الدول التي شاركت في غزو العراق وتدميره، وعلى راسها الولايات المتحدة وبريطانيا، ربما نجحت في الكثير من الاحيان في تبرئة القتلة ونفت المسوولية عن مجرمين ساهموا بقتل وتعذيب العراقيين والاعتداء عليهم، و ربما تكون قد تمكنت (لحد الان) من طمس كمية هائلة من الحقائق، الا انها لا يمكن ان تستمر الى ما لا نهاية، وذلك لسبب بسيط ان جرائم الحرب هذه والتي تصنف جرائم ضد الانسانية لا تسقط بالتقادم، ولا بد وان ياتي اليوم الذي تصل فيه حكومة عراقية تقوم بإقامة دعاوى ضد العدوان ومن شارك فيه، ولا بد ان ينتج عنها ادانة من المجتمع الدولي للجريمة التي ارتكبت ضد العراق في عام 2003، بل وكل ما احدثه العدوان والاحتلال من كوارث، ولا بد ان ياتي اليوم الذي ستضطر فيه الولايات المتحدة وبريطانيا على تقديم الاعتذار للشعب العراقي على عدوانهم الوحشي وعلى الجرائم التي ارتكبتها قواتهم وكل من تعاون معهم، وعلى دفع التعويضات للعراق على ما فعلوه ومهما طال الزمن،
*كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3222 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع