د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
مستشار قانوني وأمني
أوقفوا التعذيب.. وحاسبوا المسؤول وانصفوا الضحايا
أعادت قضية الشاب في محافظة بابل الذي اعترف نتيجة التعذيب الذي تعرض له اثناء التحقيق معه في قسم مكافحة الاجرام بأنه ارتكب جريمة قتل زوجته، وتبين انها لم تقتل وانها على قيد الحياة.. قضية اثارت استهجان الراي العام، واعادت موضوع التعذيب في مراحل التحقيق الى الواجهة، رغم انه انتهاك خطير للعدالة ولحقوق الانسان وتضليل لاجهزة العدالة التي لا نبرأها من المسؤولية في تفاقم هذه الممارسات اللاإنسانية. ومن المؤسف ان وسيلة اعلامية تناولت عرض القضية ومحضر كشف الدلالة للمتهم رغم ان القضية ما زالت في طور التحقيق.
وبالرغم من اني من اشد مستنكري ومناهضي ممارسة التعذيب في التحقيقات وانتزاع الاعتراف بالاكراه.. وافتخر بأنَّ لي تاريخ ايجابي مُعارض لهذه الممارسات البشعة والمقيتة .. اتذكر عام ١٩٩٣ اصبحت مديراً لشرطة محافظة بغداد - الرصافة وكان اول قرار اتخذته هو منع التعذيب الذي كان منتشرا ومألوفاُ في المراكز ومكاتب المكافحة واللجان التحقيقية، وأمرت برفع جميع معدات التعذيب من غرف التحقيق، فاعترض عليَّ بعضهم بأنَّ نشاط كشف الجرائم سوف ينخفض، وهذا ليس من مصلحة المديرية تجاه الوزارة وليس في مصلحتك!!، فقلت لهم (تباً لكل كشف زائف كاذب يأتي بانتزاع الاعتراف بالتعذيب).. فأنا شخصيا ممكن ((اعترف)) انني قتلت فلاناً... تحت وطأة تعذيب وحشي لا يتحمله بشر !؟ وغادرت المنصب بعد ستة اشهر وعدت لموقعي مديرا للبحث والتطوير في الشرطة العامة!.
أنا أعرف أن ممارسة التعذيب لها تاريخ طويل وموجودة في جميع انحاء العالم المتقدم والمتخلف على حد سواء، وهناك نماذج عندي في ارشيف مشروع كتابي عن التعذيب لقضايا عراقية وعربية ودولية حُكم فيها على متهمين أبرياء وصلت في بعضها الى الاعدام أو المؤبد.. وتبين فيما بعد انهم ابرياء بعد ان يتم اكتشاف ان غيرهم من قام بالفعل!! كما ان منظمة العفو الدولية اقرت ان هناك 150 دولة يمارس فيها التعذيب للسجناء الجنائيين والسياسيين.
ومن الجدير بالذكر ان التعذيب يمارس في الاجهزة الامنية لغرضين:
الاول هو انتزاع اعتراف من المتهمين بارتكاب جرائم لا صلة لهم بها، كما تمارسه اجهزة امنية ومخابراتية قمعية بغرض الانتقام والقهر والتنكيل بالخصوم والمعارضين...
ليس دفاعا عن الشرطة!!
رغم اني ضابط شرطة سابق فانا لا ادافع عن رجال الشرطة الذين توارثوا هذا الفعل القبيح من زمن طويل بتشجيع وسكوت ورضا من ذوي الأمر، ولكني اليوم استغرب الحملة الاعلامية التي يشنها قضاة ومحامون ضد الشرطة وتحميلها لوحدها مسؤولية أفعال التعذيب!!! متناسين دور القضاء (سواء قضاة التحقيق او قضاة الجزاء) في تمرير قضايا واعترافات مشوبة بالتعذيب وما كان لرجال الشرطة ان يستمرأوا هذا الفعل لولا القضاء الذي ينصاع لهم ويصدر الاحكام والقرارات دون ان يدقق أو ينتبه لاثار التعذيب على المتهم المدان باعتراف انتزع بالتعذيب وفي كثير من الاحيان يتجرأ المتهم المعترف فيخبر المحكمة ان الاعتراف انتزع منه بالتعذيب لكن المحكمة تتجاوز ذلك وتصدر قرارها بناء على اوراق الشرطة.. وهاهي اليوم المعتقلات والسجون مليئة بالالاف ممن حكم عليهم بالاعدام وبغيره عن جرائم اعترفوا بارتكابها تحت وطأة التعذيب...
ان مسؤولية تفاقم التعذيب وانتشاره لا تتحملها الشرطة وحدها بل يتحملها معهم القضاء ويتحملها المحامون. التعذيب جريمة ضد القانون وضد الانسانية وضد الشرع الحنيف، ومن مساوئه الكبرى انه يؤدي الى ادانة بريء وبنفس الوقت يؤدي الى افلات مجرم حقيقي من العقاب الذي يستحقه...
امنعوا الاعلام من تناول قضايا ما زالت في التحقيق؟
كما اني اطالب بمنع وسائل الاعلام وبالاخص الفضائيات من تناول او عرض قضايا جرائم ما زالت في طور التحقيق ولم تصدر بها احكام قضائية باتة لان هذا مخالف للقانون، وكذلك هو يربك عملية التحقيق. وللاسف بعض المدراء والضباط ومسؤولي المحافظات يستعجلون هذا الامر ظانين خطأ انه سوف يسجل لهم كأنجاز باهر يستحقون عنه التكريم أو أنه سوف يطمئن المواطنين!!.
ان بيانات وزارة العدل والمجلس الاعلى للقضاء ونقابة المحامين ومنظمات حقوق الانسان لا تعفي القضاة والمحاكم من مسؤوليتهم عن موضوع تفشي التعذيب في دوائر التحقيق، التي يفترض انها تعمل تحت مسؤولية واشراف وقرار القضاء، وتحديدا قضاء التحقيق الذي ينفرد بامتلاك السلطة التحقيقية لتدوين اقوال المتهم ومناقشته ومناقشة الادلة التي يقدمها المحقق في الاوراق التحقيقية والتي تثبت صلة المتهم بالجريمة موضوع البحث، كما ان من اولى مهام قاضي التحقيق ان يميز الادلة المنتزعة من المتهم خلال التحقيق من اقوال واعترافات ومبرزات جرمية وهل انها اخذت بشكل قانوني ام باستخدام العنف والتعذيب. كما ان محامو الكثير من المتهمين اكدوا ان اعترافات موكليهم المدانين قضائيا انتزعت من قبل المحققين بالتعذيب والقسوة والارغام.. وهناك المئات من المتهمين الأبرياء الذين صدرت عليهم ادانات في جرائم لم يرتكبوها نتيجة التعذيب في مكاتب التحقيق دون ان يقوم القضاء بتحري صدق الاعترافات.
(التعذيب) جريمة من الجرائم الكبرى ضد الانسانية وجريمة لا تسقط بالتقادم وبالرغم من أن العراق قد إنضم لهذه الإتفاقية ونصّ دستوره على (حرمة) التعذيب، إلا أننا شهدنا ومانزال نشهد في أروقة التحقيق كيف أن إعترافات غير صحيحة تنتزع بواسطة الإكراه والتعذيب من أبرياء أدت إلى تدليس القضاء وخداعه بأدلة زائفة، ومن ثم صدرت أحكام قاسية (كثير منها الإعدام) عن جرائم لم يرتكبها من وقع عليهم القصاص.. فالتعذيب فضلا عن كونه ممارسة لاقانونية ولا إنسانية وغير شرعية، فإنه يؤدي إلى إفلات الفاعلين الحقيقيين وتماديهم في جرائمهم، ولدينا أمثلة على أناس أبرياء صدرت بحقهم أحكام الإعدام نتيجة إنتزاع إعترافات غيرصحيحة عن طريق التعذيب..
إن إستشراء فنون التعذيب في مقار الحجز في وطننا العربي على مثل هذا النطاق الواسع ليست كما توصف بأنها (تجاوزات فردية) أو تعدي صلاحيات!! بل باتت (عملاً مُمنهجاً) تقع مسؤوليته على عاتق (زبانية التعذيب) ورؤسائهم، الذين يحمونهم وبالتالي لايمكن أن تُبَرّأ الرؤوس عما يجري في على يد تابعيهم! ..
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع