علي المسعود
فيلم (ملكة الصحراء) : يكشف جانب من حياة (مسز بيل ) الخاتون"صانعة الملوك"
لعبت المستكشفة "غيرترود بيل" دوراً عظيماً في رسم خارطة الشرق الأوسط كما نراه اليوم ، ونالت إنجازاتها إعجابا غير مسبوق بالنظر لمكانة المرأة في ذلك الزمن ، وكان لمسز بيلّ تأثير هائل عند إعادة رسم خارطة المنطقة بعد سقوط الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى وباعتبارها "سكرتيرة الشرق لبريطانيا"، و ساهمت في وضع حدود العراق، كذالك كتبت دستوره، وضغطت بقوة لمساندة الأمير فيصل الذي تدعمه بريطانيا لينصّب أول ملك على ذلك البلد الجديد . "جيرترود بيل " ولدت في 14يوليو 1868 - 12 يوليو 1926 ، هي سليلة أسرة أرستقراطية ثرية، كانت من ألمع الطلبة في جامعة أوكسفورد . إحتفل بها في قاعة الليدي مارغريت عام 1886 كأول إمرأة تنال أعلى درجة في الصف الأول في التاريخ الحديث، باحثة ومستكشفة وعالمة آثار بريطانية إشتغلت بالكشوف الجغرافية والتنقيب عن الآثار والدراسات الديموجرافية. لها العديد من المؤلفات المرجعية عن آثار وسكان وقبائل بلاد العرب والشام والرافدين وشرق الأردن . طورت خرائط هذه المناطق وقعت عليها المعالم ودققت المسافات والأبعاد . رحلت إلى القدس حيث تعلمت العربية ، وتعلمت الفارسية وزارت إيران فى عام 1892 حيث كان عمها سفيرا فيها. ونشرت رحلتها في كتاب (صور فارسية) في 1897 كتبت عن سوريا ثم تعلمت التنقيب عن الآثار كما ترجمت أشعار حافظ إبراهيم. التقطها المكتب العربى بإدارة المخابرات لجيوش الحلفاء بالقاهرة فى بدايات الحرب العالمية الأولى، وكلفها بمهمة محددة هى تجميع وتوحيد القبائل والإمارات المستقلة المتناثرة والمتنازعة فى كيانات سياسية كبيرة ، جاءت إلى العراق عام 1914 وقد شاركت بالتنسيق مع زعماء القبائل والعشائر والقيادات المحلية بتصفية الحاميات التركية من بلاد الرافدين والكويت . وقامت برحلة إلى الجزيرة العربية عام 1916، أمضت منها عدة أسابيع بمنطقة حائل ضيفة على عبد العزيز بن سعود أمير نجد حينذاك وقضت هذه الأسابيع فى لقاءات عمل دؤوبة تجمعها بأبن سعود ومستشاره جون فليبى رجل المخابرات البريطانية، واضعين أمامهم الخرائط والبيانات والمعلومات التى تمكنوا من جمعها وتدقيقها وتحليلها ، ليضعوا استرتيجيات وخطط بناء الدولة السعودية، وتقدير الاحتياجات المطلوبة لتنفيذها من أسلحة وتدريب وأموال . عملت مستشارة للمندوب السامي البريطاني فى بغداد السير بيرسي كوكس في العشرينيات من القرن الماضي . ولعبت دورا بالغ الأهمية في ترتيب أوضاعه بعد الحرب العالمية الأولى، فقد كانت بسعة علاقاتها ومعارفها وخبراتها بالعراق أهم عون للمندوب السامي البريطاني في هندسة مستقبل العراق . وكانت المس بيل تدون مدوناتها السياسية التاريخية في 1920 في 16 مجلدا عن الإدارة في العراق آنذاك . وما يقرب من 1600 رسالة بعثتها لأبويها وهي معروضة الآن على شبكة الإنترنيت في مكتبة جامعة نيوكاسل البريطانية . كانت هي وتوماس إدوارد لورنس المعروف ب (لورنس العرب) أصحاب إقتراح قيام مجلس تأسيسي للدولة العراقية بهدف تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق ، بل وعملت كمستشارة له . كان لها الفضل في تأسيس المتحف العراقي وظل المتحف حافظاً لأهم الآثار التي وجدتها والآثار العراقية البابلية القديمة والمخطوطات والتحف حتى عام 2003 ، كانت ذات شخصية مؤثرة شاركت مجالس سيدات مجتمع ذلك الوقت وكانت تنتقد أسلوب التحدث الجماعي للنسوة . كانت ذات شخصية استثنائية وجعلت منها الصحافة آنذاك أسطورة زمانها إذ كانت تدور بين شيوخ القبائل آنذاك دون أن تنسى انوثتها الإنكليزية وصيتها في بغداد حيث كانت تقيم المآدب الدبلوماسية بين جنان النخيل وماء الدجلة. كما كانت معروفة على المستوى الشعبي وهناك قصة لها مع أحد قطاع الطرق(ابن عبدكه) قاطع الطريق الذي إشتهر في مناطق شمال بغداد عند بداية القرن العشرين، وحدث أن إستولى على القطار الصاعد من بغداد وإلتقى فيه ب "مس بيل" المسؤولة الإنكليزيه المعروفة، التي كانت تستقل القطار، وحين عرفها أكرمها وعاملها بحفاوه، فتوسطت له وأسقطت عنه الملاحقات القانونية وقامت بتوظيفه في الدولة. يعتبرها بعض المحدثين جاسوسة وهي في الواقع موظفة بريطانية خدمت بلدها بريطانيا بكل جد وإخلاص . تعددت مهماتها وصورها والالقاب التي نالتها ، فهي أميرة الصحراء المجهولة، والجنرال في الجيش البريطاني، وعاشقة الآثار، و“الملكة غير المتوجة” على العراق ، و"الخاتون". كانت بيل تتحدث عدة لغات بطلاقة كالفارسية والعربية والفرنسية والألمانية لدرجة أنها ترجمت ديوان الشاعر حافظ الشيرازي عن الأصل الفارسي مع مقدمة عن حياته وأعماله ، وإضافة إلى أنها عالمة موهوبة، وقامت بتأليف عدة كتب في أدب الرحلات ورسم الخرائط والإثنوغرافيا (وهو علم يتناول الدراسة الوصفية لطريقة وأسلوب الحياة لشعب أو مجتمع ما). وكانت على رأس لجنة مكتبة السلام التي تحولت إلى المكتبة الوطنية للعراق. هذا بجانب علاقاتها بالموزاييك العراقي، وفي ليالي الأحد تقيم الحفلات ألاجتماعية تدير منها خريطة العلاقات ومن أجل أن تكسر بها وحدتها . رحلتها الأخيرة كانت في يوم 11 يوليو 1926 . فاستلقت على مقعدها المحبب بجوار غزالتها اللطيفة وتناولت في هدوء جرعات كبيرة من الحبوب المنومة، ولم تر شمس بغداد مرة ثانية ، وجدتها خادمتها الارمنية ماري خامدة الانفاس صباح يوم 12 تموز/ يوليو 1926 ، بسبب تناولها جرعة زائدة من الدواء ، ولا يعرف احداً هل قصدت الانتحار ام لا؟ . شيع جثمانها فى جنازة مهيبة شارك فيها الملك فيصل الأول والساسة وكبار رجال الدولة العراقيين والسفراء الأجانب ودفنت في مقبرة الإنكليز في باب المعظم وسط بغداد . فقد قررت البقاء هناك إلى الأبد وظلت أسطورتها تشاغل الناس وتحكي لهم فصلاً مهمًا من فصول هندسة العراق الحديث على يد خاتون قوية ومثيرة للجدل .
المخرج الألماني "فيرنز هيرتزوغ " أطل علينا في عام 2014 ، وبعد غياب تام عن السينما الروائية بفيلمه الطويل (ملكة الصحراء) وهو من نوعية أفلام السيرة الذاتية التي كتبتها المستكشفة و المستشرقة البريطانية غيرترود بيل، والتي جسدتها ببراعة النجمة الهوليودية والممثلة الأسترالية "نيكول كيدمان" ، و"جيمس فرانكو" في دور هنري كادوجان ، وداميان لويس في دور تشارلز دوتي ويلي ، و"روبرت باتينسون" كعالم آثار والجاسوس " تي إي لورانس "المعروف ب (لورنس العرب) أما سيناريو الفيلم فهو من تأليف المخرج . فيلم السيرة الذاتية والدراما التاريخية (كوين أوف ذا ديزرت) أو (ملكة الصحراء) الذي ترشح لجائزة (الدب الذهبي) في مهرجان "برلين السينمائي الدولي" عام 2015 الدورة الخامسة والستين في عرضه العالمي الأول . تناول المخرج فيرنر هيرزوغ في فيلمه جانب من حياة(مسزبيل) وفضل تناول الجانب الرومانسي على تناول الجانب التاريخي أو السياسي و لم يهتم فيلم "ملكة الصحراء" بالتأثيرات التي خلّفتها إنجازات "بيلّ"، ولا بتداعيات التاريخ أو بالسياسة في تلك المرحلة . افتتح المخرج "فيرنز هيرتزوغ " فيلمه بمشهد لصحراء تهب عليها الرياح وقافلة من الجمل تسير ، ثم نرى بعض البريطانيين ومن بينهم الشاب توماس إدوارد لورنس يدور في إحدى الحجرات الرسمية أو المقار العسكرية في القاهرة عام 1914 ونرى فيه وينستون تشيرشل ومَنْ معه من القيادات يُقسِّمون المنطقة العربية على الخريطة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية ، ينصحهم لورانس العرب باستشارة جيرترود بيل لأنها الأكثر دراية بالمنطقة وجغرافيتها. وعلى الرغم من المخرج اختار ان يفتتح فيلمه باجتماع شهير حضره ونستون تشرشل وزير المستعمرات أنذاك (أدى دوره الممثل كريستوفر فلفورد) لتقاسم النفوذ في مناطق الامبراطورية العثمانية (الرجل المريض) بعد الحرب العالمية الاولى، ألا انه يعود بنا المخرج فيرنر هيرزوغ اثني عشر عاماً كي يتتبع حياة المرأة جيرترود بيل ، ويعود بنا المخرج الى عام 1898 ، حين كانت "بيل" الفتاة العشرينية لا تزال في لندن وبعد أن أتمت دراسة التاريخ في جامعة أكسفورد ، تقضي وقتها في الحفلات ، وممارسة الهوايات غير المألوفة للفتيات في زمنها ، بدت بيل في فيلم هيرزوغ فتاة أرستقراطية إنجليزية ورومانتيكية تعشق المغامرة والسفر وذكية تخرجت من اكسفورد بمرتبة شرف تقنع والدها بإرسالها في رحلة إلى طهران ، حيث يقيم قريب العائلة الدبلوماسي السير فرانك لاسلز وزوجته وهناك تقع في حب دبلوماسي شاب يدعى هنري كادوغان (الممثل جيمس فرانكو) يعلمها الفارسية ويشتركان في حب الشعر، ويقرران إعلان خطوبتهما لكنهما يواجهان معارضة والديها اللذين ينصحانها بالتريث لسمعة كادوغان كمقامر مثقل بالديون، وأثناء عودتها إلى بريطانيا لإقناع والديها الرافضين لزواجها من كادوغان . ينتحر كادوغان بعد رفض زواجه من بيل . فتظل مخلصة لحبها هذا وتلقب نفسها بالأرملة وتحاول العودة إلى الشرق وخوض رحلات في الصحراء بعد تلك التجربة ، ثم تتعرف على كابتن في الجيش البريطاني يدعى تشارلز دوتي- وايلي (الممثل داميان لويس) ، وتخوض تجربة حب جديدة معه ، لكنه كان متزوجا وعندما يفاتحها بتطليق زوجته والزواج منها ترفض أن تكون سعادتها على حساب تعاسة امرأة أخرى وتدمير عائلتها وتهرب من هذا الحب في رحلة جديدة تقرر فيها استكشاف صحراء الجزيرة العربية وتغرق نفسها في رمالها كي تنسى همومها . وفي رحلة محفوفة بالمخاطر بسبب الصراع بين القبائل المتنافسة ، ينتهي أمرها باحتجازها لدى قبائل شمر حائل حتى عودة أميرها الذي كان غائبا في رحلة . في منتصف ديسمبر (كانون الأول)عام 1913 وطأت قدما (ميس بيل) دمشق للمرة الأولى قبيل الحرب العالمية الأولى. قبل أن تنطلق برحلتها الطويلة نسبيًا، من (دمشق إلى حائل) بوصفها باحثة آثار في قافلة مكونة من 17 بعيرًا، كانت مهمتها في البداية تقييم مدى قوة (عائلة الرشيد) وهي العائلة الحاكمة لمدينة حائل تم اعتراض قافلة بيل ، وانتهى الأمر بوضعها تحت الإقامة الجبرية من قبل عائلة (الرشيد) وأمير حائل ولمدة وصلت إلى 11 يومًا . لكن مهمتها آنذاك لم تنته عند هذا الحد ، ومن خلال أحاديث السمر مع النساء نجحت بيل في استخلاص المعلومات الاستخباراتية حول عائلة الرشيد و قبل أن تطلق العائلة سراحها وسط جو من التوتر والقتال بين أتباعه وأتباع أمير نجد عبد العزيز آل سعود ، وهنا يشير الفيلم الى إدراك مس بيل لنفوذ ابن سعود المتزايد في الجزيرة العربية واضمحلال نفوذ منافسيه . وفي نهاية الفيلم، نلتقي (غيرترود بيل) بشخصيتين جديدتين هما فيصل وأخوه عبد الله من شيوخ العائلة الهاشمية اللذين تم تنصيبهما من قبل البريطانيين ليصبحا حاكمين للعراق وما يعرف الآن بالآردن . ويطلقان الحاكمان الجديدان تزلفاعلى مس بيلّ " أم المؤمنين " ، بينما تقوم هي بترتيب الأمور لهما ليقوما بدورهما في الحكم . ومع تترات نهاية الفيلم تعرض الأسماء فوق رمال متحركة . فيلم هيرزوغ لا يقدم تعليقا عما يجري سياسيا على الإطلاق فالمغامرة الاستعمارية بمجملها ليست إلا خلفية نابضة بالحيوية لحقبة مليئة بعاطفة مأساوية لقصتي حب فاجعتين في حياة "بيل"، من المؤكد أن المشاهد لفيلم المخرج الالماني سيُقارن برائعة المخرج البريطاني الراحل السير" ديفيد لين" عام 1962، فيلم "لورنس العرب". فهذا الأخير يصوّر بعضاً من تلك الشخصيات ويجسّد بشكل درامي لحظات تاريخية مماثلة. إنها مقارنة يدعوك إليها فيلم "ملكة الصحراء" منذ لقطاته الأولى بتصوير سينمائي شامل لمناظر الصحراء . لذا أعتبر البعض فيلم " ملكة الصحراء" هو النسخة النسائية من من فيلم (لورانس العرب). عند تناوله قصة حياة جيرترود بيل الرحالة البريطانية، الكاتبة ، عالمة الآثار، المستكشفة، رسامة الخرائط والملحق السياسي للإمبراطورية البريطانية في أوائل القرن العشرين . فيلم " فيرنز هيرتزوغ " يروي سيرة حقيقية، إذ يكشف لنا عن شخصية محورية غير معروفة للغالبية العظمى، لعبت دورا لا يقل أهمية عن دور لورنس العرب في رسم حدود المنطقة العربية بعد انتهاء وسقوط الإمبراطورية العثمانية . لكن الدور الذي لعبته غيرترود بيل) كان إيجابيا مقارنة بدور لورنس العرب . البطلة كانت مصورة فوتوغرافية وباحثة ورحالة، وأيضا كاتبة، فضلت ترك الحياة الارستقراطية الناعمة ، والعيش في كنف الصحراء واستكشاف عوالمها الغامضة ومخالطة أهلها وأناسها وتعلم لغتهم والتحدث بها ، ثم البقاء والعيش بينهم في سلام روحي والمصالحة مع البيئة الغريبة عن ثقافتها وبعيدا عن ضوضاء الحياة المعاصرة في بلدها المتحضر. وفي سبيل تحقيق ذلك لاقت غيرترود بيل الكثير من المعاناة والملاحقة ، سواء من جانب أهلها أو سفارات بلادها، أو مضايقات الجيش التركي لها، وكذلك ارتياب القبائل وشيوخها المتشككين في كل من هو غريب وأجنبي، ثم لا ننسى مطاردة قطاع الطرق ولصوص الصحراء لهذه المستكشفة الجميلة. وليس انتهاء بمصاعب ومشاق حياة الصحراء القاسية، خاصة أنها امرأة اجنبية ووحيدة من دون زوج وحبيب . يمكن اعتبار فيلم (ملكة الصحراء) من دون شك نسخة معاصرة مقابلة لفيلم (لورنس العرب) لكن المخرج عمل على تغليب ما هو إنساني مغلف بقصة حب وصراع وتحد وبقاء . وقد عمل المخرج لاغفال السنوات العشر الأخيرة في حياة بيل وتحديدا عملها في العراق ودورها في صناعة سياسة هذا البلد وحدوده واختيار ملكه ، وهي في الواقع كانت تلك السنوات الأغنى والأكثر اهمية في حياة مس بيل وتطور شخصيتها ، كما تمتلك غنى دراميا عاليا يبلغ ذروته مع موتها التراجيدي بعد تناولها جرعة كبيرة من الحبوب المنومة في عام 1926، الذي لم يظهره الفيلم . وعلى العكس مما قاله المخرج "فيرنز هيرتزوغ " في مؤتمره الصحفي إنه (اهمل "التعقيدات السياسية" لمصلحة تجسيد غنى "حياتها الداخلية) ، ولكن واقع الحال أنه لم يسبر أغوار عالم هذه الشخصية المعقدة الغني وانتهى إلى تقديم صورة مبتسرة ومسطحة لعاشقة رومانسية تداري خيباتها العاطفية برحلات الى الصحراء كي تبتعد فيها عن ذكرياتها المؤلمة. لقد ترك هذا السيناريو المرتبك أثارة في مختلف الجوانب الأخرى والعناصر الفنية المختلفة للفيلم، فنجد ممثلة مُجتهدة مثل "نيكول كيدمان" وهي تحاول في اداء الشخصية في حدود المشاهد المرسومة لها، بين الفتاة الحالمة والمرأة القوية حادة الذكاء والمغامرة ، قدمت كيدمان أداءً ذكيًا نموذجيًا مثل بيل ، حيث تظهرها على أنها امرأة قوية الإرادة ترفض قبول المواقف الأبوية التقليدية ، سواء تلك التي صادفتها في غرف الاجتماعات لرسم السياسة الإنجليزية أو في الخيام البدوية. لديها جمال وشخصية يجلبان الاحترام على الفور. في الوقت نفسه ، هي دائمًا فريسة لمشاعرها. بدت الشخصيات السياسة مفرغة من تأثيرها الأساسي بل وأقرب إلى الشخصيات الكاريكاتيرية، كما هي الحال مع شخصية لورانس التي جسدها روبرت باتنسون . وإذا استثنينا شخصية فتوح مرافق مس بيل ودليلها في كل رحلاتها التي أداها بنجاح الممثل السوري الاصل جهاد عبدو، في حين بدت الشخصيات العربية الأخرى التي ظهرت في الفيلم شاحبة الحضور وغير متقنة الأداء كما هي الحال مع صور الأميرين - فيصل وعبد الله - أو أمير حائل وعلى الرغم من حرص المخرج على تجنب تقديم صورة نمطية مشوهة للشخصية العربية اعتدنا ان نراها في الكثير من أفلام هوليود التي تظهر فيها شخصيات عربية وحرص على تقديمها من منظور إيجابي استنادا إلى منظور مس بيل نفسها ، هناك بعض اللقطات الجميلة للمناظر الطبيعية الصحراوية ، والكثير من مشاهد سير القوافل من الجمال في الصحراء العربية ، و بعض اللقطات الخلابة للغاية للريف البريطاني . وبقي ظل تحفة ديفيد لين "لورانس العرب"مهيمنا على العديد من العناصر التعبيرية والفنية الاخرى في الفيلم كما هي الحال مع الموسيقى التصويرية التي قام بتأليفها "كلاوس باديلت" ترسمت كثيرا خطى موسيقى "موريس جار" في فيلم (لورنس العرب) في محاولة استثمار وايقاعات وعناصر موسيقية محلية لكنه وقع في خلط كبير في التعامل مع موسيقى المنطقة ككل واحد ، فنجده يستخدم صوت غناء ينتمي الى الغناء الايراني في مشاهد الصحراء مع وجود كلمات عربية فيه ، ربما بدا مثل هذا الاستخدام مبررا في مشاهد طهران لكنه لا يتناسب مع ايقاعات الصحراء العربية المختلفة . ولدى مشاهدة فيلم “ملكة الصحراء” يخرج معظم المشاهدين بانطباع أنهم اطلعوا على حياة صانعة الملوك "غيرترود مارغريت لوثيان بيل" ، ومع ذلك، فإن هذه النسخة النسائية من لورنس العرب، التي لعبت دورها الممثلة نيكول كيدمان لا يمكن أن تضاهي أبداً بطولة بيتر أوتول في فيلم “لورنس العرب“. ومقارنة بالقصة الحقيقية لحياة بيل وما أنجزته في الشرق الأوسط بفضل مهاراتها اللغوية والسياسية لخدمة مصالح الإمبراطورية البريطانية . ملكة الصحراء" من أفلام الدراما والسيرة الذاتية ومن إنتاج أميركي ـ مغربي مشترك وصدر في عام 2014 ، صور الفيلم في لندن والمغرب ومدينة البتراء التي تقع في محافظة معان جنوب الأردن. يتميز الفيلم ببراعة التصوير على يد المصور النمساوي "بيتر زيتلنجر " الذي يبرز جمال الصحراء التي تتحول إلى شخصية رئيسية من شخصيات الفيلم ، مدير التصوير النمساوي بيتر زيتلنغر، الذي يعتمد عليه هرتزوغ في تصوير أفلامه منذ فيلمه “موت لخمسة أصوات” عام (1995) ، الذي أبدع في تصوير مشاهد الصحراء و بأقرب محاكاة لأسلوب تصوير المصور"فريدي يونغ " في فيلم "لورنس العرب” بتكويناته الجمالية المميزة و أسلوبه المتناغم مع طبيعة كل مشهد ، مع مزيج من الموسيقى العربية والكلاسيكية التي كتبها "كلاوس بادلت " . عرض هذا الفيلم في أربعة مهرجانات سينمائية أخرى هي مهرجانات معهد الأفلام الأميركي والمهرجان السينمائي البريطاني ومهرجان سينديز المقدوني ومهرجان بلغراد السينمائي. اشترك في هذا الفيلم عدد كبير من الممثلين والفنيين المغاربة الذين شملوا 50 ممثلا و1500 من ممثلي الكومبارس و65 فنيا . الفكرة الأساسية في فيلم “ملكة الصحراء” هي تجسيد قوة تلك المرأة الأسطورية التي فاقت الرجال، الأمر الذي أدّى إلى تفريغ الفيلم من أيّة فرصة للاهتمام بالإطار التاريخي السياسي الذي تدور فيه الأحداث. كما بدا أن ولع "جيرترود بيل" بالبدو العرب لا ينعكس، بقدر مماثل، في الإيمان بحق العرب في الحصول على استقلالهم بعد الحرب الأولى، بل إنها تجيب عن سؤال بشأن سبب حبها للبدو فتقول: إن أكثر ما يشدّها إليهم “حريتهم”. في إشارة إلى حياتهم المفتوحة في الصحراء الواسعة. ولكن هل هم أحرار فعلا؟ . ظهور شخصية لورانس العرب التي جسدها روبرت باتنسون في عِدّة لقطات بالفيلم، حيث التقى غير مرّة بجيرترود، من دون الهالة التي نُسِجَتْ حوله وحول شخصيته. بالعكس نراه هنا شخصاً عادياً، بل شديد العادية ومهزوز ويثير السخرية ،ولا يتورّع عن إطلاق النِكات والمزاح ومغازلة جيرترود. والظهور في الصحراء بين الحين والآخر على نحو غير لافت مثيراً السخرية والضحك عند ظهوره بزيه العربي، لاسيما وان الكثيرين يتذكرون الاداء المميز للممثل القدير" بيتر أوتول" لهذه الشخصية في "لورانس العرب". ومع تتابع أحداث فيلم «ملكة الصحراء» يعترضك السؤال المشروع ، هل أراد مخرجه ومؤلفة فيرنر هيرزوغ " رد الاعتبار" إلى المستكشفة (غيرترود بيل) التي لعبت دوراً عظيماً في رسم خارطة الشرق الأوسط كما نراه اليوم؟، فرغم أن الفيلم تناول جانب السيرة الذاتية وفي الخلفية الجانب التاريخي السياسي ، إلا أن العمل بشكل عام جاء باهتاً وتابعاً لقصص حب هشه وغير معمره ، لم يستطيع المخرج أن يقارب الغنى والتعقيد الكبيرين الذين ميزا شخصية مثل مس بيل، الرحالة والمستكشفة والآثارية والمستشرقة المهتمة بدراسة اللغات والتاريخ القديم والمختصة بشؤون العشائر العربية والمستشارة للمعتمد السامي البريطاني في العراق، والتي كان العراقيون يلقبونها بـ "الخاتون" لحجم تأثيرها في سياسة بلدهم، ويلقبها البعض بصانعة الملوك، بل سماها البعض مماحكا بـ "أم المؤمنين"، كما كتبت في احدى رسائلها إلى والدها . ويضاف الى ذلك غنى الحقبة التاريخية التي عاشت فيها وساهمت في صنع خياراتها في عالم قديم يتقوض ونشوء عالم جديد وتوزيع جديد للنفوذ في العالم بين القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى . الا انه لم ينشغل بتعقيدات السياسة وجعل هذه الاحداث مجرد خلفية لمغامرة بطلته في الصحراء أو قصص حبها الفاشلة . و قال المخرج" فيرنر هيرزوغ "على هامش العرض الأول لفيلم "ملكة الصحراء" في مهرجان برلين السينمائي ان الفيلم يتضمن " إن غيرترود بيل امرأة عاشت حياة معقدة جدا وجميلة جدا، وقصتي حب مأساويتين". وأضاف "هيرزوغ " في المؤتمر الصحفي الذي اعقب عرض الفيلم "ينبغي أن ينظر الى الفيلم كقصة وليس درسا في التاريخ يناقش الحدود في الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الاولى". ومن الجدير بالذكر أن الدور الإقليمي الذي قامت به جيرترود بيل في المنطقة العربية يفوق كثيرا دور توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) ، من حيث دورها في التقسيم الجغرافي الدائم للمنطقة وعمق العلاقات مع الزعماء العرب والقبائل العربية والتأثير الثقافي وطول الفترة الزمنية التي عاشتها في المنطقة. ويعود تفوق سمعة لورنس على جيرترود بيل إلى التقارير الصحفية المثيرة للصحفي الأميركي لويل توماس الذي قام بتغطية تحركات لورنس في المنطقة على مدى عدة سنوات والتي جلبت للورنس شهرة واسعة في الإعلام الأميركي والغربي بشكل عام، وذلك إلى جانب الفيلم الشهير (لورنس العرب) في عام (1962) الذي جلب للورنس العرب المزيد من الشهرة أيضاً. هناك بعض اللقطات الجميلة للمناظر الطبيعية الصحراوية ، والكثير من مشاهد سير القوافل من الجمال في الصحراء العربية ، و بعض اللقطات الخلابة للغاية للريف البريطاني .
في الختام : لعبت المستكشفة جيرترود بيل دورًا كبيرًا في تشكيل الشرق الأوسط اليوم - لكن فيلم المخرج الالماني " فيرنر هيرزوغ " فضل الخوض في عن حياتها الرومانسية على تاريخها السياسي ، كان لبيل نفوذ هائل عندما أعيد رسم خريطة المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. وبصفتها وزيرة الشرق لبريطانيا ، قامت بوضع حدود العراق وكتبت دستوره وضغطت بشدة من أجل تنصيب رجلها الأمير فيصل كأول ملك جديد للبلاد . لقد كانت شخصية غير عادية وإنجازاتها مثيرة للإعجاب بشكل مضاعف بالنظر إلى مكانة المرأة في ذلك الوقت . شخصية جيرترود بيل أثارت روائيًّا مثل الراحل عبد الرحمن منيف، فاستلهمها في صورة بطلة من أبطال ثلاثيته "أرض السواد" .
2968 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع