الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
العراقيون والچاي.. الجزء الثاني
قصص طريفة عن الچاي:
• شاه إيران و مدحت باشا:
في العام 1870 زار العراق شاه إيران (ناصر الدين شاه) لزيارة العتبات المقدسة وذلك أيام الوالي العثماني مدحت باشا (1822-1884م)، وكانت اقامته في القصر الذي شُيد له خصيصا في حدائق المجيدية في باب المُعظم (مدينة الطب الحالية). وقد أقام الشاه حفلة للوالي وحاشيته، وكان مع الوفد المرافق للشاه الإيراني معدات الچاي، وكانت تلك أول مرة يشرب فيها مدحت باشا ووجهاء بغداد الچاي.
ورغم دخول الچاي إلى العراق زمن الوالي مدحت باشا كما في الوثائق الجمركية، إلا انه لم يأخذ مداه في أوساط المجتمع العراقي إلا بعد دخول القوات البريطانية، حيث شجع الإنكليز المواطنين على شرب الچاي.
ويروى أن أحد سكان كرادة مريم في بغداد اُهدى إليه كمية من الچاي من قبل أحد الهنود العاملين ضمن القوات البريطانية، فقام بتقديمه إلى بقرته ظناً منه أنه علف حيواني!
• ملك دولة سيام في ضيافة الملك فيصل الثاني:
في سنة 1957 قام ملك دولة سيام (تايلند حاليا) بزيارة بريطانيا تلبية لدعوة رسمية مصطحبا معه ولده وزوجته الحسناء والذين كانا يرومان قضاء شهر العسل في لندن. وخلال الزيارة حدثت مشكلة كادت أن تنسف العلاقات بين بريطانيا ودولة سيام، فقرر الأمير العودة فورا مع والده الملك وعروسه وحاشيته تحاشيا من تفاقم الازمة.
اقلعت طائرة ملك سيام من مطار لندن باتجاه مملكته، وهبطت في مطار بغداد المدني ( مطار المثنى حاليا ) بعد طيران دام سبعة ساعات من أجل التزود بالوقود وإجراءات السلامة والصيانة الفنية للطائرة.
نزل ملك سيام ومن معه إلى صالة الاستراحة وكانوا في غاية الغضب والامتعاض بسبب المشكلة التي حدثت في لندن، واستقبلهم مدير تشريفات جلالة الملك فيصل الثاني وقام بالتشريفات اللازمة. وتم تقديم وجبة طعام خفيفة وبعدها قُدم الچاي العراقي المهيل من قبل (أبو صباح) ذو الخمسين عاما والذي كان يدير كافتيريا المطار هو وأولاده الثلاثة.
لاحظ الجميع ان علامات الغضب قد اختفت من على وجه ملك سيام بعد ارتشافه الچاي العراقي، كما أن علامات الانفراج والرضا كانت بادية على محياه، فطلب الملك المزيد من استكانات الچاي له وللوفد المرافق.
ثم قام الملك باستدعاء (أبو صباح) صاحب الكافيتريا من أجل معرفة أسرار نكهة وطعم ذلك الچاي العراقي الأصيل، وبعد سيل من كلمات الثناء والإعجاب طلب الملك شخصيا من أبو صباح تعليم الوفد المرافق له طريقة عمل الچاي العراقي الذي يفوق جميع نكهات الچاي في مختلف دول العالم!
فقام (أبو صباح) بشرح طريقة تخدير الچاي على الطريقة العراقية بواسطة السماور، الامر الذي يعطيه النكهة المميزة والمنبعثة من جمرات الفحم. ثم قام الملك بإصدار أوامره بتغير طريقة إعداد الچاي في القصر الملكي السيامي إلى الطريقة العراقية، وقد لعب الچاي العراقي دورا في تهدئة الأوضاع بين سيام و بريطانيا.
• الباشا نوري سعيد والچاي:
في منتصف ليلة من ليالي شتاء عام 1957 م خرج رئيس وزراء العراق نوري السعيد باشا بمعية سائقه، ومرَّ في شارع غازي (شارع الكفاح حاليا) وتوقف عند مقهى صغير لبيع الچاي، كان المكان مكتظا ًبالزبائن رغم تأخر الوقت، وكان جلهم من المخمورين.
أراد صاحب المقهى أن يهتف مهللا بقدوم الباشا كعادة أكثر العراقيين عندما يرون مسؤولا كبيرا في الدولة، لكن وبإشارة من يد الباشا سكت صاحب المقهى؛ وقدَّم الچاي إلى الباشا وسائقه بهدوء وحذر.
ثم أخذ صاحب المقهى يهمس مرحبا بالباشا، فطلب الباشا منه أن يسكت لئلا يثير حفيظة المخمورين. فأنتبه أحد المخمورين ونظر إلى الباشا باستغراب وترنح أمامه وسأل الباشا:
أنت نوري سعيد؟!
فنهض سائق الباشا وقال له: أستريح أغاتي .. أنت متوهم.
فقال المخمور: أبشرفي أنت تشبهه!!
ثم قام المخمور مرة أخرى وقد بدت عليه علامات الغضب فقال بصوت
عالي انتبه له كل المخمورين:
لا لا لا أنتَ نوري سعيد باشا القندرة
ونظر إلى السائق وقال له:
وأنتَ صالح جبر قيطانه… أتفو عليكم.. وبصق بوجههم.
أراد صاحب المقهى أن يضرب المخمور الذي أساء الأدب وكذلك السائق، ولكن نوري السعيد منعهم من ذلك، وبكل هدوء مدَّ يده في جيبه وأخرج مبلغ 3 دنانير وأعطاها إلى المخمور الذي أساء الأدب، وغادر المقهى وركب سيارته.
وفي السيارة قال السائق للباشا بحنق وغضب شديدين متذمرا: جناب الباشا ليش مخليتني أأدب هذا الأدب سز اللي تطاول على سيادتك؟؟
فقال له الباشا وبهدوء: أبني هذا سكران وما عليه حرج… لو انته ضربته وجرجرناه للتوقيف راح يسألوه: لك اشسويت؟؟
راح ايكول: تفلت بوجه رئيس الوزراء.. ويصير هو بطل، وآني أنفضح. بس هسه راح ايروح ايهوس.. بالطرف ويصيح…تفلت على رئيس الوزراء وأنطاني ثلاث دنانير… راح ايصيحوله: جذاب… سكير…أبو العرك …. وفعلا هذا ما حدث!!
• دهاء الباشا نوري السعيد:
يروي الدكتور طالب مخلص ( حفيد مولود باشا): أبدأ مشاركتي بقصة حقيقيه عن الباشا نوري السعيد، والقصة عن لسان المرحوم مولود مخلص (1885-1951م) في جلسه عائلية في دار السيد نعمان الكبيسي حضرتها شخصيا.
يقول إنه التقى بالسيد توفيق السويدي في بيروت وحكى له أنه عندما كان وزيرا للخارجية في حكومة نوري السعيد بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الاوضاع الاقتصادية العالمية منهارة تماما.
وفي العراق كان التضخم المالي في أوجه إذ بلغ سعر كيلو السُكَّر آنذاك دينارين؛ علما أن راتب خريج الكلية الموظف كان أحد عشر دينارا فقط.
استدعى نوري السعيد وزير الخارجية توفيق السويدي، وكانت روسيا قد افتتحت قنصليتها حديثا في بغداد، وطلب منه الاتصال بالملحقية السوفيتية وسؤالهم عن إمكانية إرسال سُكَّر إلى العراق وكم السعر وكم من الوقت ليصل. فأجابه توفيق السويدي: ولماذا لا نطلب من السفارة البريطانية أن تُكلم الكويتيين ليرسلوا فهم أقرب.
فأجابه نوري السعيد: كلمتهم فاعتذر الطرفان لأنه غير متوفر فائض لديهم. يقول السويدي: فقلتُ: ولماذا أكلم الروس بالهاتف؟ أزورهم وأهنأهم بافتتاح القنصلية يكون أكيس، ولكن الباشا أصر على الاتصال بهم بالهاتف.
فقام السويدي واتصل بالقنصل الروسي الذي فرح بالطلب وترجاه أن يمهله نصف ساعه ليتصل بروسيا. وفعلا بعد أقل من نصف ساعه اتصل القنصل وأخبر السويدي بأنهم على استعداد لإرسال سُكَّر بسعر 300 فلس للكيلو وخلال أسبوع.
ففرح السويدي لهذه الاخبار وتوجه فورا ليخبر الباشا ولكنه لم يجده، فقال سأراه في حفلة الملحقية العسكري البريطانية مساء واخبره لانهما الاثنان مدعوان لها. وفي المساء ذهب السويدي إلى الحفلة فاستقبله الملحق العسكري الإنكليزي وعاتبه وقال له نحن زعلانين عليك، ولم يفهم السويدي سبب زعلهم.
ثم أخذ يبحث عن الباشا نوري السعيد ليبلغه بالأخبار الجيدة عن السُكَّر الروسي، ولكن الباشا كان يتحرك هنا وهناك ولم تسنح الفرصة له ليتحدث معه.
غادر الباشا إلى داره في نهاية الحفلة فلحقه السويدي ودخل معه إلى داره وهو يقول له: ألا تريد ان تعرف جواب السوفييت عن السُكَّر؟ فقال له الباشا: أي سُكَّر وأي سوفييت؟ أنا تعمدت أن أطلب منك الاتصال بالسفارة الروسية هاتفيا لأني أعلم أن الاستخبارات البريطانية تتجسس على مكالماتنا، ولذلك ما أن اتصل بك الروس وأبلغوك عن السُكَّر وسعره حتى اتصل بي القنصل البريطاني بعد عشر دقائق وابلغني أن السُكَّر سيصل غدا مجانا وهو هدية من الكويت!!
الچاي في الغناء العربي والعراقي:
لقد ظهرت العديد من الأغاني في العالم العربي والتي تتغنى بالچاي، منها أغنية طروب (يا صبابين الچاي)، والتي غنتها أيضا (الين خلف) و (صفاء سلطان).
ومن شدة عشق العراقيين للچاي فقد نسجوا عليه القصص والحكايات والقصائد واللوحات الفنية. كما خصصوا له الأغاني؛ وأشهرها أغنية (خدري الجاي خدري) والتي تُعد واحدة من أيقونات التراث العراقي الجميل وتحكي قصة وفاء فتاة لمحبوبها.
لقد صاغ كلمات أغنية (خدري الچاي خدري) الشاعر العراقي محمد حداد، وقد تعرضت كلماتها إلى تغيرات مع مرور الزمن، وغنتها المطربات سليمة مراد وزكية جورج وانطوانيت اسكندر (شقيقة عفيفة اسكندر)، ثم غنتها حديثا سيدة المقام العراقي (فريدة محمد علي) وقد أضافت إليها مقاطع شعبية جميلة من واقع المجتمع العراقي.
تحكي هذه الأغنية قصة صديقة تزور صديقتها وتراها على غير عادتها من المرح والمَسرَّة، فتبادرها (على غير العادة) بطلب الجاي- وتقول لها: (خدري الجاي... خدري)؛ فتجيب المضيفة مستاءة وهي تقول لها: (عيوني... إلمن أخدره)؟
إلا أن (الصديقة) لا بد وأن تجد العذر لصاحبتها وتسألها وهي تواسيها: (مالج يا بعد الروح؟ دومج مكدرة؟)، أي ما بكِ ولماذا أنتِ متكدرة ولستِ على طبيعتكِ الصافية؟ فيتبين أن السبب هو غياب (المحبوب)!
ويستمر الحوار الجميل بين الفتاتين حتى يصل الحال بالفتاة أن تقسم بأنها ستخالف الجميع ولن تجلس لتحضير الچاي إلا أن يعود المحبوب المولعة بجماله:
(أحلف ما أخدره... ولا اكعــــد اكبالــــه
الا يجي المحـبـوب... واتهنه بجماله)
وتضيف أنه لو كان لي سلطة الحكم والدين لأحرمنَّ صناعة وشرب الچاي على الجميع بغياب حبيبي (الولف)، وكذلك لن أقرب لا الچاي ولا مكوناته:
(وبشرعي لحرم الچاي... والولف غايب
(عــــــــــن الشكر والچاي... چایز وتايب)
كذلك أنها بعد المحبوب لن تشرب الچاي براحة، وستترك (باسة القند) وستكسر إناء تحضير الچاي (القوري) إمعاناً في التصريح عن أساها لمفارقة محبوبها:
(عكبه ما أشرب الچاي... لا والله بتهنى
والزم باسة القند... والقوري أكسره)
https://www.youtube.com/watch?v=SC-KHIo59i8
1166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع