هيفاء زنگنة
هل هناك ١١ ألف محكوم بالاعدام في العراق؟
«كان نفس الروتين، كل يوم يعلقونني ويضربونني. هناك أشياء فعلوها بي هناك أشعر بالخجل من التحدث عنها، ولكن هناك شيئا واحدا يمكنني أن أخبرك به هو أنهم جعلوني أجلس على قنينة زجاجية مرتين». هذا بعض ماجاء في المقابلة رقم 106. ويخبرنا المعتقل في المقابلة رقم 107 «لقد قيدوا يدي وراء ظهري وعلقوا الأصفاد بخطاف في سلسلة متدلية من السقف. لم يطرحوا على أية أسئلة، فقط استمروا بالصراخ لأعترف».
في غياهب المعتقلات العراقية، أجريت مقابلات مع 235 محتجزا، تم تضمينها في تقرير «حقوق الإنسان في تطبيق العدالة في العراق: الشروط القانونية والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة» الذي أعدّته بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق (يونامي) ومفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، الصادر في 3 آب/ أغسطس. ويغطي التقرير من 1 تموز/يوليو 2019 إلى 30 نيسان/أبريل 2020.
«التعذيب حقيقة واقعية في جميع أنحاء العراق» أُسْتُهل التقرير بهذه الجملة الصارخة في إدانتها للممارسات اللاإنسانية في أماكن الاحتجاز التي لا تقتصر على وزارتي العدل والداخلية بل، أيضا، وزارة الدفاع، وجهاز مكافحة الارهاب، وقيادة عمليات بغداد، وجهاز الأمن الوطني، وجهاز المخابرات الوطني، وقوات الحشد الشعبي، بالاضافة الى أماكن اعتقال أخرى لم يعرف المحتجزون مكانها. ويحيط الغموض أعداد المحتجزين، فباستثناء وزارتي العدل التي افادت بوجود 39518 محتجزا عام 2020. من بينهم 2115 إمرأة و11 ألفا و595 مدانا محكوما عليهم بالإعدام، بضمنهم 25 امرأة، و24853 في منشآت تحت سلطة وزارة الداخلية، لم يتم التحقق من أعداد المحتجزين في المعتقلات الأخرى، مما يشير إلى أن الأعداد أكبر بكثير. كما لا تشمل الأرقام إقليم كردستان.
من بين أشكال التعذيب التي يذكرها التقرير: الضرب المبرح، والصعق بالصدمات الكهربائية، والتعليق من السقف، والتعرض للعنف الجنسي، لاسيما الصدمات الكهربائية على اعضائهم التناسلية وحشر العصي والقناني الزجاجية في فتحة الشرج. ولاحظت البعثة أن الكثير من الاشخاص الذين تمت مقابلتهم تحدثوا عن «أشياء فعلوها بي هناك أشعر بالخجل من التحدث عنها». ولم يُضمن التقرير اوضاع السجون كفقر الخدمات، والاكتظاظ. فقد تلقت البعثة معلومات عن وفاة 62 معتقلا في «سجن الحوت» بالناصرية، جنوب العراق، و355 حالة وفاة في مرافق تابعة لوزارة العدل. يؤكد التقرير قبول التعذيب وسوء المعاملة مقبولا رسميا كوسيلة لانتزاع «اعتراف». وهي سياسة منهجية تمارس على نطاق واسع حيث قدم أكثر من نصف المحتجزين الذين قابلتهم البعثة، روايات موثوقة وذات مصداقية عن تعرضهم للتعذيب.
وللمتظاهرين السلميين حصتهم في سوء المعاملة والتعذيب. حيث وثّق التقرير شهادات 38 معتقلا بعد اختطافهم. كان من بين ما تعرضوا له « الصدمات الكهربائية، الضرب الشديد، والتعليق من السقف، والتهديد بالقتل، والعنف الجنسي ضدهم وضد عوائلهم، والتبول عليهم وتصويرهم عراة». ويخلص التقرير الى» أن روايات الضحايا لا تترك مجالا للشك في أن التعذيب وسوء المعاملة متفشيان في جميع أنحاء البلاد على الرغم من أنّ الإطار القانوني العراقي يجرّم صراحةً التعذيب ويحدّد الضمانات الإجرائية لمنعه» في اشارة الى انضمام العراق الى اتفاقية مناهضة التعذيب عام 2011.
ان الاعلان المباشر والصريح بأن التعذيب في العراق حقيقة لم يعد بالامكان السكوت عليها، أمر يُحسب لصالح التقرير. ولعلها من المرات النادرة التي لا يُغلف فيها موظفو الامم المتحدة، تقاريرهم بمفردات مبهمة تتحمل التأويل المتناقض، والشك في الحقيقة، لتفادي التعرض المباشر الى الحكومات القمعية. مفردات على غرار «مزاعم» و«ادعاءات» تقود، في نهاية التقرير، الى خلاصة تُعبر فيها اللجنة عن « القلق» و«الاستنكار». ولعل موظفي الأمم المتحدة تعبوا من القلق والاستنكار أمام الواقع المرير الذي يرونه.
صحيح أن التقرير لم يخلُ من الاشارة الى ان الحكومة أجرت بعض التغييرات القانونية ضد التعذيب الا أن المفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت نبهت الى إن «السلطات في حاجة إلى التنفيذ الفعال للأحكام المكتوبة في القانون في كل مركز احتجاز. وإلا فإنها تظل حبرا على ورق».
وهذا هو أساس استمرار الممارسات الهمجية المرعبة في لا انسانيتها. ومن بينها وجود 11 ألفا و 585 مدانا محكوما بالإعدام، حسب كتاب صادر من وزارة العدل وموجه الى البعثة. وهو رقم هائل بكل المقاييس، دفعني الى قراءة التقرير عدة مرات وباللغتين العربية والانكليزية، لأتأكد من صحته، والعثور على إجابة منطقية لمرور التقرير، بشكل عابر، على هذا العدد الذي يجعل العراق مسلخا بشريا أو نسخة من المحرقة النازية، في ظل نظام «تنتهك فيه اغلب الشروط القانونية الاساسية والضمانات الاجرائية المنصوص عليها في الاطار القانوني العراقي والدولي بشكل منتظم» وحيث «لا يخشى الجناة حقاً عواقب قيامهم بالتعذيب لأنهم يعلمون أن النظام الرسمي لن يعاقبهم» برعاية قضاء مهمته شرعنة الأكاذيب الحكومية.
ما لم يتطرق اليه التقرير، على أهميته، هو حجم الضرر الجسدي والنفسي الذي سيرافق المحتجز المتعرض للتعذيب مدى الحياة أحيانا. فما يهدف اليه الجلاد هو ليس انتزاع الاعتراف بجريمة ما فحسب بل سلبه إنسانية الشخص وكرامته والسيطرة عليه بشكل يمتد الى الابتزاز الاجتماعي والسياسي. فصور المتظاهر السلمي المختطف عاريا، باسلوب مماثل لسياسة التعذيب الأمريكية في أبو غريب، أداة فاعلة للتخويف والتهديد ومنع المتظاهر، وآخرين، من المشاركة في اي نشاط كان مستقبلا. من هنا تنبع ضرورة فضح هذه الاساليب بكل الطرق الممكنة. فالتعذيب فعل اجرامي، والجلاد هو الذي يجب ان يشعر بالعار وليس الضحية. ومن يكشف عن تفاصيل ما يتعرض له «هناك» يستحق الاحترام والتقدير. لأنه يساهم بتوثيق جرائم، نأمل أن تؤدي، مستقبلا، الى محاسبة مرتكبيها ووضع حد لممارستها.
905 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع